سرقة ثياب الشعبويين

نشر في 02-01-2018
آخر تحديث 02-01-2018 | 00:25
 بروجيكت سنديكيت ينبغي لنا جميعاً أن نحيي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فلولاه لظلّ الغرب ينظر إلى الشعبوية باعتبارها مشكلة تنفرد بها أوروبا الوسطى والشرقية، ولكن رئاسة ترامب تُظهِر بوضوح شديد حقيقة مفادها أن الشعبوية ليست مجرد نتاج لعدم النضج المزعوم في دول ما بعد الشيوعية.

ذات يوم، قال ليو تولستوي، إن «المرء كلما كان أبعد عن الأحداث بدت تلك الأحداث في نظره أكثر حتمية»، وهكذا هي الحال مع صعود الشعبوية اليوم، فلم يكن من المحتم أن يتولى حزب القانون والعدالة في بولندا السلطة بعد حصوله على 38 في المئة من الأصوات في عام 2015؛ ولم يكن من المحتم أن يفوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، رغم حصوله على عدد من الأصوات أقل بنحو 3 ملايين صوت مقارنة بما حصلت عليه منافسته، وفي كل من الحالتين، لعب الحظ وافتقار المنافسة إلى الفاعلية والكفاءة دوراً واضحاً، تماماً كما فعلا في جلب قوى ليبرالية حقيقية إلى السلطة في فرنسا في عام 2017.

ومع ذلك ينبغي لنا، ونحن نقترب من عام 2018، أن ندرك أن عاماً آخر من البلبلة الشعبوية ينتظرنا، وفي نهاية المطاف لا شيء جديداً حول السياسة الشعبوية في الديمقراطيات، سواء الشابة منها أو العجوز، ففي القرن التاسع عشر تسببت حركة «الفضة الحرة» في انقسام الولايات المتحدة على النحو نفسه الذي يدفع به الخروج من الاتحاد الأوروبي بريطانيا إلى الانقسام اليوم.

الواقع أن الشعبويين ينجحون من خلال استغلال غربة المواطنين عن مؤسسة فشلت أو أصبحت عاجزة عن الاستجابة لبعض التحديات البارزة، على سبيل المثال انخفاض أسعار المحاصيل، وانكماش الديون في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن التاسع عشر، أو الهجرة في الاتحاد الأوروبي اليوم، وهم يقترحون غالباً حلولاً بسيطة لمشاكل معقدة. وبمجرد وصولهم إلى السلطة يفشلون عادة في الوفاء بوعودهم، ولكن بعد أن ينفقوا كل الأموال العامة، وتذهب المؤسسات الحكيمة إلى استيعاب بعض الحجج الشعبوية في برامجها السياسية، وبعد تقديم هذه التنازلات تميل العواطف إلى الهدوء والاعتدال، ويُصبِح من الممكن استعادة الاستقرار الاجتماعي.

ولكن ما المظالم الشعبوية الرئيسة اليوم؟ إذا نظرنا إلى دول مثل بولندا والمجر، فسنتبين 3 مظالم على الأقل: السخط الطبقي، واليأس الديمغرافي، والهويات المهددة، وكل هذه المظالم تقوم على أساس مشروع، وجمعيها تحتاج إلى معالجة.

وخلافاً للاعتقاد الشائع، لا يرجع أي من هذه المظالم إلى أسباب اقتصادية بحتة، ففي بولندا كانت الدخول في ارتفاع وكانت فجوة التفاوت تتجه إلى الانحسار على مدار 25 عاماً، ولكن في الوقت نفسه أصبح الناس العاديون متشككين على نحو متزايد في النخب التي «تتغذى على المعلف»، في حين يناضل الجميع غيرهم، كما يزعمون، لمجرد تدبير نفقاتهم الأساسية.

يرجع جزء من المشكلة إلى أن التوقعات تجاوزت الواقع، وعندما لا تُلَبى يميل الناس إلى الظن بأن الميثاق الاجتماعي ذاته غير عادل، وهذا الشعور بالظلم لا مستويات الدخل هو الذي غذى الدعم للحركات الشعبوية، فربما يكون دخل شخص ما أكبر كثيراً من الحد الأدنى للأجور في بولندا، ويظل رغم ذلك ساخطاً على حقيقة مفادها أن الأثرياء على مستوى العالم يكتنزون تريليونات الدولارات في الملاذات الضريبية، أو أن الشركات العابرة للحدود الوطنية تتهرب بشكل روتيني من التزاماتها الضريبية.

علاوة على ذلك لم يكن الشعبويون، على الرغم من خطابهم العنصري بشأن قضية الهجرة، مخطئين في شعورهم بأن دولة الرفاهية السخية غير متوافقة مع الحدود المفتوحة، فهناك مليار إنسان على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط لا يمكن لومهم على رغبتهم في الحياة في دولة الرفاهية الأوروبية، إذ يعيش أغلبهم في دول تفتقر إلى الرفاهية الاجتماعية، بل ربما لا يمكن وصفها حتى بأنها دول عاملة.

الواقع أن أوروبا لا يمكنها أن تقبل الجميع، ولابد من إدارة مناقشات مشروعة حول معدلات الهجرة التي يمكن التسامح معها، وقدرة الدول الغربية على استيعاب المهاجرين، والضوابط الحدودية، علاوة على ذلك من الإنصاف أن نتساءل ما إذا كان في الإمكان التوصل إلى سبل أفضل من الهجرة الجماعية لمعالجة المشاكل المرتبطة بالشيخوخة السكانية، كتوسيع نطاق إعانات الأطفال، وإجازات رعاية الأطفال على سبيل المثال، والأمر الأكثر إزعاجاً للشعبويين والمتعاطفين معهم أن مجرد إثارة مثل هذه الأسئلة يعرض المرء لاتهامات بالتعصب، وعدم التسامح، أو ما هو أسوأ.

أما عن المظلمة الشعبوية الثالثة، فكان من المتوقع أن يلجأ أولئك الذين تُرِكوا خلف الركب في عصر العولمة والجدارة إلى الهويات الجمعية كمصدر للكرامة، وفي بولندا والولايات المتحدة بشكل خاص تعزز هذا الاتجاه بفِعل تراجع التدين، فقد أصبحت القومية الملاذ الأخير لأولئك الذين يخشون خسارة طريقة حياتهم، وهو جزئياً رد فِعل لأغلبية مهددة بالخطر، ولا تريد أن تتحول إلى أقلية.

ولنتأمل الآن، إلى جانب هذه القائمة من المظالم، حقيقة مفادها أن كل ثورة اتصالات أدت تاريخياً إلى ثورة سياسية، ففي عالم وسائط التواصل الاجتماعي غير المنظمة، لا يضطر الدهماء الشعبويون إلى بذل قدر كبير من الجهد لإذكاء نيران الارتباك، وجنون الاضطهاد، والاستهزاء بالقيم، والتي تستعر بالفعل داخل أنفس الناخبين.

بالنظر إلى المستقبل، يتعين على صناع السياسات والقادة السياسيين أن يعكفوا على معالجة الشواغل الجوهرية التي استغلها الشعبويون.

أولاً، نحن في احتياج إلى إصلاح الرأسمالية، من خلال ضمان مكافأة المساهمات الاجتماعية على نحو أكثر ملاءمة من الحال الآن، حتى لو سلمنا بأن العاملين في مجال التمويل يقدمون مساهمة اجتماعية أكبر من تلك التي يقدمها الأطباء، فهل ينبغي لنا حقاً أن نصدق أن مساهماتهم تعادل ألف ضعف مساهمات الأطباء، فضلا عن عن عشرة آلاف ضعف؟

وعلى نحو مماثل، حان الوقت لتجميد الشركات والأفراد الذين يحتفظون بحسابات في الملاذات الضربية المحددة من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومن جانبه كان الاتحاد الأوروبي محقاً في إصراره على إرغام الشركات المتعددة الجنسيات على دفع الضرائب أينما كانت تزاول أعمالها، ويتعين على الدول الأعضاء أن تدعم مقترحات المفوضية في ما يتصل بفرض ضوابط أشد صرامة.

ثانياً، يتعين على الحكومات أن تعيد تأكيد السيطرة على الحدود الوطنية، وفي حالة الاتحاد الأوروبي السيطرة على الحدود فوق الوطنية، ويريد المواطنون أن يشاركوا في اتخاذ القرار بشأن من يستطيع أن يأتي للعيش بينهم، وتحت أي ظروف، وهم يريدون أن يضمنوا أن من يأتون إليهم يخططون للتعايش وحسن الجوار.

ثالثاً، يتعين على الساسة أن يكفوا عن تحريك النعرات القومية الرخيصة لاكتساب مزايا انتخابية تكتيكية، وهم مدينون للناخبين بأن يشرحوا لهم كيف يمكن حماية مصالحهم على نحو أفضل من خلال التعددية، ويصدق هذا بشكل خاص في حالة الاتحاد الأوروبي، الذي يحتاج إلى رعاية قدر أكبر من الحس الوطني الأوروبي، وربما من خلال العمل العسكري المشترك على أطراف الاتحاد الأوروبي.

أخيراً، يستلزم الأمر تنظيم عمل الإنترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من التكنولوجيات الجديدة، إما عن طريق الضغط على الشركات لحملها على مراقبة نفسها ذاتياً، أو من خلال استنان تشريع جديد، ومثلها كمثل أي إبداع قادر على تغيير العالم، فإن التكنولوجيات الرقمية تنطوي على جوانب سلبية واضحة لا يمكن تجاهلها.

الحق انها أهداف صعبة ولكنها قابلة للتحقيق، وعلى النقيض من الانهزامية التي استشرت في أيامنا هذه، يمكننا أن نعمل من خلال سبل ديمقراطية على استنان التشريعات، وتبني القواعد التنظيمية التي تعالج المشاكل التي حددها الشعبويون، ولكن يتعين علينا أن نسارع إلى العمل، فإذا تقاعسنا عنه فلن يتوقف الشعبويون عن العمل، وستكون النتائج أشد ضرراً.

* وزير خارجية بولندا الأسبق

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top