حبر و ورق

نشر في 16-12-2017
آخر تحديث 16-12-2017 | 00:00
No Image Caption
آباء غير شرعيين

كالعادة يخرج منصور من البيت.. هل سيركب سيارته لأتحرك وأقفز من على سطحها أم أنه سيذهب إلى المسجد؟.. يبدو أنه سيذهب إلى المسجد.. نظر إليّ.. قرر سريعاً أن يتركني على سطح السيارة.. أظنه عرف أنني أرتاح على سطحها الأملس.

ابنه مهنا يختلف عن أبيه قليلاً.. لا ينهرني.. يظل يحاورني بأدب، يقول لي:

- ألم تجدي غير سيارتي لتستقري عليها؟!.. انظري إلى آثار بصماتك المتسخة!

أتسمّر في مكاني، تعود أذناي إلى الخلف وينخفض جسدي خجلاً وندماً على ما فعلت، ثم أستدير ببطء، قبل أن أقفز من فوق سيارته.. ولكني أعود حين لا أجد سيارة منصور.. يبدو أن مهنا لا يعلم بمقدار ارتياحي وسعادتي وأنا ألقي ببطني مادةً يديّ ورجليّ على سطح السيارة.. أنعم ببرودته.. أو أن هذا الأمر لا يعنيه.. صحيح أنني - كما يقول - أترك في كثير من الأحيان بصمات يديّ ورجليّ على سطح السيارة وعلى زجاجها الأمامي أو الخلفي.. ولكنني لا أقصد.. لا نستطيع نحن معشر القطط أن نترك هذه العادة مهما نهرنا الناس!.. وأرجو أن يتسامح معنا الجميع كما يفعل منصور.

هذا البيت - بيت منصور - وُلدت فيه أنا وإخوتي الثلاثة.. لا أقوى على فراقه.. أمضي معظم وقتي بالقرب منه.. أعرف كل أسراره.. كنا نلتف حول أمي ونلعب معها.. وفجأة ذات يوم اختفت أمي وأختاي ولم يعدن إلى البيت.. لا يمكن لي أن أنسى هدى.. كانت في التاسعة عشرة وكنت أحظى برعايتها.. تعطف علي وتدللني كثيراً.

كانت هدى فتاة في منتهى الجمال، بيضاء ذات شعر ناعم أسود مائل إلى البني يمتد حتى وسطها.. وجهها صافٍ جداً وأنفها دقيق مستقيم فوق شفتين رقيقتين تعلوهما ابتسامة خفيفة، فيما يبدو الحاجبان وكأنهما رُسما رسماً.. أما العينان فعسليتان واسعتان ثاقبتان تشعان ذكاء وعزيمة.. فيهما مسحة حزن غريبة.

وكان مهنا في الثالثة والعشرين من العمر.. حنطي البشرة، مشرق الوجه، رقيق البنية، ذابل العينين أسودهما صغير الأنف، أسود الشعر خفيفه، صغير الفم والأذنين، أسنانه بيضاء منتظمة.. تبدو عليه مظاهر الهدوء والاتزان.

كنت أشعر أن قلب مهنا يرق لهدى.. فهو يعرف مقدار تعلقها بـي فيسعى إلى إسعادها بإحضار ما لذ وطاب من الطعام الخاص بـي.. وكنت أسمعها توجه حديثها إليّ وتقول:

- شاب لطيف - يا زاهية - تتمنى أي فتاة الاقتران به لعله اكتسب صفات والده.. كم هي محظوظة من تحظى بمهنا.. من المؤكد أن أهله، خاصة والدته ستفكر أن تختار له فتاة أخرى.. لا بد لي أن أدرك ذلك جيداً ولا أتعلق به حتى وإن بدا لطيفاً معي.

هنا أدركت أن هدى ليست ابنة منصور وكوثر.. ربما تكون ابنة عم مهنا.. ولكن لماذا تعيش معهم؟!

بقيت زمناً أنعم برعاية هدى ومهنا وكانت كوثر أم مهنا لا ترتاح لوجودي وتصرح بذلك أمامي.. وكنت أخاف منها وأخشى من مغادرة المنزل. وفي يوم من الأيام أحتدم نقاش حاد بين هدى وكوثر.. هدى كانت تصر على بقائي وكوثر تقول لها: يا أنا يا هذه (القطة) في هذا البيت.. عندها عرفت أننا قطط شوارع لا تستحق أن تعيش في المنازل!

لو تدري كوثر بحجم الضرر الذي كان من الممكن أن يتعرض له المنزل وأهله لولا تواجدي.. فكم هي المرات التي قتلت فيها فأراً، أو صرصوراً.. وأنا أعرف كم يكره ويشمئز البشر من رؤية مثل هذه الحيوانات والحشرات طليقة في المنزل.. إنني حين أقتلها أتنازل عن رغبتي في إحضارها أمامهم.. رأفة بهم.. اصطدت صرصوراً يوماً وأحضرته لهدى ووضعته فوق السرير؛ فاشمأزت منه، ولم تثنِ عليّ، بل على العكس لامتني واستنكرت فعلي، فلم أعد.. أحضر لها الفريسة.

لا أعرف إلى أية سلالة أنتمي.. شعري قصير وكثيف، نحاسي اللون مخطط بأحمر داكن، فاتح في بدايته وغامق في نهايته، وجسمي طويل ونحيف.. أما ذيلي فطويل.. عيناي كبيرتان ولونهما أخضر، تشعان بالبراءة.. أحب التدليل والمداعبة.. أتمتع بذكاء حاد ولذلك يصعب تربيتي.. ربما أكون من سلالة القط المنزلي الذي ينحدر مباشرة من القط البرّي الإفريقي الذي استأنسه المصريون القدماء، فأنا أقتل الفئران والجرذان والثعابين وأمنعها من البقاء في المنزل، كما كانت تفعل القطط المنزلية قديماً، حيث كانت تمنع هذه الآفات من غزو الحقول ومخازن الحبوب، ولذلك أصبحت هذه القطط حيوانات أليفة مدللة وخُلِّدَت في اللوحات والمنقوشات والنحت في القرن السادس عشر قبل الميلاد.

كان الفراعنة يقدسون القطط وعبدوا إله الحب والخصوبة المسمى «باستيت» أو «باست» الذي كان على هيئة رأس قط وجسم امرأة.. وكان المصريون يعاقبون كل من يؤذي قطًّا بعقوبة تصل إلى حد الموت وعندما يموت قط كانوا يحلقون حواجبهم علامة على الحداد ويحولون القطط الميتة إلى مومياوات، وقد وجد علماء الآثار مقبرة قديمة للقطط في مصر تحتوي على أكثر من 300,000 مومياء للقطط.

لو كانت كوثر مثقفة تدرك هذه المعلومات لقدرت دوري في المنزل.. أو على الأقل لو كان عندها قدر من الإنسانية والرأفة بالحيوان لما أقدمت على إخراجي.

قررت هدى الخروج من البيت.. عارض منصور وابنه مهنا هذا القرار وحاولا ثنيها عنه.. ولكنها أصرت على المغادرة بحجة أنها تريد أن تركز في دراستها وأنها ستقيم في سكن الطالبات لتتفرغ للدراسة.

سألت نفسي:

- لماذا تخرج هدى من المنزل لتقيم في سكن الجامعة رغم أنها في نفس المدينة؟.. ترى من تكون هدى؟!

لم أستطع التوصل إلى إجابة لهذا السؤال وبقي سراً لم يُقدّر لي معرفته.

كان مهنا مصدوماً من قرار هدى.. لم يكن يتخيل مهنا أن تخرج هدى من البيت.. يبدو أن مشاعر الإعجاب بهدى قد تحولت إلى حب بدا حقيقياً لحظة خروجها.. إنه الفقد يظهر المشاعر الحقيقية.

ليس مهنا وحده من سيفتقد هدى، حتى أنا كان عليّ أن أتوارى عنها.. نعم لن أستطيع أن أرافقها في السكن.. كان علي أن أخرج إلى الشارع.. أعيش كمعظم القطط التي تعيش فيه.. بدأت أتخيل حياتي خالية من صوتها وإحساسها وعطفها ودلالها.. إنها أجمل وأرق إنسان رأيته في حياتي!

مرت تسع سنوات على خروجي من البيت بعد قرار كوثر النهائي.

الأجواء الحارة في الرياض في فصل الصيف تنهك أجسادنا وقد تعرضنا إلى الوفاة.. نظل نبحث عن الماء.. نجده في مراكن الأشجار أمام المنازل.. ومع شدة الحرارة أظل ألعق فرائي بكثرة لأن جسدي ليست به مسامات كالإنسان لإفراز العرق وترطيب الجسد، لا بد لي أن ألجأ إلى هذه الطريقة، لأنه كلما زادت كمية اللعاب على الفراء كلما ساعد ذلك في إتمام عملية التبخير وبالتالي تلطيف درجة حرارة الجسد.. ولا أكتفي بل أقترب من أبواب المساجد أتمدد بمحاذاة فتحة الباب السفلية ليأتيني شيء من البرودة.. أنعم بذلك قليلاً قبل أن يخرج المصلون.

أماكننا المفضلة حاويات القمامة.. نأخذ منها نصيبنا من مخلفات الناس وما أكثرها.. أكثر ما يزعجنا - ونحن نتناول وجباتنا داخل حاويات القمامة - الحجارة التي يقذف بها الأطفال والصبية تلك الحاويات لأننا مع سرعتها نقفز سريعاً في أي اتجاه خارج الحاوية.. أما رمي مخلفات جديدة فهو أمر مرحب به.. نخرج بهدوء ريثما يتم إعداد الطعام لنا.. ثم ما نلبث أن نعود فرحين.

ذهبت إلى النوم الليلة الماضية كالعادة تحت إحدى السيارات القديمة وذلك عند العاشرة مساءً، واستيقظت قبل السابعة صباحاً.. خرجت في الصباح أبحث عن وجبة إفطار في إحدى حاويات القمامة، وما أن اقتربت منها حتى فوجئت بطفلة صغيرة مولودة للتو موضوعة بجوارها.. كانت الطفلة ساكنة.. أصابتني قشعريرة.. فكرت في إفاقتها بلساني، ولكني تراجعت عندما تذكرت أنها قد تصاب بعدوى.. فالإنسان لا يتحمل ما نتحمله من الفيروسات نحن الحيوانات.. قررت أن أسحبها إلى قرب باب دار الحضانة بعد أن تأكد لي أن أمها قد ألقتها متعمدة قريباً من الدار ليسهل التقاطها.. وفعلاً قمت بهذا، وما أن اقتربت من باب الدار حتى رأتني الحاضنة فأسرعت تحملها.. ونظرت إليّ بامتنان.. شعرت بالأمان وعقدت ذيلي عمودياً.. كنت سعيدة وواثقة بأنني قد فعلت شيئاً إيجابياً.. انتابتني قشعريرة وأبديت رغبة في الدخول ففتحت لي الباب وسمحت لي بمتابعتها.

أخذت الحاضنة الطفلة إلى أحد المكاتب.. قامت الموظفة وأظنها المديرة لاستقبال الضيفة الجديدة.. سألت الحاضنة: ولد أم بنت؟!

راحت الحاضنة تتأملها ثم قالت بصوت مرتفع:

- بنت زي القمر يا أستاذة!

ثم قدمتها إلى المديرة التي أخذت تقول بأسى بدا واضحاً على وجهها:

- كيف تطيعهم قلوبهم للتخلي عن هذه البنت الجميلة؟!

وضعت المديرة يدها اليمنى على رأس الطفلة وراحت تمسح عليه بحنان ثم قبلتها على جبينها وهي تقول:

- كلما جاؤوا بطفل جديد أحببت أن أكون أول من يتلقاه بيدي ويحتضنه ويقبله.. هؤلاء الأطفال نقطة ضعفي الكبرى.. إنهم ملائكة الأرض.. خلاصة الجمال الإنساني.. لا كذب.. لا خداع.. لا طمع.. لا أنانية.. لا قسوة!.. تشرق الحياة في نفوسنا حين يبتسمون.. وعندما يتألمون تضيق بنا الدنيا.. وما أكثر ما تضيق بنا الدنيا.. لأنهم ذات يوم سيواجهون قدرهم بمعرفة الحقيقة.. ويتمنون لو بقوا صغاراً.

إنهم إخوتي، ها أنا أعود من جديد إلى مكاني.. إلى بيتي.. إلى عائلتي الكبيرة.

صرخت:

- مياو.. مياو.. يا إلهي.. إنها هدى! لا يمكن لتسع سنوات ولا عشرين سنة أن تغيرها.. صوتها.. حنانها.

لم أتمالك نفسي، اندفعت نحوها، اتجهت إلى قدميها وقمت بمسح جسمي بهما.. انحنت هدى كعادتها وراحت تربت على رأسي وظهري وأنا أحاول قضم أصابعها بلطف.. لم أقاوم فرحي فرحت أتدحرج أمامها.. وهي مندهشة.. ثم التفتت إليّ وقالت للحاضنة:

- ما هذه القطة؟!

أجابت الحاضنة:

- إنها من أنقذت هذه اليتيمة.. سحبتها وأتت بها نحو باب دار الحضانة.

نظرت إليّ هدى وابتسمت لي بحنان وانحنت تربت على رأسي.. فأرخيت ذيلي خجلاً.. قلت:

- مياو مياو.. أنت هدى!

ابتسمت ولم تجب.

أردت أن أخبرها بأنني أعرفها.. ولكن يبدو أن التسع سنوات قد غيرتني عليها.. حقاً، لقد تغيرت.. يوم واحد تقضيه في الشارع يغيرك فما بالك بتسع سنين.. كم من القطط نحل جسدها.. وكم منها من فقد إحدى عينيه أو كلتيهما.. وكم منها من فقد رجله أو يده أو ذيله.. عاهات مستديمة تسببت فيها سيارات متهورة أو كانت نتيجة لتهديدات من حيوانات أخرى، أو من البشر، أو في صراع مع قطط أخرى على مساحات سيطرة أو لقمة العيش مع أنها متوفرة بكثرة في حاويات القمامة.. لا أدري، لماذا هذا الصراع؟.. كان عليّ أن أواجه تحرشات القطط الأخرى والكلاب بـي؛ فالهروب ليس حلاً جيداً في جميع الحالات. لذا أسارع في استخدام أسلوب البخ.. هذا الأسلوب الغريزي، وهو يشبه أسلوب الفحيح الذي تفعله الأفاعي قبل أن تبصق السم في أعين الحيوان الذي يهاجمها، فالمعلوم أن كل الحيوانات المفترسة لديها خوف غريزي من الأفاعي وهي تعلم تماماً أن أي تعامل خاطئ لها مع أفعى سامة قد يكون غير مأمون العواقب، لذلك فإننا نتبع نفس الأسلوب للدفاع عن أنفسنا..

الغرانيق

أنا مواطن صغير، أعيش في بلدة متواضعة، تترامى بيوتها الكئيبة على امتداد سهل أجرد، تظللها من الغرب سفوح جبال عارية تغطّي الأفق، تحاصرها إلى حد الاختناق، فيما يمتدّ البصر في الشرق إلى صحراء واسعة مقفرة تبدو دون نهاية، تثير الشعور بالظمأ والضياع بمجرّد النظر إليها، ولا تأتي منها إلاّ العواصف الرمليّة السديميّة.

ما زال بعض المسنّين يتحدّثون عن نهر غزير كان يجري في البلدة، تنمو على ضفافه بكثافة أشجار الصفصاف، والحور، والزيزفون، والجوز، ويسقي حقولاً خضراً واسعة ممتدة حتى المدى، اختفى فجأة، وكأن الأرض ابتلعته، أو ربّما كانوا يتخيّلون وجوده، لكنه اختفى، هو والحكايات القديمة عن الحقول... ومن وقتها أصبحت السهول، والبيوت، والأرواح، والكلمات جرداء، دون ذاكرة وأمسيات أحلام.

انقطعت الأمطار عن البلدة، وأصبحت لا تهطل إلاّ نادراً، حتّى في ذروة الشتاء، جفّت المياه في السواقي الصغيرة التي كان يغذّيها نهر الحكايات المختفي، فيبست الحقول التي عاشت خضراء في ذاكرة العجائز. وفي أثناء ذلك، جفت الدماء من عروق الرجال، وذابت الشهوة من عيون النساء، وتحوّل معظم سكّان البلدة إلى موظفين رسميّين.

رجال يشيخون في الأربعين، ونساء ممتلئات بكتل لحميّة باردة، تفيض بتثاقل عن أجسادهنّ خارج الثياب دون أي إثارة. بلدة خاملة، هي وسكّانها وحمامها الرابض بكسل فوق تماثيل الزعيم الجنرال، المنتشرة في الساحات وأمام المباني الرسميّة. وقد زاد من الخمول الحرّ الشديد الذي خيّم عليها في ما يبدو إلى الأبد، ما جعل الشوارع شبه فارغة من الناس والحيوانات معظم أوقات النهار.

كان هناك حديث دائم عن خطط وطنيّة لإيصال التيّار الكهربائي إلى الحارات القديمة من البلدة، من أجل إنارة عتمتها التاريخيّة الرجعيّة، وعن إمكان استغلالها سياحيّا بدلاً من أن تكون بؤرة للتمرد على «الثورة العظمى»، وذلك من خلال التلاعب بانعكاس نور الكهرباء الجديد، رمز الحداثة، على جدران البيوت الفلكلوريّة القديمة، رمز الأصالة. لكن، لا أدري لماذا استُبدلت هذه الخطط، وأُحضر إلى الحارة بدلاً من الكهرباء تمثالٌ كبير أسود للزعيم الجنرال التاريخي، يرتدي بذلة عسكريّة، بدعوى إنارة عتمتها الرجعيّة بنور الأفكار الثوريّة.

اختار التمثال فسحة أعجبته في مدخل أحد الأزقة، وقرّر الوقوف هناك منتصباً بسموّ، ورأسه مرفوع إلى سماوات المجد، محاط بهالات القداسة الثوريّة. كان التمثال عابساً ومكشراً طوال الوقت، هكذا بطبيعته الحجريّة. وعلى عكس لونه الأسود، كانت عيناه حمراوين تلتمعان في عتمة الليل، يراقب هنا وهناك الأبواب والنوافذ، يتطاول فوق الجدران الطينيّة العالية للتلصّص على البيوت القديمة التي تنفتح بفسحات نحو السماء. وكان بالتأكيد، إضافة إلى مهامّه الأمنيّة، يفكّر في شيء ما عن النسوة الشهوانيّات المختبئات منذ قرون وراء أسوار بيوتهنّ، الغارقة في تاريخ عميق من حكايات الجسد الشبق.

أخذت النسوة بإزاحة ستائر النوافذ المغبرّة بفرجات صغيرة وحذر شديد، يراقبن هذا القادم الحجريّ الغريب الذي جاء يقتحم عالمهنّ الليلي المُغلق الساكن، دون أن يتوقف عن التلصّص على نوافذهنّ بفظاظة. وكانت ما إن تنفرج ستارة، ولو بفتحة صغيرة، حتّى تقتحمها نظراته الشبقة.

وبما أنّ للحارات القديمة تاريخاً تآمرياً طويلاً ضد التماثيل الوطنية، فقد انبثق في هدأة الليل رجال ملثمون من عتمة الأزقة، وأخذوا يرمون أكواماً من النفايات في مكان انتصاب التمثال، كلّما ذهب بجولة في الحارة.

لم يحتمل التمثال العتمة الثقيلة ولا رائحة الرطوبة والعفن المقززة، فهرب متسللاً تحت جنح الظلام إلى البلدة، وجد مكاناً مناسباً يطلّ على ساحة صغيرة، وانتصب هناك مسروراً، متنفساً الصعداء. لكنه لم يدر أنه اختار مكاناً مشبوهاً، يمكن أن يسيء إلى سمعته الوطنيّة والأخلاقيّة، إذ تتجمهر دائماً هناك مجموعات عديدة من «جنود الثورة»، أمام «بيت المتعة» الوحيد في البلدة.

عندما انتصب التمثال بعيداً عن الحارات القديمة، انتشر هذا الخبر المسيء لمسيرة الثورة المظفرة سريعاً بين المواطنين الشرفاء. وبالرغم من سروره بالهروب من النظرات القلقة للنساء العدائيّات في الحارات الليليّة من وراء متاريس نوافذهنّ، شعر المواطنون بالإهانة لخروجه الذليل منها، ولانكسار كرامته الحجريّة الوطنيّة بالعتمة الثقيلة والروائح العفنة القديمة، فطيّروا برقيات إلى القيادة الثوريّة العليا من أجل الانتقام من الحارات القديمة وساكنيها الرجعيّين، المعارضين للسياسات الحجريّة المنيرة للثورة:

«نحن أبناء الثورة العظيمة ندعو «جنود الثورة» الأبطال الأشاوس لاقتحام الحارات القديمة، وتطهيرها من العصابات الإرهابيّة الرجعية التي تريد إقامة إمارات صحراوّية فيها بحدّ السيوف، والسواطير، والبلطات، والشنتيانات، وخاصّة بعد أن اعتدوا على أحد رموزنا الوطنية الحجريّة المعمّدة بدماء الثوار، وأهانوا كرامته التنويريّة. وهم يتقدمون الآن إلى ساحات بلدتنا المشهورة بتراثها النضالي، من أجل تخريبها وتدميرها، وقطع رؤوس سكّانها الآمنين على الطريقة الصحراويّة البدويّة... دام زعيمنا الجنرال خالداً، وعاش شعبنا العظيم».

وخلال بضعة أيّام حضرت من معسكرات «جنود الثورة» القريبة من البلدة عشر مدرّعات بمدافعها ورشاشاتها، ترافقها ثلاث جرّافات ضخمة بشفرات فولاذيّة خارقة للتحصينات، وذلك من أجل هدم بيوت الحارات القديمة على رؤوس ساكنيها الرجعيّين.

في صباح يوم «ساعة الصفر» انطلقت الحملة العسكريّة من ساحة البلدة الرئيسة، لكن يبدو أن المشرفين على هذه العمليّة الأمنية الشديدة السريّة غير قادرين على الوقوف إلاّ بصعوبة. وبدلاً من أن يسيّروا قوّاتهم إلى الأحياء القديمة، أعطوا الأوامـر بالتوجّه إلى حيّ حديث يقع بجانب المقبرة، إذ شاهدوا خيوط عتمة ليليّة دكناء تتصاعد من مداخن منازله على الأسطح، فساورهم الشكّ فيه. تقدّموا إليه وهدموه سريعاً على رؤوس ساكنيه، ورجعوا إلى معسكراتهم فرحين بتنفيذ مهمّتهم بدقّة شديدة، وهم يهتفون بحياة الزعيم الجنرال المفدّى.

وانتهت الحادثة، ولم ترجع الجرافات أبداً إلى الحارات القديمة.

أشاع أحد المغرضين خبراً في البلدة بأنّ الحملة العسكريّة بجرافاتها، التي لبّت نداءات المواطنين الشرفاء، لم تحضر أصلاً إلاّ من أجل إخماد بوادر تمرّد ساكني الحيّ الحديث، الواقع قرب المقبرة. فقد أخذ ساكنوه يلغطون كثيراً في الفترة الأخيرة بما يدفنه ليلاً جنود معسكرات الأشغال الشاقة من جثث فيها، بعدما راقبوهم عن كثب من خلال عتمة نوافذهم الليليّة. وإضافة الى ذلك، فالتمثال يقف الآن منشرح الصدر في الساحة، ويمتع نظره في الوقت نفسه بملاحقة النساء المقيمات في «بيت المتعة»، اللواتي يتركن الستائر مفتوحة بالكامل أمامه ليل نهار، مسرورات بسهام نظراته الحجريّة الشبقة التي تكاد تخترق قلوبهنّ الحزينة، فلماذا إزعاجه، وهو لا يرغب في العودة الى الحارات القديمة المعتمة؟

back to top