ما تحاولش!

نشر في 02-11-2017
آخر تحديث 02-11-2017 | 00:00
 مسفر الدوسري "ما تحاولش تشوف حقيقة حدّ كاملة".

نصيحة من ذهب سالت على هيئة نغم من بين شفتي المطربة المصرية شيرين عبدالوهاب، فملأ ضوؤها زوايا القلب، لتشرع الأبواب للبصيرة، لترى ظلمة جهلها، فتسلك وجهة الشمس!

كثيراً ما نسعى جاهدين لمعرفة الحقيقة الكاملة لشخص ما، في محاولة للوصول إلى الصورة الكاملة له، متبعين كل الوسائل والطرق للوصول إليها، سواء عن طريق قراءة المواقف قراءة عقلانية وتحليلها منطقيا، أو من خلال البقاء متيقظين فطنين، لعل إشارة من السماء تبدو، فتزيح شيئاً من الحجب عن أعماق هذا الشخص وخفاياه، فيتبين لنا كله في أكمل نقصه، وقد لا يتوانى البعض من أجل هذه الغاية عن اللجوء للعرافات وقارئات الكف والفنجان وضاربات الودع، بحثا عن كشف جديد يكمل صورة هذا الآخر، حتى لا يبقى ندبا صغيرا في ملامحه ولا أثر جرح مختبئا بين حناياه، أو أثر لتجاعيد في روحه إلا وأظهره!

نظن أننا بذلك نحمي قلوبنا من أن تصبح رماداً، ومآقينا من التصحّر، بعد أن تفقد مخزونها من الغيم، وأصابعنا من ناب الندم، ومن أن تصبح مصائر عواطفنا أوراقاً خريفية جافة يلهو بها أطفال الريح وقت فراغهم، وأن تغدو مشاعرنا أهزوجة صفراء في فم الآه الملتهب، متخذين من نباهتنا وحصافة فكرنا حصننا الحصين وصراطنا المستقيم للوصول إلى اليقين.

نكاد نتفق أن معرفة الحقيقة الكاملة وغير المنقوصة واحة أماننا من الغدر والخيانة والخذلان والخديعة وتصلب الشرايين، وكل ما يخفي لنا الزمن خلف ظهره من الطعون ومواقد الألم، نستنزف كل وقود أرواحنا للوصول إلى تلك الحقيقة، والتي غالباً ما تكون هي السبب في إصابتنا بكل ما كنا نحاول أن نتحاشاه. نكتشف متأخرين أننا كنا نهرب بالاتجاه المعاكس، وأننا كنا نمضي بكل حماس وعزيمة صوب ما كنا نفرّ منه.

لا توجد هناك حقيقة كاملة في الحياة لا تشوبها شائبة نقص، وإن وجدت، فلن تكون بأي حال من الأحوال كاملة البهاء والجمال ونقية لا تشوبها شائبة من بشاعة. البحث عن الحقيقة الكاملة بمثابة البحث عن طعم الحنظل المفقود، والوجع النائم.

البحث عن الحقيقة الكاملة في حقيقته ليس إلا محاولة لإثبات أن فرحنا ناقص، وأن لوجه قمرنا المنير جزءا آخر مظلما لا نراه، وأن زرقة البحر تخفي تحتها سيرة الغرقى. إن الوصول لتلك الحقيقة يفسد علينا شيئا من فرحتنا، التي ظننا أنها مكتملة، ويصادر شيئا من بهجتنا بضوء القمر، الذي ظنناه بدراً، ويسرق شيئا من نسيج شعاعه، ليجدّله حبلا يخنق احتفاءنا به، ويحرمنا متعة افتراش البحر سجادة زرقاء تخفي تحتها حدائق المرجان.

الحقيقة الكاملة تقوم غالبا بعمل دنيء يشوه جمال بعضها، وتحرمنا القدرة على الاستمتاع بما يسعدنا منها. إنها تسلب من راحة قلوبنا الراحة، وتقتلنا بالخذلان!

إن في بعض جهلنا نعمة لنا، فمن غير الحكمة أن يسعى أحدنا جاهداً لزوالها، نصيحة لهذا الأحد "ما تحاولش"!

back to top