لماذا يتورط الجمهور مع القادة الشعبويين؟

نشر في 31-12-2017
آخر تحديث 31-12-2017 | 00:14
 ياسر عبد العزيز شهد عام 2017، الذي ينتهي اليوم، الكثير من الوقائع السياسية المؤثرة، لكن ثمة واقعتين تكتسبان أهمية كبيرة؛ أولاهما تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في يناير، وثانيتهما فوز إيمانويل ماكرون بالانتخابات الرئاسية الفرنسية في مايو.

نحن نعرف الآن أن ترامب ليس سوى قائد شعبوي، أتى من خارج أوساط النخبة السياسية التقليدية في "واشنطن دي سي"، غريباً عن المؤسسة الحاكمة، ومنقطع الصلة بتقاليدها وآليات عملها المستقرة، منذ قرنين من الزمان. وأصبحنا نعرف أيضاً أن ماكرون، الذي وُصف عند إعلان ترشحه بـ"السياسي المغمور"، و"قليل الخبرة"، و"مجرد وزير في حكومة أحد أقل رؤساء فرنسا شعبية في التاريخ"، لم يكد يستقر في موقعه كرئيس للجمهورية الفرنسية، حتى أظهر مناقب سياسية معتبرة، وأدى مهامه بقدر ملحوظ من النجاح والتعقل، بعدما هزم سياسيّة شعبوية من الطراز الأول، هي مارين لوبان، التي تبنت خطاباً ألهب مشاعر الجماهير، ولعب على غرائزهم ومخاوفهم.

تماماً مثل ترامب، لم توفر لوبان ذريعة للخوف إلا وأثارتها واستثمرتها طيلة شهور حملتها الانتخابية، حتى إن خصمها ماكرون وصفها بأنها "داعية الخوف الكبرى"، وهو الوصف الذي يشي بإدراكه التام لطبيعة منافسته السياسية، وركائز دعايتها الانتخابية.

ما الذي جعل ترامب يفوز، ولوبان تخسر؟ وبعبارة أخرى: لماذا يتورط الجمهور مع القادة الشعبويين أحياناً، وينجو من فخ تأييدهم وانتخابهم أحياناً أخرى؟

يقول الباحثون المتخصصون في علم الاجتماع السياسي إن ثمة ثلاث نظريات رئيسة تحكم خيارات الجمهور التصويتية في العمليات الانتخابية، وإن طبيعة كل مجتمع من المجتمعات لحظة العملية الانتخابية هي التي تحدد أي النظريات الثلاث سيكون لها القدرة على الحسم.

يعتقد كثيرون أن نجاحات القادة الشعبويين بدأت مع صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وازدهرت لاحقاً على أيدي الضباط الانقلابيين في الشرق الأوسط وإفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض أقطار آسيا، لكن تاريخ القادة الشعبويين أقدم من ذلك بكثير.

فقد ظهر مفهوم الشعبوية قبل ذلك بكثير في كتابات أفلاطون وتلميذه أرسطو، باعتبارها أيديولوجية أو فلسفة سياسية، تستخدم خطاباً ديماغوجياً، يتوجه إلى الطبقات الأدنى في الشعب، وتعتمد آليات جدل سياسي، يلعب على عواطف الجماهير، ويداعب نزعات الخوف، ويعد بتحقيق النصر والفخر والسعادة، من خلال هجوم حاد على السلطة الحاكمة، يحملها المسؤولية كاملة عن الصعوبات التي تعانيها الجماهير المطحونة والأكثر تأزماً.

وبحسب طبيعة المجتمع في لحظة التصويت، ووفق درجة النجاح التي يحققها القائد الشعبوي في إدارة حملته الدعائية وتحركاته السياسية، يمكن أن يصل إلى السلطة، لتبدأ الجماهير المنومة التي أعطته أصواتها وتأييدها في حصد الحسرة والإخفاق، بعدما يظهر أن الشعبوية قادرة على النجاح في الوصول إلى سدة السلطة، لكنها عاجزة عن الوفاء باستحقاقاتها.

النموذج الاجتماعي

ووفق ما يقوله الباحث المرموق بول لازرفيلد، فإن النظرية الأولى التي تحكم عمليات التصويت، ويستفيد منها القادة الشعبويون تُسمى بـ"النموذج الاجتماعي" Sociological Model of Voting Behavior، حيث تتحكم عوامل اجتماعية في خيارات الجمهور التصويتية؛ مثل الطبقة، والدين، والعرق، واللغة، والوظيفة. حينما تكون الأولويات المثارة على المستوى الوطني تتعلق بمخاوف من فقدان العمل، أو تراجع في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، أو تحديات ذات طابع ديني؛ مثل الإرهاب، أو مخاوف ذات طابع عرقي، فإن الجماهير المأزومة تبحث عن مُخلص، يعد بتجاوز تلك العوائق.

يذكرنا هذا بما نجح فيه ترامب خلال حملته الانتخابية، التي تركز خطابه السياسي خلالها بوضوح شديد على تلك المخاوف، وحَمّل الطبقة الحاكمة في واشنطن المسؤولية عن فقدان بعض المواطنين وظائفهم، وتراجع مستوياتهم الاجتماعية، وتفشي المخاوف الإرهابية، والتحديات التي تفرضها الهجرة على سوق العمل والمجتمع في آن.

الخيار النفسي

أما النظرية الثانية التي طورها الباحث "كامبل"، وتُسمى بـ"الخيار النفسي" Psychological Theory، فتركز على أهمية الأبعاد النفسية للمصوتين أكثر من الأبعاد الاجتماعية؛ مثل هوية الحزب الذي ينتمي إليه المصوت، والإطار الفكري الذي يحكم خياراته، والتاريخ العائلي للانتماء السياسي له.

وفي هذا الصدد، فإن الجماهير التي ترتبط تاريخياً بحزب يميني عادة ما تذهب إلى مرشح اليمين، بصرف النظر عما إذا كان يقدم لهم حلولاً لمشكلاتها، أو يظهر قدرات ومهارات سياسية كافية لكي يفوز بثقتها، وهو أمر يفسر إعطاء الكثيرين من أعضاء الحزب الجمهوري أصواتهم لترامب، على الرغم من عدم ثقة قادة كبار في الحزب في قدرته على الحكم.

الخيار الرشيد

ثمة نظرية ثالثة كاشفة، توضح الأسباب التي تقود الجمهور إلى التصويت بوعي ومسؤولية في الانتخابات السياسية، بالشكل الذي يقلل حظوظ القادة الشعبويين، ويمنح الفوز للمرشحين الأكثر قدرة على الأداء السياسي الفعال، مثلما حدث في الانتخابات الفرنسية؛ إذ توافر لدى لوبان مخزن تصويتي من المواطنين الذين تأثروا بخطابها المعادي للأجانب، والمناهض للهجرة، والمناوئ للسياسات الأوروبية، والمهاجم للمؤسسة السياسية التقليدية، لكن خيار الجمهور كان أكثر رشداً من أن يمنحها الفوز.

تُسمى تلك النظرية التي طورها الباحث أنتوني دونز بـ"الخيار الرشيد" Rational Choice Theory، وهي تعتبر أن المصوتين جماعة من العقلانيين، الذين يتخذون قراراتهم السياسية استناداً إلى تشخيص موضوعي لحاجاتهم، وأهدافهم، وخصوصاً في المجال الاقتصادي.

ووفق هذا التنظير، فإن هؤلاء المصوتين يمنحون أصواتهم للقادة الذين يستخدمون خطاباً سياسياً عقلانياً، حافلاً بالأرقام، والمعلومات، والإحصاءات الدقيقة، والذين يمتلكون رؤية متكاملة لمقاربة قضايا العمل العام، ويحملون دراسات جدوى واضحة المعالم، وسياسات مقترحة قابلة للتنفيذ والقياس. لا يهتم أصحاب "الخيار الرشيد" كثيراً بحديث المخاوف، ومداعبة الغرائز، ودغدغة العواطف، ولا يحفلون بالطبقة التي ينتمون إليها، ولا بالحزب الذين صوتوا له في الانتخابات السابقة، ولا بوضعهم العرقي، أو اللغوي، أو الاجتماعي، أو المنطقة التي ينتمون إليها جغرافياً. يعد "الخيار الرشيد" فرصة ضائعة في كثير من الانتخابات التي يشهدها عالمنا العربي، وحينما يصبح خياراً حاكماً في أي انتخابات نزيهة، فإن قادة أفضل سيصلون إلى السلطة، وبفضلهم تتحقق النجاحات، ويتم تفادي الخسائر والإخفاقات.

* كاتب مصري

back to top