الصبي الذي كنت

نشر في 30-10-2017
آخر تحديث 30-10-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم خدعني الشاعر فريد أبوسعدة بكتابه المعنون "الصبي الذي كنت"، وجعلني أهرول خلف العنوان، ظناً مني أنه سيرة لحياته، وأنني سأكتشف أسرارها، وأعرف خباياها، والغوص والتلصص على أسرار حياة الشاعر والكاتب بشكل عام. أظنها رغبة يشعر بها جميع القرَّاء تجاه مَن يحبون من كُتاب مفضَّلين لديهم. وعندما قرأت الكتاب اكتشفت الكمين الذي أعدَّه أبوسعدة بذكاء للقارئ، فالكتاب لا يتعرَّض لسيرة حياته، إلا لمحات أو شذرات مارقة عن طفولته بمس سريع لم يتعمَّق فيها بشكل جاد. كان همّه أبعد من استعراض مراحل حياته، وتقديمها للقارئ. انغماس روحه ووجدانه بفهم مسار العملية الإبداعية في شعره كان هو المسيطر على مشاعره، لذا انغمست سيرته كإنسان ضمن صيرورة الشعر، ولم تعد هناك مساحة حياتية منفردة له كشخص بعيدا عن ذات الشاعر الذي انصهر به، وبلعه بالتمام، ولم يبقَ له إلا شخصية الشاعر والشعر، كسيرة له.

الكتابة عن فريد أبوسعدة ورطة حقيقية تحتاج إلى ناقد حقيقي، وليس مبدعا يتناولها من زاوية إحساسه بالعملية الفنية والجمالية. وأن تكتب عنه يجب أن تكون لديك معرفة تامة بالشعر منذ بداياته، وكل مدارسه ومراحل تطوره، لأنه قامة شعرية ثقافية عالية، فمَن يقدر على أن يجاريه في عمق ووسع بحوره، وخاصة عندما يجرؤ شاعر عفوي في كتابته الشعرية عن شاعر مثل فريد أبوسعدة؟!

جرأة ما بعدها جرأة في مواجهة وعل شعر حقيقي، والكتابة عن تجربته المهمة، وفهمه، وطريقة شرحه وتقديمه لها في كتابه "الصبي الذي كنت" تعد من أهم الكتب التي توضح وتبيِّن مسار صيرورة الشعر خلال عقود مختلفة من تكوينه، فهو لا يكتب الشعر فقط، لكنه يفسِّره ويفككه، ويُعيده إلى رحم الخلق من النطفة الأولى له، يحلل كل ما فيه، ويحيله إلى بدايات التكوين الأولى، إلى الذرات والفتافيت، ثم يعود يلملمه ويصوغه من جديد.

لذا، هو يعرف ويدرك كل ما له في التكوين الشعري والرؤية الشعرية ولغة قصيدته منذ أن تشكلت نطفتها في رحم الشعر، وهذا مقتطف منه: "فإذا كانت مهمة الشاعر فيما مضى هي اكتشاف الانسجام في الفوضى عبر مؤالفة الأصوات، كما في الإيقاع الخليلي، فإن مهمة الشاعر الآن فيما أرى لم تعد قاصرة على تجميل العالم أو تسويغه باكتشاف النظام في الفوضى، إنما مهمته اكتشاف الفوضى في النظام، أي البدء بالعالم كما هو عليه، ودون أي تصور مسبق. من خلال هذا الوعي أصبح في إمكاني وضع الموسيقى في مواجهة الميلودي، ووضع الآخر في مواجهة الجماعة، بجملة واحدة كانت تجربتي تتحرك من مركزية الصوت، ومركزية الذات، ومركزية الجماعة الأيديولوجية إلى تعددية ترفد الصوت بالموسيقى، والأنا بالآخر، والجماعات بالثقافات المغايرة".

لا أعرف كم من الشعراء بإمكانه تحليل وتفسير العملية الشعرية الإبداعية لديه كما أدركها فريد أبوسعدة؟!

وهذا مقتطف آخر: "كنت أعتقد أن الشعر تشكيل جمالي للزمن عبر تقطيعه بالصوت، وتشكيل جمالي للمكان عبر الصورة، أي ما يسمى الآن بالسينوغرافيا. كنت أرى أن الوقوع على صورة شعرية تزاوج بين الألفة والدهشة والبصر والبصيرة هي مهمة شعرية بامتياز، كنت مولعا بالسينما، فقد سحرتني منذ صباي الباكر هذه اللغة التي هي الخيال دون ترجمة. سحرني الإيقاع الذي تمضي به المشاهد، السرعة والبطء، القطع والمزج، القرب والبُعد، الصوت والصمت والإيماءة، الموسيقى والكلام، هل يمكن للشعر أن يغتني ويتسع عبر هذه الجماليات؟".

فريد أبوسعدة قدَّم للقارئ تنظيرا ورؤية مهمة في فهم الشعر، وحركة أدائه، والمؤثرات التي تساعد على صياغته وتكوينه، وهذا اقتباس جميل: "لا منجاة من المكان والأشياء في التشكيل الشعري، فالحركة التي نطلقها في الفضاء الشعري، مثل قطيع من الغزلان، لا تتم إلا في الزمان والمكان، هناك أيضا المتوهّم، هذا الذي يقدمه الفن، إنه يغري بإعادة الفحص، لقد كسر الفن وحشيته ووحشته، الناتجة من عدم التعامل معه إلا كشكل ظاهرتي. بشكل عام، يمكن القول إنه حضور إنساني، أستطيع القيام بهذا الفعل النزوعي لافتتاح المكان، وافتضاض روحه، والإصغاء إلى مواجيده، وتأمل ذاكرته، أما في غياب هذا الحضور المعين على الوحشة، فأشعر بالغربة والتهديد".

"الصبي الذي كنت" يقدم سيرة نثرية في منتهى الجمال، وصياغة شعرية لفهم مخاض القصيدة.

back to top