حبر و ورق

نشر في 04-11-2017
آخر تحديث 04-11-2017 | 00:02
No Image Caption
أخي تشي

عرض وتحليل محمد أحمد المجرن الرومي

بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة ارنستو تشي جيفارا، ذلك الثائر الذي ترك بلاده الأرجنتين عام 1953 ليلتحق بالثوار الكوبيين، وعلى رأسهم الثائر الكوبي فيديل كاسترو ورفاقه ضد حاكم كوبا «باتيستا». وقد قرر أخوه الأصغر خوان مارتن جيفارا أن يؤلف كتاباً عن أخيه الثائر الذي شغّل قارة أميركا الجنوبية بتنقلاته ومغامراته وانضمامه إلى الثوار في القارة الأميركية ومنها كوبا عام 1953. انضم أرنستو تشي جيفارا إلى الثوار الكوبيين وكان يقود السرية الثامنة (سيرو ريدوندو) ضمن قوات الجيش الشعبي (إيجير ريد بلد) التابعة للزعيم الثوري الشاب فيدل كاسترو ومنظمته الثورية حركة 26 يوليو، بهدف إسقاط رئيس كوبا (فولغينسيو باتيستا). واستمر الكفاح حتى عام 1959 عندما اسقط الثوار الكوبيون باتيستا عن الحكم، واصبحت كوبا بعدها دولة مناهضة لجارتها الكبرى الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت معها في عداء حتى عام 2016 عندما أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

في هذا العرض سنتطرق لما جاء في الكتاب حول نشأة تشي جيفارا وأسرته وبداية انضمامه للثورة الكوبية وزواجه وابنائه ووفاته والكتب الصادرة عنه والأفلام.

نشأته

تحدث المؤلف عن ولادة أخيه في الرابع عشر من يونيو عام 1928 في مدينة «روساريو» عاصمة مقاطعة سانتافي الأرجنتينية، في بيت مصنوع من جذوع الأشجار في أرض موحشة. كان والداه يسافران على متن مركب ليذهبا إلى أقرب قرية مأهولة بالسكان ليتزودا بالمؤن والحاجيات المنزلية، ونظراً للرطوبة المرتفعة في بعض الأماكن التي سكنوا بها في ما بعد، أصيب ابنهما ارنستو بالربو الذي لازمه طوال حياته، ولم يجدا العلاج الناجح له حتى نصحهم الأطباء بالانتقال إلى قرطبة، وهي منطقة جبلية مرتفعة يناسب جوها صحة ابنهما.

والداه

بحسب الكتاب، تزوّج والدا جيفارا عام 1927، وكانت أطوار الزوجين غريبة لم تخلُ من المشاكل، إذ اعترضت عائلة الزوجة على هذا الزواج، لأن الزوج لا مؤهلات له وكان لعوباً، وعلى النقيض كانت الزوجة من عائلة محافظة ومتعلقة بالكنيسة، وكان الأب منبوذاً من عائلته أيضاً. ويفند الكاتب ما ورد في بعض الكتب الذي وصف العائلة بأنها من طبقة ارستقراطية برجوازية، فيما الحقيقة غير ذلك، لأنها لم تكن تملك السلطة أو المال. كان والده يحب المال ويجري وراءه من دون فائدة ويصرف ما يحصل عليه من أموال ولا يحتفظ في جيبه بأية نقود.

كان الزوج يؤمن بنظرية «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، أما زوجته فتخالفه الرأي ونظريتها هي «غناك يوم فقرك دوم». ورغم أن عائلتها غنية إلا أن الزوجة حرمت من الميراث لأنها تزوجت من رجل من دون موافقة أسرتها، باعتبار أن القانون ينص على حرمان الفتاة من الميراث في حال تزوجت في سن أقل من 20 عاماً من دون موافقة الأهل. أدت هذه المشاكل إلى الطلاق رغم إنجاب الأبناء والبنات، ورغم الحياة الأسرية المضطربة برز ارنستو جيفارا في هذه الأسرة.

ويصف الكاتب بيت ارنستو بأنه بيت للجنون والمجانين يقوده الأب.

ظهرت على ارنستو جيفارا، في سن مبكرة جداً، علامات تدلّ على أنه سيكون شخصية قوية ومتميزة. كان يميل إلى الخجل والحياء وفي الوقت نفسه كان جريئاً، وكان زملاؤه يعجبون به ويضعون أنفسهم تحت قيادته، إذ كانت لديه قدرة وقابلية فطرية على القيادة.

رياضاته

كان ارنستو يمارس رياضة الغولف ويتفوق على أقرانه، وفي الوقت نفسه، كان لاعباً شرسا في الرغبي حتى أن اصدقاءه لقبوه «فوريبوندو» أي الغضوب أو الهائج أو الحانق. كان يستحوذ على الكرة دائماً وكان لقبه الآخر «شانشو» أي الخنزير، لأن أنفه أفطس ونادراً ما يستحم بعد المباراة، كذلك كان يحب ركوب الدراجات النارية ويسافر الى مناطق بعيدة حتى إلى دول مجاورة للأرجنتين.

دراسته وثقافته

درس جيفارا الطب ولكنه نادرا ما مارسه إلا أثناء الكفاح في كوبا، كان مثقفاً يقرأ لكارل ماركس وانغلز وفرويد وبودلر وفيكتور هيغو وجان بول سارتر لأنه كان يتكلم الفرنسية أيضاً.

بداية النضال

عام 1953 غادر بيونس أيرس عاصمة الارجنتين متجهاً إلى كوبا عبر دول عدة حتى وصل جبال «سيبرا مايسترا» في كوبا، وبدأ النضال للإطاحة بنظام باتيستا. عندما غادر بلاده كان من دون لحية، وأثناء النضال بدت اللحية ملازمة له حتى وفاته عام 1967م. ارتدى طوال حياته بدلة عسكرية لونها أخضر زيتوني وحزاماً عريضاً كاكي اللون وقبعة سوداء ذات نجمة حمراء وخاصة به كقائد. أكسبه هذا اللباس المميز ثقة وهيبة ووقاراً وجاذبية (كاريزما) واستحق أن يكون القائد والزعيم.

زواجه

أثناء فترة النضال في جبال سيبرا مايسترا - التقى فتاة كوبية كانت من ضمن الثوار اسمها اليدا مارش، تزوجا ورزقا بأربعة أبناء، سيلينا طبيبة بيطرية تعمل في هافانا، كاميليو يدير مركز وارشيف والده، هيليز درس القانون بالاتحاد السوفياتي، أليدا طبيبة.

وكانت زوجته من الثوار الذين حاربوا مع كاسترو ورفاقه في النضال سيروا ريدوندو والقائد كاميلو سبنفبغوس الذي يرجع له الفضل، كقائد سرية، بالاستيلاء على مدينة «سانت كلارا»، وقبلها بأسابيع خرب جيفارا ومجموعته خطوط السكة الحديد التي كان يسير عليها القطار المدرع الذي ينقل اسلحة وذخائر نظام باتيستا، ما ساعد على سقوط المدينة التي كانت مفتاح سقوط العاصمة كوبا في ما بعد ونجاح الثورة.

تشي

سبق اسمه بلقب «تشي» أطلقه عليه رفاقه اثناء الكفاح بالجبال الكوبية، وهذه الكلمة تعني علامة تعجب، وأيضاً تطلق على الأشخاص المتحدرين من جنوب تشيلي وجنوب غرب الأرجنتين، ويطلقها الكوبيون أثناء النضال على الأشخاص الآتين من تلك المناطق ومن بينهم تشي جيفارا.

وزير للصناعة

بعد نجاح الثورة الكوبية عين تشي جيفارا وزيرا للصناعة في حكومة كاسترو وزار في تلك الفترة دولاً في اسيا وإفريقيا ودولاً اشتراكية، ومثّل كوبا في مؤتمرات عدة، وعندما سُئل، في مقابلة تلفزيونية على قناة (CBS) الأميركية عام 1965، حول تصوره لمستقبل العلاقات الأميركية الكوبية رد: «ما نريده أن تدعنا الولايات المتحدة الأميركية وشأننا. نحن لا نريد نزاعاً، نريدكم أن تنسونا وهذا كل ما نطلبه وهذا طلب بسيط جداً».

علاقته مع الاتحاد السوفياتي

رغم أن كوبا تعتبر من الدول المنضوية تحت المعسكر الاشتراكي إلا أن جيفارا لم يكن يؤيد سياسة الاتحاد السوفياتي، لأنها، حسب رأيه، لا تطبق الماركسية الحقيقية، ويفضل عليها الصين، متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا ما حصل لاحقاً، ما سبب ضيقاً للاتحاد السوفياتي وعلاقته مع كوبا، حتى قدم جيفارا استقالته وغادر الى بوليفيا للنضال.

تساؤلات

هل خان فيدل كاسترو زميل الكفاح تشي جيفارا حينما تركه يذهب إلى أدغال بوليفيا حيث لقي حتفه هناك؟ هل أرسله ليخوض الحرب في بلد اخر ليتخلص منه في سبيل إرضاء السوفيات الذين كان تشي جيفارا يوجه انتقادات لهم في خطاباته؟

يرد شقيق جيفارا، مؤلف الكتاب على هذه التساؤلات، بأن أخاه لم يرغب في البقاء في كوبا، بل أراد النضال في سبيل الاستقلال والمساواة والقيم الماركسية في البلدان الأخرى، ويضيف أن جيفارا ترك كوبا بمحض إرادته وبرغبته، وذلك واضح في مراسلات جيفارا وكتابات حول هذا الموضوع.

مقتله

توفي أرنستو تشي جيفارا في التاسع من أكتوبر 1967 في قرية (لاهيفويرا) النائية في جنوب بوليفيا، وكان ألقي القبض عليه وأسر في ليلة السابع من أكتوبر في أعماق وادي (كيبراداديل)، وكان جيفارا ومجموعته من رجال حرب العصابات لجأوا إليه وتحصنوا فيه بعدما أدركوا أن الجيش البوليفي حاصرهم بعدما انهكهم الجوع والعطش.

يضيف الكاتب أن جيفارا قتل بشرف محافظا على وقاره وأن آخر كلماته كانت: «اهدأوا واحسنوا تسديد بنادقكم فانكم ستقتلون رجلا».

كان الجندي المكلف بقتله ويدعى (ماريو ثيران سالازار) يرتجف وخرج من القاعة التي تم اعدامه فيها، لكن رؤساءه أجبروه على العودة وقتل جيفارا بعد احتساء كمية كبيرة من المشروب.

ويتابع شقيقه: «كان أخي واقفاً شامخاً، أرادوا له أن يموت جالساً لإهانته وإذلاله لكنه احتج رافضاً ذلك وكسب تلك المعركة الأخيرة».

كان من بين سجايا ارنستو العديدة أو مواهبه الكثيرة أنه كان يجيد فن الإقناع. ويتحدث الكاتب عن اختفاء جثة شقيقه في بوليفا عندما ذهب لاستردادها وكانت السلطات هناك ترسله من مدينة إلى أخرى ليغيروا مكان الجثة.

في عام 1967 لم تعرف اسرة ارنستو تشي جيفارا مكان وجوده، وكان غادر كوبا بسرية تامة، إلا ان فيدل كاسترو ومقربين منه عرفوا أنه ذهب إلى بوليفيا ليشارك في حرب لتحرير الشعب البوليفي.

يكشف المؤلف كيفية استغلال مقتل اخيه تجارياً في تلك القرية البوليفية النائية، فعندما سأل أحد السكان المحليين عن مكان أسر جيفارا، طلب ذلك القروي مبلغاً كبيراً من المال وعندما عرف أنه شقيق جيفارا اعتذر وغادر المكان.

يصف المؤلف المكان الأخير الذي كان فيه شقيقه قبل القبض عليه بأنه شبه صحراوي ما سهل القبض عليه، وكان مستلقياً على شجرة يوم الثامن من اكتوبر 1967 قبل مقتله بيومين.

كيفية القبض عليه

حول كيفية القبض على جيفارا ومن وشى به، يقول المؤلف إن الاستخبارات الأميركية نقلت معلومات عن وجود جيفارا في الأراضي البوليفية للسلطات هناك، فتم اعتقاله بعدما قبض على أحد أعوانه، وتحت التهديد اعترف ذلك المقاتل بمكان وجود جيفارا في (لاهبغويرا) قرية نائية لا يعرفها أحد. ولكن بعد القبض على جيفارا وقتله اشتهرت وأصبحت مزاراً للصحافيين والزوار.

ويضيف المؤلف أنه في العاشر من اكتوبر 1967 هبطت ست وثلاثون طائرة على أحد مدارج مطار في مدينة (فاليغراند) القريبة من قرية (لاهبغويرا) حيث نقلت جثة جيفارا ومن معه الى تلك المدينة، وقرر الجيش البوليفي عرض جثة جيفارا في وسط حديقة المستشفى المحلي لمدة سبع عشرة ساعة ليكون عبرة لغيره من «المخربين» كما يصفهم. وضعت جثته شبه عارية على مصطبة رقيقة من الإسمنت، كانت قدماه حافيتين وعيناه مفتوحتين، يقال إن رجل دين اغمضهما له في القرية التي قتل فيها.

يقول شهود عيان إن الطبيب المكلف بتنظيف الجثة (هو أحد المعجبين سراً بجيفارا) أراد تحنيط الجثة، ولكن لضيق الوقت اكتفى بأن اقتطع قلبه ليحفظ في زجاجة، غير ان المؤلف غير مقتنع بهذه الأحاديث الخرافية. في النهاية تحوّلت شخصية تشي إلى أسطورة تثير الرهبة والإعجاب.

يشير المؤلف إلى كيفية استغلال مقتل جيفارا كتجارة رائجة سواء في عمل سياحي أو تجاري الى جانب بيع القمصان والرايات التي تحمل صورة الثائر الأرجنتيني.

اختفاء الجثة

حول كيفية اختفاء جثة اخيه ارنستو تشي جيفارا يقول مؤلف الكتاب: اختفت جثة ارنستو على نحو غامض في صبيحة الحادي والعشرين من اكتوبر1967 ، وفي وقت لاحق أسرّت راهبة تخدم في المستشفى إلى الراهب الفرنسيسكاني الاخ أناستاسيو بأنها سمعت ضجيجاً وصخباً ضمن موكب في ممرات المستشفى حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف تلك الليلة. مما لا شك فيه ان اشاعات بدأت تسري حول ملابسات اختفاء جثة «تشي»، وظهرت الحقيقة بعد عشرين سنة حيث دفن في مقبرة جماعية.

يبقى تشي جيفارا من الأشخاص الذين اهتم بهم العالم حتى وقتنا الحالي، وهو أسطورة لا يمكن الإغفال عنها، فقد وُضعت كتب عن حياته ونضاله وكُتبت أبحاث حول ذلك الثائر الذي ترك مهنة الطب في الأرجنتين، وحارب في كوبا وقتل في بوليفيا، ونُفذت أفلام عنه، منها فيلم «تشي» للمخرج ريتشارد فليشر بطولة الممثل عمر الشريف.

يضم الكتاب بعض الصور عن طفولة أرنستو تشي جيفارا وعائلته ومغامراته وكفاحه.

كتاب «أخي تشي»

تأليف خوان مارتن جيفارا وأرمل فنسن

إصدار المكتب الثقافي العربي- المغرب 2017

ترجمة حسين عمر

فُور ستبس داون

محا راجي اليوم جميع رسائل داني الكك الخطيّة من هاتفه. كان الهاتف مثقلاً بالخطابات المرسلة والواردة. وكانت الجملة التي تنذر بتضاؤل ذاكرة الجهاز المحمول قد لازمت أي عمليّة في هاتفه البسيط منذ فترة طويلة. وكان تارةً يلجأ لمسح آخر رسائل تلقّاها من موظّف في المكتب، أو ينتقي مرغماً رسالة من هنا أو من هناك بعد أن يعيد قراءتها، يعترف في قرارة نفسه بعدم جدواها على مضض، ويعود فيمسحها علّه يستعيد بعضاً من ذاكرة هاتفه القديم. رسائل زاد عمرها على سنتين أو أكثر، تكدّست منذ رجوعه إلى البلاد وأثقلته بأخبار وأسئلة. رسائل معايدة تذكّره بمناسبات خلت. لم يكن يستعيد قراءتها أو يفتح أيًّا منها. كان وجودها يطمئنه ويرضيه. كأنّه امتلك الحدث والأيّام، فيوصد الطريق أمام النسيان.

كان كلّما اختزل رسالةً من ذاكرة الجهاز وخزه شيءٌ ما في صدره.

يحبس أنفاسه لحظة ويكاد أن يغمض عينيه. يضغط على زرّ اليسار. يلغي الرّسالة. يبعد جهاز الهاتف عنه كمن يهرب من فعل مشين.

لم يعرف كيف تجرّأ في هذا اليوم بالذات على فعلته هذه. رحل داني الكك متوجّهًا إلى الولايات المتّحدة، ولم يعد. اشتدّ الحرّ على السّواحل ونزح الكثيرون إلى الأعالي. وباتت أعطال الكهرباء تتكرّر حتى داخل العاصمة. أحسّ بإعياء شلّ حركته، فلازم البيت ولم يبرحه إلاّ في ساعات الصباح قاصداً مبنى كليّة العمارة. رحّب بعرض رئيسة القسم، ووافق رأساً على تدريس مادّتين في فصل الصيف. عشر ساعات تتوزّع على أربعة أيام في الأسبوع. فبعد أن تقلّصت ساعات دوامه في المكتب، بات ينفّذ رسوماته من بيته الجديد في شارع أرتوا، ويرسل الملفّات المنجزة عبر الإنترنت عند انسدال اللّيل.

بدّل مع قدوم فصل الربيع عادته اليومية بزيارة سارية عند المساء. يعود من المكتب في محيط المتحف الوطني، ويمرّ بشارع سليم البستاني ومنزل سيزار حيث قطنت أمّه منذ انتهاء الحرب. تعدّ سارية عشاءً خفيفاً. تقطّع شرحات البصل وتضعها في صحن من صحون فناجين القهوة المموّجة الأطراف، تضيف قطعتين من كبيس الخيار، ثمّ ترشّ البهار بوفرة على رؤوس البطاطا المسلوقة. تنهض بصمت من مقعد غرفة الطعام، كلّما تذكّرت غرضاً كالملح أو الزيت أو سلّة الخبز الصفراء. تنهمك بتقشير وهرس ما أمامها، ثمّ تبدأ بالمضغ ساهيةً. ينكفئ عن مراقبتها، ويغيب في مشهد الكراتين المتكوّمة في أرجاء الغرفة.

لا يهتدي إلى قواه لمساعدتها في رفع أطباق المائدة. يدير ظهره للخزانة وهي جاثمة أمام المجلى. يتصفّح بعض الأوراق والصّحف المتكدّسة، رتّبتها سارية فوق خزانة من خزائن سيزار القديمة. تتقصّى عن معاملات المصرف وأخبار شقّتهما الجديدة. تزوّده بأوعية بلاستيكيّة ملأى بالطعام يحملها معه في اليوم التالي إلى مكتبه. يخرج من عندها ويسلك الطريق صعوداً إلى أن يبلغ العمود الرومانيّ، فيلتفّ يميناً أمام كلّيّة الحقوق، ثمّ يسلك الخطّ المستقيم باتّجاه وزارة السياحة. يتأنّى في مشيته عند سينما الإتوال، ويحدّق بالأضواء المنبعثة من أعالي البناء تنيز الواجهات الزجاجيّة.

تغيّرت مواعيد تنقّلاته، فكسرت رتابة حياته الجديدة في بيروت. وصار إذا خرج نحو المكتب، عاد في أوقاتٍ غير منتظمة وسلك الطرقات الداخليّة تجاه شارع الاستقلال فتلّة الدروز نزولاً نحو شارع أرتوا. لم يعد يترك شقّته الجديدة إلاّ نادراً. يفتح الشبابيك ولا يقفلها حتى عندما يعود التيّار وينطلق المكيّف. يسعى ألاّ يعتاد على الاسترخاء خوفاً من لحظة مفاجئة، تبدّد شعوره المطمئنّ. يبقي الوضع على حاله. فحين يعود التيّار الكهربائيّ، ينتابه إحساسٌ بالرّاحة. يتوق للثبات ولا يجده.

لم يفلح صمت سارية وانكفاؤها عن سؤاله عن تحرّكاته بإقناعه بالإقامة معها في شقّة سيزار. أحجمت عن سؤاله عن أحواله في البيت الجديد، وواظبت على إكرامه بوجبات طعام للغداء تعلّمتها من خالتها فيوليت. تمرّست منذ تقاعدها بانتقاء الوصفات السهلة، وكرّست لكلّ يوم من أيّام الأسبوع طبقاً خاصاً.

شعر راجي أنّه أخطأ عندما أقرّ لها بسبب إصراره على السّكن بمفرده في شقّة صغيرة في شارع أرتوا. تمنّى لو كان اكتفى بالقول إنّه اعتادَ العيش بمفرده في سنين الدراسة، أو إنّه يتحسّب لزيارات فراس المتوقّعة في عيدي الميلاد ورأس السنة أو في شهر تشرين الأوّل بداية الخريف. لم يجد مفرّاً من إخبارها أنّ أعمال البناء في الشقّة الجديدة قد توقّفت، وأنّه سمع من المهندس المدنيّ أنّه رصد انحرافاً في عمود الخرسانة في الطابق الخامس. ردّت شركة البناء الخطأ لتعثّر فنّي، واتّهم المهندس المدني المقاول بالتقصير. أفرغ كلّ ما عنده وزوّدها بكافّة التفاصيل، بينما كانت تغرف بملعقة خشبيّة ما تبقّى من الحساء في القدر المعدنيّ، وتسكبها في وعاء البلاستيك. تستمع ولا تحرّك ساكناً. تبحث عن تعليق إيجابيّ تكسر به إيقاع الموقف. كأن تقول مثلاً إنّها، بالمختصر، راضية بالبقاء في بيت سيزار إلى حين يأتي من ينذرهم بإخلاء العقار متى تمت صفقة بيعه، ومصير العقار مرهون بخروج المستأجرين الأرمن في الطابق الثاني المتشبّثين بتعويض خياليّ.

تراجع راجي في سرده أخبار بناية شقّتهم المنتظرة. اصطنعت ابتسامة صفراء لتوهمه أنّ لا ضرر من التأخير، وضعت الوعاءين في كيس بلاستيكي أبيض كان استخدمه ليحمل به الأوعية الفارغة، ثمّ التفّت حول نفسها بحركة خاطفة، كأنّها تبحث عن غرضٍ ما تضيفه إلى زوّادة ابنها لليوم التالي.

أيقنت أن انتظارها في بيت سيزار سيطول أكثر، وأنّها لن تنتزع من ابنها أيّ وعدٍ جديدٍ بالبقاء إلى جانبها. ها هو قد أصبح رجلاً قادراً على دفع بدل الإيجارات الجديدة، والسّفر مرّةً أو مرّتين في السّنة. عمل في مكتب للهندسة المعماريّة والمقاولة في جوار مبنى المتحف الوطنيّ، وما لبث أن بدأ تعاقده في الجامعة للتدريس. استغربت في البدء كيف لم يقدم على شراء سيّارة إسوةً بسائر الشباب من جيله، وخشيت أن يكون قد بدأ يبدّد مدخوله على أمور طارئة أخرى. أسمعها مراراً أنّه يرتاد مقهىً في شارع المقدسيّ أيّام السبت، لتحضير الدروس النظريّة بعيداً عن بيته وبيتها، وأنّ غرف المنامة المظلمة إلى جانب الحديقة الخلفيّة في شقّة سيزار، قد لا تهيّئ له جواً أفضل للعمل من شقّته في شارع أرتوا. فهو، في كلّ حالٍ يروّح عن نفسه بالتنقّل بين المقاهي المنتشرة. يتناول الغداء بمفرده، ويكمّل قراءاته، ثمّ ينزوي في مقعد خلفيّ عند العصر يحتسي كأساً أو كأسين من النبيذ الأحمر، يلملم قصاصات الورق ويعود بعدها إلى بيته.

back to top