ميزان الكلام

نشر في 11-01-2018
آخر تحديث 11-01-2018 | 00:00
 د. أيمن بكر قلت له: لا أقصد هذا المعنى.

فقال لي: كلامك يقصد.

توقفت مندهشاً: هل يمكن أن يقصد الكلام شيئاً غير ما يريد المتكلم؟

الإجابة: نعم... فللكلام ميزان أبعد من وعي المتكلم. أشياء كثيرة تتحكّم في المعنى كالإشارات بالوجه وحركات الجسم أثناء التلفّظ وطول الكلام أو قصره. من هنا جاءت عبارة: «لا أقصد» التي تعبر عن خروج الكلام عن مقصد المتكلم من دون إرادة. والسر في ذلك أن اللغة موجودة قبلنا، ومشحونة بمعان من أجيال طويلة سبقتنا، ونحن في أغلب الأحوال نردد تلك المعاني كما استخدمها أسلافنا، فلا نفعل سوى أن تتجلّى العبارات عن طريقنا؛ أي إن اللغة كثيراً ما تستخدمنا لتحافظ على وجودها واستمرارها.

في واحدة من الندوات أطال مقدم الندوة في تقديم أحد الضيوف، فأخذ الحضور يرفعون رؤوسهم تعبيراً عن الضجر، فقال مقدم الندوة:

- إني أرى رؤوساً (سكت قليلاً ثم أكمل).. قد أينعت.

ضحك وضحكنا. لكن ما الذي حدث؟

لقد أراد الرجل أن يقول: إني أرى رؤوساً قد ارتفعت تعبيراً عن الملل، لكن الجملة الشهيرة التي قالها الحجاج بن يوسف الثقفي احتلت رأسه، وخرجت على لسانه من دون أن ينتبه، وبالطبع من دون أن يقصد، لأنها جملة تهدِّد بالقتل، ولا مجال لقولها في ندوة أدبية. اللغة هي من استخدم عقل مقدم الندوة ولسانه لتتبدى وتحافظ على وجودها. فإذا تأملنا كلامنا اليومي، وجدناه تكراراً لعبارات محفوظة منقولة من الأجيال التي سبقتنا في الأحوال معظمها.

ميزان الكلام يأخذ في حسبانه أيضاً طول الكلام، الذي يمكن أن يقول شيئاً مختلفاً عن المعنى المباشر. لنفترض مثلاً أني قلت لك: «أنا ضد العنصرية» فهذه جملة واضحة المعنى لا لبس فيها، ولنفترض من باب الفكاهة أنها تزن نصف كيلو غرام في شعور من يسمعها. لكن بعد هذه الجملة مباشرة سأقدم لك حديثاً طويلاً يستغرق خمسين جملة عن عيوب الأشخاص ذوي البشرة البيضاء، وعن الطبيعة العنيفة لذوي البشرة السمراء، أي إن الكلام العنصري الذي قلته يزن خمسين مرة جملتي الأولى التي تقول: «أنا ضد العنصرية»، فما حقيقة أفكاري ومبادئي هنا؟ وما الذي سيتبقى في شعورك مما سمعت؟ صحيح أني لم أقل لك صراحة «أنا عنصري»، إلا أن الفرق بين وزن الجملة الأولى ووقعها على نفس المستمع، وبين وزن ما تلاها يفضح عنصريتي بوضوح.

ميزان الكلام لا يقف فقط عند الحجم، لكن تُحسب أيضاً طريقة الأداء إن كان الكلام شفوياً. فمثلاً؛ لنتخيل أني صاحب مصنع، وأني أقول لك في جملة واحدة وبنبرة هادئة: أنا ضد الاعتداء على حقوق العمال، ثم يبدأ صوتي في الارتفاع والتهدج، وتبدأ عيناي في الاتساع، ويداي في لطم الهواء بمجرد أن أبدأ في حديث طويل عن خطورة التساهل مع هؤلاء العمال الملاعين، وضرورة الانتباه لحيلهم الدنيئة التي يقومون بها، فهم خبثاء لا تعنيهم مصلحتك، لذا يجب الضرب بيد من حديد، على كل من يطالب منهم بكلام فارغ، كالعدالة والمساواة في الحقوق ومراعاة شروط منظمة العمل الدولية، وربما بعد هذا الالتهاب الثقيل أختم كلامي بجملة هادئة من زنة النصف كيلو مثل: لكني أظل ضد الاعتداء على حقوق العمال.

ميزان الكلام دقيق وشديد الحساسية، ولا يزن المعنى المباشر لما تنطق فقط، بل إن حجم الكلام، وطريقة الأداء، ونبرة الصوت وحركات الجسد توضع في هذا الميزان، وتحدد جميعاً معانيك ومبادئك من خلفها.

back to top