صباحات نجمة إدريس

نشر في 05-11-2017
آخر تحديث 05-11-2017 | 00:00
 ناصر الظفيري في سنة ما من سنوات الثمانينيات ذهبت لحضور محاضرة بعنوان "الموت في شعر السياب"، لمحاضِرة لا أعرفها اسمها؛ نجمة إدريس، ستدرس الأدب الحديث في جامعة الكويت.

الموضوع في وقته كان مهماً، لأسباب، أهمها: تغيُّر المناخ الكلاسيكي للنقد في قسم الآداب، والذي كان يسيطر عليه الأدب والنقد القديم، إلا من حالات نادرة ليس لها تأثير كبير. ونجمة إدريس، المحاضِرة التي عرفت فيما بعد هي الناقدة المغايرة، وهي الشاعرة أيضا التي تبنت القصيدة الحديثة وتفاصيل الحياة اليومية، بعيدا عن زخارف اللغة ومحاسن البديع، فجاءت قصيدتها نابضة حية، كحياة بسيطة لا تكلف فيها.

لم يعد يحتاجُ الشعرُ

إلى الكلام (الكبير)

أو الكلام الكثير

فعفواً أيها المتحذلقون

اغربوا عن لغتنا

رجاءً...

بالتأكيد سرقت نجمة إدريس الناقدة والأستاذة نجمة الشاعرة، كما يحدث للأكاديمي عادة، لكنها في عملها الأخير (صباحٌ يشرب البرتقال) حافظت على شاعريتها، رغم ما أهدرته النظرية من وقت مقابل الشاعرية

قبل ثلاثين عاماً

أضعتُ الكثيرَ من الوقت

وقبل عشرين عاماً

أضعتُ الكثيرَ من الوقت أيضاً!

وفي السنواتِ السبع ِالأخيرة

أهدرتُ وقتي كمقامرٍ أخرقَ

على طاولة خضراء

ما يثير الإعجاب في العمل الشعري لنجمة إدريس، هو الابتعاد عن التكلف اللغوي، تفاصيل الجملة الشعرية واختيار ألفاظها العادية تأتي مطابقة لتفاصيل حياتية بسيطة بعيدة عن التكلف والتعقيد. هي هذه الأحداث التي تمر من أمامنا دون أن نمنحها الاهتمام الذي تستحق. اللغة تخلق المشهد بعفوية كاملة، ولا يحتاج المشهد لأكثر من هذه اللغة/اللون الجميل لصياغته. القصيدة تتحوَّل هنا إلى كائن حي يعيش عادية اليوم، قصيدة مشابهة لحياة الشاعرة، تمارس طقوسها البشرية المعتادة كل صباح. القصيدة التي تقمصت روح البشري، فاهتمت بزينتها صباحا، وعادت لطبيعتها مساء، ومطبخها وجلستها الأخيرة تطل من النافذة لبسطاء الناس.

لم تلبس الشاعرة القصيدة فقط كيانها البشري، لكنها فعلت ذلك أيضا حين أنسنت الكآبة، أن تعيش الكآبة بما يشبه التقبل للحالة التي تستتر خلف النص في هذه الممازجة بين الاحتفاء بما لا يستحق الاحتفاء به وبين الشعور الخفي بالوحدة. فما يبدو مشهدا احتفاليا في الظاهر هو في الواقع مشهد يدعو للحزن. كمن يرسم بالكلمات استطاعت الشاعرة أن ترسم المشهد بشفافية تسمح لنا برؤية واقع موازٍ نقيض خلف النص.

مشّطتُ شَعرَ الكآبة

وألبستُها شالي الأخضر

وحذاءً رياضياً

أجلستها في سيارتي

وانطلقنا للنزهة معاً

تجربة النص الشعري لدى نجمة إدريس هي تجربة الشاعر المدرك لحداثة نصه وانسيابيته دون عناء، وهو مدرك بأن الشعر ينسحب أمام الرواية إلى الخلف في القراءة والانتشار. الشعر الذي كان نص العامة وناقل خبرهم وإعلامهم الوحيد يتحول إلى نص النخبة مقابل الرواية، التي أصبحت نص العامة. وهذه النخبوية للشعر اليوم تجعلنا نحتفي بالنص الشعري، رغم ندرة كتابه، فيبدو أنه العمل الأصعب، وصاحبه اليوم كمن يقبض على الجمر.

back to top