هل تشعل السياسة النقدية شرارة أزمة مالية أخرى؟

نشر في 31-12-2017
آخر تحديث 31-12-2017 | 00:30
 بروجيكت سنديكيت ذات يوم، قال الرئيس الأميركي رونالد ريغان، مازحاً، إن «الكلمات الأكثر ترويعاً في اللغة الإنكليزية هي: أنا من الحكومة، وأنا هنا للمساعدة». بعبارة أخرى، كثيراً ما يستجيب صناع السياسات للمشاكل بأساليب تُفضي إلى إحداث المزيد من المشاكل.

لنتأمل هنا الاستجابة لأزمة 2008 المالية، بعد ما يقرب من عشر سنوات من السياسات النقدية غير التقليدية التي انتهجتها البنوك المركزية في الدول المتقدمة، تتمتع كل اقتصادات دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الخمس والثلاثين الآن بنمو متزامن، وأصبحت الأسواق المالية في خضم ثاني أطول ارتفاع للسوق في التاريخ، ومع ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنحو 250 في المئة منذ مارس 2009، بات من المغري أن نعتبر السياسات النقدية غير المسبوقة، مثل التيسير الكمي وأسعار الفائدة شديدة الانخفاض، نجاحاً عظيماً.

ولكن هناك ثلاثة أسباب تدفعنا إلى التشكك في هذا التصور: أولاً: اتسعت فجوة التفاوت في الدخول بشكل كبير خلال هذه الفترة، ففي حين ألحقت أسعار الفائدة الحقيقية السلبية (المعدلة تبعاً للتضخم) الضرر بالمدخرين، من خلال كبح الأموال النقدية والحيازات من السندات الحكومية، فإنها عملت على نطاق واسع على تعزيز أسعار الأسهم وغير ذلك من الأصول المالية الخطيرة، التي يحتفظ بها الأثرياء غالباً. وعندما تُصبِح الاستثمارات التقليدية الثابتة الدخل، مثل السندات الحكومية، بلا عائد؛ فإن أكثر صناديق المعاشات تحفظاً لن تجد أمامها فرصة للاختيار غير تكديس الأصول المحفوفة بالمخاطر، ودفع الأسعار إلى المزيد من الارتفاع، وزيادة فجوة الثروة اتساعاً.

يشير تقرير حديث صادر عن كريدي سويس إلى أن الشريحة التي تضم أغنى 1 في المئة من سكان أميركا تملك الآن نحو نصف الثروة الوطنية من الأصول الاستثمارية مثل الأسهم وصناديق الاستثمار المشتركة، في حين يستمد أقل 90 في المئة ثراء بين الأميركيين أغلبية ثروتهم من مساكنهم، وهي فئة الأصول التي تلقت ضربة كبيرة بسبب الركود. الواقع أن أكثر الأميركيين ثراء الآن يملكون، تقريباً، الحصة نفسها من الثروة الوطنية التي كانوا يملكونها في عشرينيات القرن العشرين. وعلى المستوى العالمي، يملك أكثر 1 في المئة ثراء نصف جميع الأصول العالمية، ويملك أكثر 10 في المئة ثراء نحو 88 في المئة من أصول العالم.

فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من الحوافز النقدية التي سمحت للشركات بالاقتراض وإعادة التمويل بتكاليف منخفضة غير مسبوقة، لم تستشعر الشركات أي ضغط يُذكَر لحملها على رفع الأجور، ففي الولايات المتحدة، كانت الأجور الحقيقية في عام 2017 أعلى بنحو 10 في المئة فقط من حالها في عام 1973. وعلى الرغم من حجم ومدة التحفيز النقدي، ظلت البنوك المركزية عاجزة دوماً عن تحقيق أهداف التضخم، وربما يعكس التضخم المفقود، اليوم، ضغوطاً انكماشية ناجمة عن الشيخوخة السكانية، أو العولمة وتوافر العمالة المنخفضة التكلفة في الخارج، أو انتشار التشغيل الآلي (الأتمتة) والتكنولوجيات الموفرة للعمالة، أو مكاسب الإنتاجية في قطاع الطاقة التي تعمل على تحييد الزيادات في الأسعار، أو عوامل أخرى.

وأياً كانت الحال، فإن التأثير الصافي المترتب على انخفاض التضخم في العالم المتقدم يتمثل في نسيج اجتماعي أقل استقراراً، فضلاً عن اتساع فجوة الثروة التي تغذي النزعة الشعبوية.

سببٌ ثانٍ يدعو إلى القلق بشأن الاستجابة السياسية على مدار العقد الماضي؛ هو أن ارتفاع مد أصول المخاطر، مدفوعاً بالتيسير الكمي، أعطى دفعة هائلة للاستثمار السلبي، وجلب هذا الاتجاه معه مجموعة من المخاطر الجديدة. فمنذ اندلاع الأزمة، كانت الأسواق مترابطة بشكل وثيق، وكانت معدلات الفارق منخفضة بشكل استثنائي، كما اتبع الاستثمار إلى حد كبير نمطاً يتسم بالتأرجح بين خوض المجازفات والعزوف عن خوضها، وكل هذا يشكل الظروف المثالية لدفع الاستثمار السلبي المنخفض التكلفة إلى التفوق على الإدارة الفعّالة. وعلى هذا، فمنذ يناير 2006، وضع المستثمرون أكثر من 1.4 تريليون دولار أميركي في أدوات سلبية مثل صناديق المؤشرات، في حين سحبوا 1.5 تريليون دولار من صناديق الاستثمار المشترك النشطة.

ولكن، برغم أن مديري الاستثمار أطلقوا الآلاف من المنتجات الجديدة لتلبية الطلب المتزايد، بدأت البيئة التي دعمت الاستراتيجيات السلبية تتغير، فبادئ ذي بدء؛ شرعت البنوك المركزية تطبع السياسة النقدية، أو تعتزم ذلك قريباً، من خلال تقليص مشترياتها من السندات، ومع تزايد الفوارق بين الأصول وداخل فئات الأصول، بدأ بندول الأداء يتأرجح بالفعل عائداً نحو الإدارة النشطة. وفي الوقت نفسه، عمل التراكم الضخم في الاستثمارات السلبية على مدار السنوات العشر المنصرمة على زيادة احتمالات سوء تخصيص رؤوس الأموال وتشوهات أسعار الأصول، في حين تسبب في تعظيم المخاوف بشأن واجبات الائتمان المتمثلة بالرعاية وغير ذلك من القضايا الجهازية.

السبب الثالث الذي يدعو إلى توخي الحذر هو أن البنوك المركزية لم ترتد بشكل كامل بعد عن سياساتها غير التقليدية، ولم تحل ميزانياتها العمومية العملاقة. وإذا بدت إدارة الأزمة المالية والخروج من السياسات غير المسبوقة أمراً صعباً؛ فانتظر فقط ما سيأتي لاحقاً: سحب مستويات غير مسبوقة من السيولة من الاقتصاد، فقد تضخمت دفاتر الميزانيات العمومية لدى بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان، وبنك إنكلترا، وبنك سويسرا الوطني مجتمعة إلى 15.5 تريليون دولار، أي بتوسع بلغ أربعة أضعاف منذ نهاية عام 2007.

سوف يفرض التفكيك الضخم للميزانيات، الذي ينتظر الاقتصاد العالمي عدداً كبيراً من المخاطر الكبرى الجديدة، ويتوقف حجم الميزانيات العمومية لدى البنوك المركزية على الطلب على النقود، وعلى العرض الناشئ عن التوسع النقدي، وحتى إذا تمكن القائمون على البنوك المركزية من قياس الطلب على النقود بالقدر الكافي من الدقة، لضمان تسوية مستقرة للميزانيات العمومية في عام 2018 وما يليه؛ فستظل تحديات إضافية قائمة. على سبيل المثال، إذا أساء المشاركون في السوق، الذين لم يشهدوا مثل هذا التطبيع النقدي من قبلُ قَط، تفسير نوايا القائمين على البنوك المركزية، فربما تنتهي بهم الحال إلى تكرار انهيار سوق السندات الذي حدث عام 1994، وفي ظل قيادة جديدة في بنك الاحتياطي الفدرالي، ستُصبِح الاتصالات الفعّالة موضع قدر أكبر من عدم اليقين.

علاوة على ذلك، ستضطر صناديق المعاشات، التي خاضت مخاطر متزايدة في بحثها عن العائد، إلى التوفيق بين عوائد السوق الأقل في المستقبل والتقلبات المتزايدة واحتياجات السكان الأكبر سناً. في عام 2015، كان واحد من كل ثمانية من سكان العالم في سن الستين أو أكثر، ووفقاً للأمم المتحدة، ستتزايد هذه النسبة إلى واحد من كل ستة بحلول عام 2030، ثم إلى واحد من كل خمسة بحلول عام 2050.

وإذا لم تتمكن صناديق المعاشات من الوفاء بالتزاماتها في المستقبل، فستضطر الحكومات إلى التدخل لتوفير شبكة أمان، بيد أن إجمالي الديون الحكومية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ارتفع بمعدل سنوي تجاوز 9 في المئة منذ عام 2007، لكي يصل إلى 325 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً؛ ونتيجة لهذا، ربما لا تكون سوق السندات جاهزة لدعم الحكومات المدينة، وإذا لم تتمكن صناديق المعاشات والحكومات في الاقتصادات المتقدمة من تلبية احتياجات المسنين، فمن المؤكد أن هذا يعني حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي.

ونحن نقترب من عام 2018، لا نملك إلا أن نأمل أن تكون البنوك المركزية بارعة في تقليص دورها في الاقتصاد العالمي، بقدر ما كان ريغان بارعاً في إعادة السوق إلى مركز الاقتصاد الأميركي، وسيتوقف النجاح على عاملين: أولاً، يتعين على البنوك المركزية أن تقاوم التسييس، وأن تحافظ على استقلالها ودرايتها الفنية غير العادية. وثانياً، تحتاج البنوك المركزية إلى ملاحقة التطبيع الأكبر تدريجياً وتجنب التحركات المفاجئة، وبطبيعة الحال ستضطر في القيام بذلك إلى الحفاظ على توازن صعب بين النمو المعتدل المطرد والتضخم المنخفض الذي اتسم به عام 2017.

* ألكسندر فريدمان

* الرئيس التنفيذي لمؤسسة GAM، كما شغل منصب كبير مسؤولي الاستثمار العالمي لدى UBS، ومنصب المدير المالي في مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وكان زميل البيت الأبيض أثناء إدارة الرئيس بيل كلينتون.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top