المثقف وجاذبية الديكتاتور

نشر في 21-01-2018
آخر تحديث 21-01-2018 | 00:00
 فوزي كريم المثقف والتطلع السياسي، والديكتاتور، والأخلاق، وتطابق الفكرة والعمل... الخ، تدور في محور واحد. تشغل كُتاب الغرب، ويُفترض أن تشغل كُتابنا أيضاً بالمقدار ذاته.

المحور بدأ مع أفلاطون في تطلعه إلى صيغة "الفيلسوف الملك" المثالية، والتي وضعها موضع التطبيق، حين التحق بالملك ديونيسيوس، طمعاً في تحقيق حلمه. لكن السلطة السياسية انقلبت عليه، وكادت تودي بحياته.

الأمر كان مختلفاً مع أرسطو، ودوره التربوي للاسكندر، لأن الفيلسوف تبين تدريجياً أنه يسعى لخلق فرانكشتاين إمبراطوري، هو مزيج من أجزاء مستنيرة فلسفياً، لكن مدفوعة بدماغ بربري مصاب بجنون العظمة.

إلا أن عناية الكُتاب بدأت مع القرن العشرين، قرن الحروب الكبيرة والصغيرة، وصعود اليوتوبيات الأممية والقومية والدينية، التي أثمرت صيغة الديكتاتور في روسيا، إيطاليا، ألمانيا وبلدان العالم الثالث.

كتاب "خيانة المثقف" للمفكر الفرنسي جوليان بيندا كان بمثابة بادرة (راجع كتابي "تهافت الستينيين")، ثم جاء كتاب الشاعر البولندي ميووش "العقل المُعتقل" (راجع كتابي "القلب المفكر")، ليشكل قاعدة انطلاق. بعدهما لم تتوقف كتب التساؤلات الحائرة بشأن هذه الجاذبية بين المثقف والديكتاتور، أو بينه وعقيدة السلطة الشمولية.

وأنا أتصفح المجلات والصحف الثقافية التي تصلني، أو التي أطولها في المكتبة العامة، أقع على عروض للكتب التالية الصادرة حديثاً:

كتاب "المثقف وقرن من عبادة البطل السياسي" لبول هولندر* يستعرض بالتحليل الحلقة الرخوة لدى المثقف إزاء السلطة، من محاباة فولتير لكاترين روسيا، والإيطالي دي أنيوزيو، الحالم بإعادة قوة الإمبراطورية الرومانية، والذي كان النموذج المُحتذى لموسليني، ومواقف سارتر من السلطة السوفياتية، وتشيفارا الذي يرى حلمه المخْلص مبرراً لكل عنف، وهايدﮔر النازي، الذي يرى "الفوهرر وحده هو الحاضر والمستقبل لواقع ألمانيا وقانونها، هو الموقظ لهذه الإرادة في نفوس الناس جميعاً".

كتاب "شعر، سياسة وجنون إزرا ﭘاوند" لدانيل سويفت*، يثير مأزق فصل الكاتب عما يكتب كضرورة، واستحالة ذلك في الوقت ذاته. كان ﭘاوند (الذي التحق بفاشية موسليني)، مادام يمس الأرض والخبرة الحية بقدمين، شاعراً عملاقاً، لكنه ما إن يحلق في الهواء، كراءٍ، ومنظر اجتماعي وفيلسوف، حتى تسكنه الأوهام، من عبادة القوة، والعنصرية. يقول المؤلف إن "ﭘاوند فقد الإيمان بفاعلية القصيدة، فتجاوزها إلى الأفكار".

دار النشر "ﮔاليمار" الفرنسية تثير ردود فعل ضاجة هذه الأيام، بسبب إعلانها إعادة نشر الكتيبات الممنوعة المعادية للسامية للروائي الفرنسي سيلين، المتعاون مع النازية، زمن احتلال فرنسا. وظل الدافع الغريب موضع اجتهادات. كان الروائي سيلين نشر كتيباته بين 37 - 1941، يوم كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. اتهم بالخيانة، وهرب إلى ألمانيا، ثم الدنمارك، ثم عاد إلى فرنسا عام 1951 آمناً.

كتاب "الحكم على برناردشو" لفِنتان أوتول* يثير مسألة مغازلة الاشتراكي الأيرلندي شو لموسليني، هتلر وستالين. المؤلف يحدد المأزق بقوله إن "الرائي الكبير فشل أن يرى الطبيعة الحقيقية للفاشية، النازية والستالينية. أراد أن يعتقد أن الأنظمة الشمولية الثلاثة مجرد طلائع خام لتقدم وديمقراطية حقيقيين قادمين".

هذا الإيمان الساذج بالإنسان المتفوق، تأثراً بنيتشه، لم يكن خصيصة جديدة في عقلية برناردشو. الجديد والمثير للرثاء، هو غياب أي نوع من أنواع البصيرة المتعاطفة مع عذابات الناس المعرضة لسطوة هذه الأنظمة الشمولية.

أربعة كتب تثير المأزق الذي هو ظاهرة القرن العشرين: المثقف وجاذبية البطل السياسي. صحيح أن ظاهرة هذا المثقف العربية عادة ما ترتبط بالارتزاق من أجل المال والجاه، لكنها في الأغلب ذات جذر يوتوبي، إيهامي أيضاً.

إن جاذبية صدام حسين، والخميني، وحتى عبدالناصر، تنتسب لهذا النوع الأخير. إن السلطة الشمولية لهؤلاء، والتفرد بالسلطة المطلقة، والتعامل الدموي مع المختلفين بالرأي أو المعارضين، ليست وراء حجاب. لكن المثقف يسعى دائماً إلى توفير الأعذار والمبررات. هذا إذا لم يفلسف سلطتهم بما يملك من وسائل ذهنية، إيهامية تُمليها الفكرة المقدسة.

*Paul Hollander, Intellectuals and a Century of Political Hero Worship.

*Daniel Swift, The Poetry, Politics and Madness of Ezra Pound.

* Fintan O’Toole, Judging Shaw.

back to top