ردود فعل عنيفة ضد العولمة

نشر في 17-10-2017
آخر تحديث 17-10-2017 | 00:04
رد الفعل العنيف ضد العولمة الاقتصادية يمثل نصف القصة فقط، فقد كان هناك أيضا رد فعل عنيف ضد العولمة الثقافية يقوده هؤلاء الذين يلتمسون أسباب الارتياح والطمأنينة في الهوية العرقية أو الدينية أو القومية التقليدية.
 بروجيكت سنديكيت عندما غادرت الهند للالتحاق بكلية للدراسات العليا في الولايات المتحدة الأميركية عام 1975، لم تكن كلمة "عولمة" مستخدمة في أي مكان في العالم، حينها كان لا يزال عبور الحدود أمرا عظيما وشاقا، كما لم يكن الحصول على تأشيرة أميركية سهلا، وعندما وطئت قدماي أميركا، كانت جنسيتي الهندية لا تزال تحمل شيئا من الاندهاش والاستغراب لأهل البلاد.

والآن أضحت العولمة أمرا لا مفر منه، فخلال أقل من ثلاثة عقود انهارت حواجز التجارة، وخلق ذلك المزيج من السفر المتاح بالطائرات في أي وقت، والقنوات التلفزيونية الفضائية، والإنترنت نوعا من "قرية عالمية" متشابكة، إلا أن نوعين من ردود الفعل العنيفة يلقيان الآن بظلالهما على مستقبل العولمة.

تبدو الأزمة الاقتصادية التي وقعت عام 2008 كنقطة تحول في الإدراك العام، ففي السنوات السابقة للأزمة نهض الملايين وتخلصوا من الفقر، وأضحت الديمقراطية أكثر انتشارا من أي وقت مضى، الأمر الذي خلق إحساسا عاما بأن عصرا ذهبيا قد بدأ، وأذكر في هذا المقام رأيا شهيرا لفرانسيس فوكوياما يقول إن النضال العالمي العظيم من أجل مستقبل التنظيم السياسي والاقتصادي البشري مدعما بقوى الديمقراطية والرأسمالية الحرة قد نجح في إحراز نصر حاسم وبات.

ثم وقعت الأزمة، وسرعان ما شُوه الكبرياء والفخر الذي لازم هذه الفترة، وطفق الناس يلاحظون تفاوتا واضحا ومتعمقا بين الفائزين أو المستفيدين من العولمة والخاسرين أو المتضررين منها، في ظل نمو ضعيف في الأجور صاحبته عوائد ومكاسب هائلة للأغنياء، ففي بريطانيا مثلا نمت الأجور بنسبة 13% فقط منذ 2008، في حين ارتفعت سوق الأوراق المالية بنسبة 115%، ووفقا لتقرير سنوي لبنك كريدي سويس، فإن التفاوت في الثروة آخذ في النمو الآن بصورة حادة في 35 اقتصادا من مجموع 46 اقتصادا كبيرا، مقارنة باثني عشر اقتصادا فقط قبل عام 2007.

بدأ الفقراء والعاطلون في العالم المتقدم يشعرون بأنه لم يكن لهم نصيب ولا اعتبار في النظام الخاضع للعولمة، لذا أدانوا المؤسسة السياسية لاتباعها سياسات تسببت في الإطاحة بوظائفهم إلى أراض بعيدة كالصين وكندا، وطالبوا بعودة للنظام الاقتصادي القديم، وبالتالي للوعد القديم بأن كل جيل جديد سيكون أعلى دخلا وسيحظى بحياة أفضل من سابقه.

لكن رد الفعل العنيف ضد العولمة الاقتصادية يمثل نصف القصة فقط، فقد كان هناك أيضا رد فعل عنيف ضد العولمة الثقافية- بما فيها من تيارات التحرر من الانتماء لقومية معينة (الكوزموبوليتانية)، والتعددية الثقافية، والعلمانية- يقوده هؤلاء الذين يلتمسون أسباب الارتياح والطمأنينة في الهوية العرقية أو الدينية أو القومية التقليدية.

وُيعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مثلا لرد الفعل العنيف المرتكز على الهوية، إذ لم يكن شعاره "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" سوى شفرة لشعار آخر وهو "لنجعل أميركا بيضاء مرة أخرى"، وهي رسالة راقت للناخبين البيض من العمال العاطلين الحانقين على الأوضاع الكارهين للأجانب، وهم من شكلوا جوهر القاعدة الأساسية التي اعتمد عليها ترامب. لكن أميركا التي وعد بها ترامب لن تعود: فبحلول عام 2030، ستكون غالبية القوة العاملة الأميركية من غير البيض.

ورغم النظرة الغالبة إلى ترامب على أنه ظاهرة أميركية فريدة، فإنه في الحقيقة ليس إلا جزءا من ثورة أوسع نطاقا يقودها قوميون وتقليديون ضد نخبة عولمية وكوزموبوليتانية متحررة، بدعوى الرجوع إلى هوية أكثر تدينا وأكثر ارتباطا بالجذور الثقافية. ويعد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من القادة الذين يستغلون هذا التوجه لمصلحتهم، وإن كان للأخير طريقته الخاصة في ذلك، وحتى في البلاد التي لم تتمكن فيها أحزاب وسياسيون ينتمون إلى تيارات اليمين المتطرف، ومعاداة الأجانب، والقومية من الفوز بالسلطة، فقد تمكنوا من تحقيق قفزات، كما فعل حزب البديل من أجل ألمانيا في انتخابات ألمانيا الفدرالية التي جرت مؤخرا.

لكن مشاعر الاستياء تجاه ما يسمى بالنخب، والتي نجح مثل هؤلاء القادة في استغلالها، يمكن رؤيتها في جانب اليسار أيضا. انظروا مثلا إلى حركة احتلوا وول ستريت في الولايات المتحدة التي ضمت شبابا يدّعون أنهم يمثلون الـ99 في المئة الذين أُهملوا في الوقت الذي واصل فيه الواحد في المئة تنمية أعمالهم وتعظيمها. كما عارض المتمردون من الحزب الديمقراطي، وعلى رأسهم السيناتور بيرني ساندرز، هيلاري كلينتون للسبب نفسه تقريبا الذي عارضها لأجله نظراؤهم من اليمينيين: فبسبب خطاباتها في غولدن ساكس التي كانت تحصل لقاءها على مبالغ ضخمة، كان ينُظر إليها كممثلة لنخبة عولمية مرتبطة بوول ستريت.

كما شكّل شعور مشابه مُعادٍ للنخب، عززه جزئيا استياء الطبقة العاملة من الكوزموبوليتانية والتفاوت الاقتصادي، أساسا للتصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فمن بين 1800 ملياردير في العالم حاليا، يوجد 70 منهم في لندن التي يغلب عليها طابع الكوزموبوليتانية والثراء، والتي عارض سكانها بشكل كبير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، لكن معارضة البقاء في الاتحاد الأوروبي جاءت نتيجة لتراكمات قضايا أكثر جوهرية تتعلق بالقومية والهوية، منها نفور المواطنين من المهاجرين غير الناطقين بالإنكليزية من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وليس من الضروري أن يتقاطع ردا الفعل الاقتصادي والثقافي ضد العولمة دائما، فبينما يؤكد أردوغان ومودي، وكذلك شي جين بينغ في الصين، مرارا وتكرارا على الهوية القومية، نجد أنهم لا يزالون من أنصار العولمة الاقتصادية، هنا يظهرون بمظهر "رجل دافوس" (أي لا يهمه الولاء القومي ويعتبر الحدود القومية عقبات ستندثر مع الزمن) الذي جاء ليمثل النخبة العالمية. بيد أن شبح الغموض الاقتصادي الحالي يعزز نزعاتهم المتعلقة بالانتصار للمصالح القومية ومعاداة المهاجرين وكذلك التعصب الشديد لقومياتهم، في الوقت الذي تتزايد فيه نزعات مماثلة في الغرب.

وبالنظر في نوعي رد الفعل المضادين للعولمة معا، سيتبين لنا أسباب إقامة حواجز الحماية أمام التدفق الحر للبضائع ورأس المال والعمالة في دول الغرب المتقدمة التي لطالما دعت لانفتاح أكبر، ولندع الأرقام هنا تتحدث عن نفسها. في عام 2007، وصل حجم تدفقات رأس المال العالمي مستوى قياسيا بلغ 12.4 تريليون دولار، أو 21% من الاقتصاد العالمي، وبحلول عام 2016 كان الإجمالي السنوي قد هبط إلى 4.3 تريليونات دولار، أو 6% من الاقتصاد العالمي، وهو ما يقل عن حجم التدفقات عام 1980. ومع تفوق النمو الاقتصادي الكلي على نمو التجارة العالمي المقدر بأقل من 2.5%، تكون العولمة بذلك قد تراجعت عقودا.

لكن، رغم اعترافي بأن العولمة ليست حلا مثاليا، فقد انتشلت ملايين من الفقر في دول نامية كالصين والهند، وخلقت أسواقا جديدة للبضائع المصنعة في دول فقيرة، وأسهمت في خفض الأسعار للمستهلكين في الدول الغنية. لذا، من الأهمية بمكان مقاومة ردي الفعل الاقتصادي والثقافي المضادين للعولمة، وتحقيق وعد التكامل العالمي للجميع.

* شاشي ثارور

* شغل سابقا مناصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، ووزير الدولة للشؤون الخارجية في الهند، وكذلك وزير الدولة لتنمية الموارد البشرية، ويعمل حاليا رئيسا للجنة البرلمانية الدائمة للشؤون الخارجية، إضافة إلى كونه عضوا بالبرلمان عن حزب المجتمع الوطني الهندي.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top