من يمنع التعليم الجيد في العالم العربي؟

نشر في 04-01-2018
آخر تحديث 04-01-2018 | 00:08
 خليل علي حيدر سعيُ العالم العربي نحو تعليم جيد هو الجزء الأهم من محاولة ترسيخ الحداثة والديمقراطية في مجتمعاته، ولهذا فإن تخلف هذه المنطقة في مجال تطوير التعليم وتحدثيه يعدّ كذلك من أهم أسباب انتكاسة الديمقراطية العربية، وإن كانت ثمة، بلا ريب، أسباب أخرى غير رداءة التعليم لا تقل عنها فتكاً في نمو الديمقراطية وترسخها، ومنها الفساد بأنواعه والأصولية الدينية، وعدم تبلور المطالب السياسية والاجتماعية، وكثرة السكان مع قلة فرص العمل... وغير ذلك!

ومن الظواهر المحيرة في المجتمعات العربية، التي تعبر بقوة عن فشل المناهج التعليمية، ما نلاحظه من عدم تأثير التعليم حتى الجامعي في بعض قطاعات وشرائح المجتمع، وضعف حماس هؤلاء للأفكار الجديدة والتحرر الثقافي، حتى يكون بعضهم رجالاً ونساء نسخة عن الجيل غير المتعلم!

وهذا ما لاحظه د. إسحق ديوان، الأستاذ في جامعة باريس البحثية، وأستاذ كرسي العالم العربي، والذي يؤكد في مقال له "أن المواطنين المتعلمين في الدول العربية يميلون في المتوسط إلى أنهم أقل تحرراً بأشواط على المستويين السياسي والاجتماعي، مقارنة بأقرانهم في أجزاء أخرى في العالم". والخطورة في هذا أنه "إذا كان للمجتمعات العربية أن تصبح في أي وقت في المستقبل أكثر انفتاحاً وأكثر دينامية على الصعيد الاقتصادي، فيتعين على أنظمتها التعليمية أن تحرص على احتضان وتعزيز القيم المناسبة لتحقيق هذه الغاية".

(الجريدة، 12/ 4/ 2016).

ويشير "د. ديوان" إلى ما تؤكده نتائج "دراسة استقصاء القيم العالمية"، وهو مشروع بحثي عالمي لاستطلاع الآراء لدارسة القيم والآراء بين بلدان مختلفة، ويضيف أن هذه الدراسة قامت مؤخراً- قبل عامين- باستطلاع الآراء في 12 دولة عربية هي الأردن ومصر وفلسطين ولبنان والعراق والمغرب والجزائر وتونس وقطر واليمن والكويت وليبيا، جنباً إلى جنب مع 47 دولة غير عربية، وتقيس الدراسة أربع قيم سياسية واجتماعية كاشفة هي: دعم الديمقراطية، والاستعداد للمشاركة في العمل المدني، والإذعان للسلطة، ودعم القيم الأبوية التي يستند إليها التمييز ضد المرأة.

وأكدت الدراسة أنه "مع اكتساب أي دولة نمطية قدراً أكبر من الثراء، والتعليم، والانفتاح السياسي، يرتفع لديها مستوى دعم الديمقراطية والاستعداد للمشاركة في العمل المدني، ويهبط مستوى الإذعان للسلطة ودعم القيم الأبوية".

غير أن الدول العربية متخلفة عن دول أخرى ذات مستويات مماثلة من التنمية "فالعرب أقل ميلاً إلى تفضيل الديمقراطية بفارق 11%، وأقل نشاطاً في مجال العمل المدني بفارق 8%، وأكثر ميلاً إلى احترام السلطة بفارق 11% وأشد ميلاً إلى اعتناق القيم الأبوية بفارق هائل يبلغ 30%.

ومن الملاحظ في هذه الدراسة وجود فجوة بين العرب وغير العرب في قيمة تفضيل الديمقراطية من حاملي الشهادات الجامعية، 14%، في حين لا تزيد الفجوة على 5% بين حاملي الشهادة الثانوية، وقد يفسر هذا بأن التعليم أضعف أثراً على القيم الاجتماعية في الدول العربية.

ويطالب د. ديوان الباحثين في مجال تعزيز الانفتاح في العالم العربي بعدم الاكتفاء بالتفسير الديني للظاهرة أو التركيز على تأثير الإسلام فقط، بل دراسة نوعية التعليم المتاح لسكان المنطقة، وقد وضع التعليم في خدمة مشاريع سياسية عليا ودعم أنظمة، وأصبحت السياسات التعليمية مشربة بقيم دينية محافظة، وكان الهدف فيما مضى محاربة الاتجاهات اليسارية، ثم تم تبني هذه السياسات لسد الطريق على الجماعات الإسلامية.

وتتسم أغلب الأنظمة التعليمية العربية "بفرض التعليم عن ظهر قلب، والتركيز المفرط على الموضوعات والقيم الدينية، وتثبيط التعبير عن الذات لمصلحة الامتثال، وافتقار الطلاب إلى المشاركة في شؤون المجتمع، وكل هذه السمات مهيأة لتشجيع الطاعة وتثبيط مساءلة السلطة".

ويتوصل الكاتب إسحق ديوان إلى أن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي صاحبة مصلحة مباشرة في تصميم وترسيخ تعليم كهذا خدمة لديمومة مصالحها، واستمرار هيمنتها في المجتمع، ومن مفارقات الأوضاع التعليمية أن استغلال الدين للهيمنة على المناهج قد أنجز على يد "العلمانيين"!

يقول: "قد يبدو من عجيب المفارقات أن تكون أنظمة علمانية هي المسؤولة عن أسلحة التعليم، لأن الأنظمة الحاكمة الاستبدادية تتعمد تحييد الإمكانات التحديثية الكامنة في التعليم سعيا إلى ضمان بقائها".

ويسلط د. ديوان الضوء على ما يسميه "سوء حظ العالم العربي"، فيستنتج أن هذه النخب السياسية التي تقود الكثير من هذه الدول "لن تبادر عن طيب خاطر إلى إصلاح التعليم إذا كان في ذلك ما يعرض بقاءها للخطر".

إن المجتمعات العربية، وفق هذا التحليل، في ورطة سياسية- تربوية متداخلة ملتحمة، إذ لا سبيل إلى تحديث المجتمع وزرع القيم الديمقراطية والتفكير العصري فيه إلا بتغيير التعليم كمّاً وكيفاً، غير أن السبيل إلى هذا التغيير لن يكون سهلا ممهدا، بسبب الموانع السياسية التي تخشى مثل هذا التغيير وتعاديه، ولكن هل يستطيع التعليم الجيد أن يقهر الموانع الأخرى للديمقراطية في العالم العربي؟

هذا ما يحتاج إلى مقال آخر!

يلاحظ الباحث اللبناني محمد قعبور "أن معظم الدول التي انضمت إلى نادي الديمقراطية والليبرالية في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، يمتلك سكانها درجة متقدمة من الوعي، أوجده انتشار التعليم والسيطرة على معدل الولادات"، ويرى "قعبور" أن هاتين الخصوصيتين، الوعي وتحديد السكان، "تؤديان إلى تبلور فردانية المواطن التي تنمي ملكة النقد والمساءلة لديه، وتدفعه إلى مقاومة الحكومات الاستبدادية".

(حوار العرب، العدد 4، مارس 2005).

back to top