الفرعون الوحيد الذي لم يزيف شكله أو تاريخه

نشر في 09-12-2017
آخر تحديث 09-12-2017 | 00:04
 عبداللطيف المناوي تمر في حياتنا، أفراداً وشعوباً، شخصيات تترك فينا ولنا آثاراً تعيش فينا، وتشكل حاضرنا ومستقبلنا، وقد يستمر هذا التأثير إلى نهاية حياة الأفراد، ونهاية تاريخ الشعوب.

ليس مهماً كم يطول عمر من يمر في حياتنا ليؤثر فينا، أفراداً وشعوباً، وليس مهماً كم بقي معنا وبقينا معه، فالتأثير بالتكوين والتشكيل هو فعل لا يرتبط كثيراً بحدود زمنية، وهكذا يمر علينا كثيرون، أفراداً وشعوباً، تطول فترة البقاء أو تقصر، ولكن لا يبقى معنا إلا من شكل حياتنا.

في الحضارة المصرية القديمة، دائما استوقفني ذلك الجمال، وتلك المثالية القصوى في التعبير عن فراعنة مصر وحكامها، سواء في النقوش أو التماثيل، نرى أشخاصاً مثاليي التكوين والأبعاد بدرجة تكون مبالغة في رغبة تقديمهم في صور أقرب إلى المقاييس المكتملة لصورة الرجل أو المرأة، فمن منا رأى تمثالاً أو نقشاً لفرعون بدا فيه في غير تلك الصورة المثالية؟ أظن لا أحد منا يمكن أن يدعي ذلك، إلا في حالة واحدة حالة أخناتون، ذلك الفرعون الذي حكم مصر 17 عاماً في الفترة ما بين 1353/1336 قبل الميلاد، حكم منها خمسة أعوام باسم أمنحتب الرابع، قبل أن يعلن التوحيد في مصر وكل البلاد التابعة لها، ويغير اسمه إلى أخناتون، هذا الفرعون الذي حكم تلك الفترة البسيطة، اختار أن يواجه شعبه وإلهه، وأن يقف أمام التاريخ بصورته الحقيقية دون تجميل أو تزييف، اختار أن يظهر في لوحاته وتماثيله برأسه المستطيل، ورقبته الطويلة وشفاهه الغليظة، اختار أن يواجه الحقيقة مدركاً أن الحقيقة هي جوهر ما يعرف، ويمكن أن يعلم به الآخرون، حتى إنه عندما كان يناجي إلهه، كان يصف نفسه بأنه "العائش في الحقيقة"، ثم اتخذ ذلك وصفاً له.

اعتُبِر أخناتون مؤسس الوحدانية في مصر القديمة، حيث منع تقديم القرابين البشرية التي كانت تقدم إلى الآلهة في المعتقدات المصرية القديمة، ومنع صيد الحيوانات لمجرد المتعة، وغيّر عاصمة البلاد طيبة إلى مدينة "أخيت ـ أتون" بتل العمارنة ووصفها في نصوصه بـ"المدينة الطاهرة"، بعد موته عادت العاصمة إلى طيبة، وأهمل اسم أخناتون في القوائم الرسمية التاريخية، وسموه "المهرطق"، وعادت نقوش وتماثيل الفراعنة كما كانت مثالية وجميلة، يبدو فيها الفراعنة في أجمل صورة وأقوى حالة، لا يظهرون كبشر عاديين يمكن أن تكون أنوفهم طويلة أو رؤوسهم غير متناسقة، وأيضاً لا يظهرون كبشر يخطئون ويصيبون، وبشر يشعرون بالضعف، ويعترفون بأنهم ليسوا كاملين.

قد يكون أخناتون الأقل صوتاً بين كل هؤلاء الفراعنة، قد يكون المهمل، في مراحل تاريخية عديدة، قد يكون أقل جمالاً في شكله وصوره وتماثيله التي اختار أن تكون كذلك، ولكن المؤكد أنه الأكثر إنسانية، والأكثر حضوراً بين الناس. قد يهاب البشر تمثال رمسيس الثاني القوي المحارب، ولكنهم بالتأكيد يشعرون بالحب والألفة والإنسانية، عندما يرون تمثالاً لأخناتون الذي يشبههم، ما يوازي أهمية أخناتون الحاكم والموحد الأول في نظري، هو أخناتون الإنسان، البشر، المعلم.

ليس درساً في التاريخ، ولكن لا أدري لماذا احتلت ذهني صورة أخناتون، وسيرته كلما مرت مرحلة صعبة أعتقد في استحضاره، وكأني أريد أن أتذكر أثر البشر في تاريخنا، أفراداً وشعوباً، وكيف يمكن لهم أن يحفروا فينا ويشكلوا حياتنا ومستقبلنا دون ضجيج، وأن يعلمونا أن نعيش الحقيقة، حتى بعدما يغيب "العائش في الحقيقة".

back to top