سمكة الأكواريوم!

نشر في 11-01-2018
آخر تحديث 11-01-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري في كتابه "حكمة الحب"، يقول آلان فنكييلكرو: لم تعد الفلسفة تستطيع أن تكتفي بتقديم الجواب الديكارتي "أنا كائن مفكّر"، ويبرر فنكييلكرو ذلك بأن الواقع الإنساني لم يعد معرّفاً بالعقل أو الفهم فحسب، بل بالعقدتين الأساس التاليتين: اللقاء مع الآخر، والعلاقة مع الوجود! ويضيف فنكييلكرو أن العالم لا يتجلى لنا في المعرفة، بل في همومنا، وفي مغامراتنا، وحتى في هشاشتنا، إنها تجعل من "الصغيرة" طريق الوصول إلى "الكبير"!

وباعتقادي أن هاتين العقدتين، وأقصد العلاقة مع الآخر، والعلاقة مع الوجود، هما أكثر إشكاليات الحياة الشائكة، وأكثر قضاياها الإنسانية تعقيداً، وقد يستحيل على الإنسان الطبيعي التكيف مع الحياة والتفاعل معها والتأثر والتأثير فيها، دون أن يحاول حل هاتين العقدتين، ولا شك في أن الأديان والعلوم كالفلسفة لم تدخر جهداً في وضع التعاليم ورسم المعالم وإيضاح السبل لإرساء قواعد العلاقة مع الوجود بمختلف تفاصيله، بينما اهتمت علوم أخرى كعلم النفس والاجتماع بتحديد الملامح الدقيقة لنهج سليم في العلاقة مع الآخر، إلا أن التجربة الإنسانية تبقى أكثر عمقاً وثراء وتجددا مما ذكر في طيات الكتب وثنايا الصفحات، خاصة مع الثورة التكنولوجية الهائلة التي زادت من تعقيد العلاقة مع الآخر على وجه الخصوص، وساهمت علاقات العالم الافتراضي في حدة التعقيد في العلاقة مع هذا الآخر الذي نعرفه حق المعرفة ونجهله في ذات الوقت، فإذا كانت العلاقة مع الآخر منذ بدء الخليقة إشكالية كبرى رغم بساطة الحياة في ذاك الوقت وبدائيتها ومحدودية الاحتياجات الإنسانية، فما بالك في هذا العصر الذي أصبح الفرد فيه عالماً مليئاً مستقلا وقائما بذاته، وقد عززت التكنولوجيا شعوره بالاكتفاء بذاته تقريباً، وبالتالي ضعف إحساسه بحاجته إلى آخر، وهنا تحديدا المنعطف الخطر في المشكلة إذ إن حاجتنا للآخر، سواء كان هذا الاحتياج معنويا أو ماديا، وبغض النظر عن طبيعته ووصفه، هي الدافع لنا لمعرفة هذا الآخر، وهي المحرك لإشعال قنديل في الظلام لقراءة ملامحه، والتعرف عليها جيداً وبناء علاقة معه، وبدون هذا الاحتياج لن يجد الفرد ما يحرضه على الاكتمال بآخر، أو مد جسر التعايش بينهما.

أظن أن أكبر خطايانا هو رغبتنا الجامحة في الاستغناء بقدر المستطاع عمن سوانا، وتوهمنا أن اكتفاءنا بذواتنا حفظ لكرمتنا، وعدم احتياجنا لآخر دليل قوة واستقلالية لنا، بينما الواقع هو أن فقدان الفرد لإحساس الحاجة إلى آخر يحرمه الحياة ولذة مشاركتها بتفاصيلها مع آخرين، يصبح الفرد كسمكة وحيدة في حوض "أكواريوم" في قاع المحيط، في البحر ولكنها ليست جزءاً منه!

back to top