«المسطر»... رواية تدحرج القسوة سرداً بلغة سينمائية

عمل أدبي يستعرض انكسارات مختلفة عبر تقنية «الفلاش باك»

نشر في 15-01-2018
آخر تحديث 15-01-2018 | 00:00
No Image Caption
يقدم الكاتب كريم الهزاع قراءة نقدية برواية «المسطر» للروائي ناصر الظفيري الصادرة حديثاً عن منشورات ضفاف.
بصوت السارد العليم، يفتتح الروائي ناصر الظفيري روايته بجملة مشحونة بالحسرة على لسان "رومي راضي"، أو "رومي جيمسون" فيما بعد، والتي يعني بها خاله ضيدان: "ملعونة هذه الرمال.. ابتلعت خمسين خالي!"، في مشهد مشوب بالقلق، يأتي الصوت محاذياً لحركة سبابة تنزلق في ثقب الجيب، ربما هي إشارة للسنوات التي ابتلعتها الرمال، وتستخدم السبابة في الإشارة للأشياء، كما تستخدم عند التهديد والتحذير والاحتجاج، كما أن القطعة الفضية، التي سقطت في دائرة من الرمل الملتهب تبدو هي المعادل الموضوعي لثمن ذلك العمر المنهوب. "وما أخذه الرمل يبدو عصيّا على الرمل أن يعيده".

إزاحة سردية

سنوات عقيمة تشبه حالة العقم المصاب بها الخال ذاته، التي ابتلعت الرمال خمسين عاماً من عمره. بفعل الإزاحة السردية، سيفسح السارد العليم لرواة آخرين بأن يُسمعوا أصواتهم للمتلقي من خلال الرواية، إذ سيكون رومي أحدهم، الذي يردد بينه وبين نفسه موجهاً خطابه إلى خاله ضيدان:" سأحولك من رجل نكرة إلى ما تستحق أن تكونه، بطلاً حقيقياً صنع كل ما يمكنه ولن يرحل دون أن يتذكره أحد"... نام وهو يردد: ما أصعب السطر الأول من الكتابة".(ص 195).

يواصل الظفيري سرديته ثلاثية الجهراء، التي ختمها بالمسطر من المكان ذاته عشيش الجهراء، ومن المساكن الشعبية ذات الدور الواحد التي سكنها "البدون" بعد هدم العشيش، وتم تخصيصها للعسكريين فقط، ولا تخلو من تفاصيل حياة الصحراء قبل الانتقال إلى العشيش، تلك السردية، التي تناولها بشكل أو آخر في أعمال سبقت كتابة تلك الثلاثية.

حجرة الذاكرة

في التفاصيل الصغيرة يكمن الشيطان كما يقال، وهذا ما صنعه لنا الظفيري من خلال استعادته للتفاصيل من حجرة الذاكرة عبر تقنية "الفلاش باك"، إذ إنه استطاع وبجدارة تأثيث الرواية من خلال الوصف والحوار، والذي من خلاله دحرج صخرة السرد، وعلى شكل المعاناة كما تناولها كامو في عمله سيزيف.

لقد ذكّرتني رواية المسطر بالروائي الروسي تولستوي، حينما افتتح رواية آنّا كارنينا بالجملة المشهورة:" كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة". وكم هي رائعة تلك الكتب، التي حين قرأتها تعمل للقارئ فيض من التداعيات.

العبارات المفخخة

يأخذنا السارد بطريقة سردية توالدية كزهرة تتفتح أوراقها أو كتقشيرة البصلة بشكل سردي تبئيري وهو ينتقل بنا من حكاية إلى أخرى. إذ نطلب منه كما طلب رومي من كريم:" أكمل! تبدو حكايتك حزينة فعلاً.".إذ ما أن ينتهي كريم من سرد حكايته حتى يبدأ رومي بسرد حكاية خاله ضيدان.

لا يخلو عمل الظفيري المسطر من الترميز، ومن العبارات المفخخة، كما وجدنا ذلك في أعماله السابقة، وهي ليست ببعيدة عن اللغة الخاصة التي تستخدمها والدة رومي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، حينما يسأل رومي والدته:- هل تأكلين معي؟".

فتجيبه:- "لن أخدم أحداً وأنا جائعة".

بلغة سينمائية تنتقل الرواية إلى حدوته أخرى، إذ تبدأ حكاية ضيدان، والتي بدأت من اللحظة، التي ذهب بها رومي ابن أخته للمدرسة وذهابه هو إلى المسطر، وبين طياتها تلك التراجيديا أو بما يشبه المأساة اليونانية حينما يخبر الشيخ المعالج لضيدان شقيقة ضيدان، ضيدان الوحيد:" كان بين خيارين أن يموت وحيداً أو يعيش وحيداً واخترت له الثانية". إذ بسبب عملية الكي أصبح ضيدان عقيماً.

لا تنتهي انكسارات ضيدان عند هذا الحد، إذ بعد ذهابه للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل عام 1967 عاد مكسوراً من الداخل لا يحدث أحداً عن هزيمته، وسيكرر مشاركته في الحرب الثانية بعد أن أمضى مع عروسه شهر سبتمبر ليغادر مع المقاتلين للمشاركة في حرب أكتوبر عام 1973، وأثناء غيابه يموت والده ولم يحضر دفنه أو تشييعه وعزاءه.

الأرواح الخاملة

لم تكن رواية الظفيري تلك المرة رواية رصد المعاناة فقط بل كانت رواية أفكار أيضاً، رواية تبعثر الأسئلة في ثناياها، تدس القلق فيها بشكل أو آخر. رواية استفزازية بكل معنى الكلمة. رواية تستنهض الأرواح والعقول الخاملة. رواية تضع أمامك كل الاحتمالات تحت سقف المصادفة والضرورة، لكنها رواية تطفح بالمرارة تحت ذلك السقف، الذي أشرت إليه، وبالمفارقات، وتشير بالأصبع الكبير لأشكال العنصرية والنبذ والتمييز.

إذا كان كريم أحد أبطال الرواية قد أصيب بطلق ناري في رجله، ناصر الظفيري أصيب بمرض السرطان بالقولون. أن ما أعنيه أن الرواية كُتبت بحرقة. لقد وجدتها رواية حزينة وموجعة بكل معنى الكلمة، لذا يحق لي أن أسميها رواية القسوة.

back to top