حبر و ورق

نشر في 14-10-2017
آخر تحديث 14-10-2017 | 00:02
No Image Caption
أنا أحلم بالجنّة

19 مارس 1984

يتكئ الكهل على عصاه الخشبية التي توشك أن تذوب تحته رغم وزنه الضئيل. ترك هذا الرجل العالم منذ زمن بعيد... اعتزله وقاطنيه، وآثر الطبيعة وصحبة الكائنات التي لا تخون ولا تبيع ولا تخلف عهداً ولا وعداً.

لكنه في تلك الليلة الدافئة من شهر آذار/مارس لعام 1984 يرى للمرة الأولى منذ ما يزيد على عشرين عاماً مخلوقات من بني آدم، وتتناهى إلى أذنيه أصوات ضحكاتهم وقهقهاتهم.

يطرق برأسه وهو ينظر إلى أسفل التلة حيث تجمع أربعة رجال حول نار مشتعلة، فوقها غزال يوشك أن ينضج. يتأملهم باهتمام وهو يسأل نفسه: ترى هل تغيّر شيء خلال كل تلك السنين؟ ترى هل تغير بنو آدم؟

****

ينبع نهر الهاييڤ من جنوب غرب مملكة أصلانيا ويمتد حتى يصب في المحيط العظيم عند الشمال. لقد بنى الأصلانيون القدماء مدنهم وقراهم حول النهر وتحملوا فيضاناته وغضباته الموسمية في سبيل رغد العيش ويسره في سائر الأوقات، وحتى ذلك الوقت من عمر تلك المملكة، لم يتبقَّ إلا قليل من الأماكن قرب النهر التي لم تطلها يد الإنسان بالتخريب، أو التطوير، على اختلاف وجهات النظر.

على الضفة الغربية من النهر في تلك المنطقة الخالية من الناس والقريبة من الغابات الكثيفة، عسكر الشبان الأربعة بعدما فرغوا من اصطياد غزالين سمينين. أخذ أحد الأربعة على عاتقه سلخ الغزال وتبهيره وتجهيزه للشواء، وعلى الرغم من كونه أميرا للبلاد، إلا أنه كان يهوى الطبخ، ولطالما بهر أصدقاءه بأكلات غير تقليدية يسيل لها اللعاب. اسم هذا الشاب ذي العشرين ربيعا هو يامن جاديتش، وهو الابن الأصغر للملك أحمد جاديتش، ملك مملكة أصلانيا.

يجلس أخوه الأكبر الأمير ياسر قرب النار المشتعلة، ينظف بندقيته التي اصطاد بها فرائسه. هو ضابط في سلاح الجو الملكي الأصلاني يكبر أخاه بثلاثة أعوام. يرفع ياسر عينيه عن البندقية للحظة لينظر إلى أخيه وهو يحرك العشاء فوق النار. يبتسم ابتسامة تحمل الكثير من الحب: يدرس يامن الاقتصاد لينأى بنفسه عن أمور السياسة والحكم، ونتيجة زهد الأمير الأصغر وفطنته، كان كل شيء في العاصمة «ويرْكُن» على خير ما يرام.

«ناولني السكين»، يقول يامن محدثا صديقه جهاد أنطاليتش، ثالث الموجودين وصديق الأخوين الصدوق. لكن الأخير، الذي يدرس القانون بشغف حتى في أوقات فراغه، لا يلتفت بسبب المجلد الضخم الذي يحمله بين يديه.

«هاك يا يامن»، يقول فاكِه أرْديتْشْ، رابع الشبان، وهو يعطي صديقه السكين. يدرس فاكه الطب مرغماً، ذلك أنه على الأبناء في هذه البلاد إكمال مسيرة الآباء والأجداد، ولو على حساب أنفسهم.

يبدأ يامن تقطيع اللحم الذي يقطر ماؤه على الحطب كالطباخين المتمرسين. عيونهم، بما في ذلك عينا جهاد، مثبتة الآن على وجبة العشاء التي عانوا من أجل الحصول عليها، لكن أذني ياسر تسمعان صوتا آتيا من خلفه في تلك اللحظة. يلتقط بندقيته في سرعة خاطفة ثم يستدير ليواجه المصدر. ينتبه يامن لحركة أخيه ثم لا تلبث عيناه أن تقعا على رجل مرعب، يتوهج في الظلام بفعل النيران المضطرمة.

يطلق يامن صرخة ويتراجع إلى الخلف، وتسقط عليه شريحتا اللحم اللتان نجح في استخلاصهما من الغزال قبل أن يظهر الغريب من عالم ما وراء الطبيعة.

«لا تتقدم خطوة أخرى!» يصرخ ياسر بصوت مضطرب وقد وقف على قدميه.

«اهدأ يا ياسر»، يقول جهاد وهو يقترب من صديقه، «إنه مجرد رجل عجوز».

«هل نسيت أننا هنا وحدنا بلا حراس؟» يتمتم ياسر لصديقه بصوت خافت حتى لا يسمعه العجوز الذي وقف في مكانه دون أن يبدو عليه أنه خائف من السلاح الموجّه إليه.

«أنا أعطيكم الأمان»، يقول العجوز بصوت جهوري يخترق صمت السهول والغابات من حولهم، «أنا لا أملك سوى هذه العصا. لم أرَ بني آدم منذ زمن طويل فاعتراني الفضول».

«بني آدم؟» يتمتم يامن لنفسه مستعجباً.

«هل يعني هذا أنه من الجن؟» يسأل فاكه بصوت مسموع.

«كفى حماقة»، يقول جهاد وهو يتقدم نحو الرجل ويدعوه لينضم إليهم ويأكل من صيدهم الشهي. يشكره الرجل ويجلس إلى جانبه ثم يطلب منهم أن يواصلوا ما كانوا يفعلونه قبل أن يقاطعهم.

رغم تطمينات جهاد المتتالية لهم أن لا يقلقوا من الغريب إلّا أن ياسراً لا يزال متحفظاً متشككاً: يجلس في مكانه قرب النار مدنياً بندقيته إليه ليلتقطها إذا دعت الحاجة. أما يامن، فيواصل تقطيع اللحم وتوزيعه على الرجال، ولكن يديه الآن تتصببان عرقاً، ففكرة فاكِهْ لم تكن مستبعدة، خصوصاً وأنهم في مكان لم تطأه أقدام البشر منذ أمد بعيد.

«تفضل يا عمي»، يمد يامن يده نحو الغريب بطبق من اللحم.

«أنا لا آكل أصدقائي».

«أنا لا أفهم يا جدي...» يقول يامن بصدق.

«لن آكل»، يعلن العجوز بثبات، «أنا هنا فقط لأتعرف إليكم».

يقطب يامن جبينه للحظات، وينسى الأربعة الرجل غريب الأطوار مع أول لقمة يتذوقونها من الشواء.

«إنك فعلا طباخ ماهر!» يصيح جهاد، «إنه لذيذ!»

يأكلون حتى لا يتبقى مكان في معدتهم للمزيد، ثم يغسلون أيديهم في النهر الجاري قربهم، ويتولى يامن وفاكه تنظيف المكان وإزالة القمامة. ودّوا لو تركوها في مكان ما في الغابة ولكن وجود الرجل الذي يعتبر الغزلان أصدقاءه منعهم من ذلك الفعل، وأجبرهم أن يضعوا الأكياس في سيارتهم ذات الدفع الرباعي المركونة على مقربة من مكان تخييمهم.

«أسماؤكم هي ياسر... جهاد... يامن... فاكه؟» يسألهم الرجل أخيرا وهو يشير إلى كل واحد على حدة. يومئون برؤوسهم موافقين.

«ياسر ويامن أخوان؟» يسألهم ثانية. يرتفع حاجبا ياسر لوهلة، فالأخوان لا يتشابهان شكلياً لدرجة أن يستنتج الغريب ذلك.

«ومن سلالة نبيلة؟».

«أية سلالة نبيلة يا جدي؟» يسأله ياسر بتهكم قبل أن يقر أحد رفقائه بالحقيقة، «إنما نحن شبان عاديون خرجنا إلى البر لنمارس مهنة الصيد. هذا كل ما في الأمر».

يطيل الرجل العجوز النظر إلى وجه ياسر الوسيم، ثم يلتفت ليواجه الآخرين.

«كيف أصلانيا الآن؟ هل ما زال الملك رائف جاديتش يحكمها؟».

يقهقه جهاد بصوتٍ عالٍ: «يا جدي أنت من زمن ما قبل التلفاز! يحكمنا الآن حفيده الملك أحمد جاديتش!».

يزم الرجل شفتيه. يعرف تماما ما هو التلفاز لأنه عاصر دخوله إلى المملكة في أواسط الخمسينيات ولكنه لا يخبر الشبان المتعجرفين بذلك. ما زالوا يسخرون بعضهم من بعض إذا...

«منذ متى وأنتم أصدقاء؟».

«ياااه... منذ أن كنا في المدرسة الابتدائية»، يقول جهاد ضاحكا وهو يستلقي على ظهره غير آبه بأصول احترام من هم أكبر سنا، «أي منذ ما يزيد على الخمسة عشر عاماً».

يتفرّس فيهم الرجل بعمق هذه المرة. لقد توقع هذه الإجابة بعينها: يخبر نفسه أن صداقتهم استمرت طوال سني براءتهم، وأن الوقت لن يطول قبل أن تختفي وتضمحل، بل وأن تتحول إلى عداوة، عندما تغيرهم الدنيا أو يتحولون من تلقاء أنفسهم وحوشا ينهش بعضهم لحم بعض. هكذا هم بنو آدم، وهكذا بدا له عندما تفرس في قسمات وجوهم المرفهة البعيدة عن ضنك العيش. يخطر له خاطر ما يلبث أن يترجمه إلى كلمات.

«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب... وإذا وعد أخلف... وإذا اؤتمن خان».

يطرق الشبان برؤوسهم. لقد درسوا الحديث النبوي الشريف مراراً وتكراراً في المدرسة ولكنهم الآن يسمعونه لأول مرة منذ مدة طويلة.

«أحدكم... سيتحدث كثيراً وكل ما سيقوله سيكون كذباً...» يعلن الرجل بصوت مرتفع وعيناه تحدقان إلى النيران.

يصمت الشبان. يتطلع جهاد إلى السماء والنجوم التي لا يمكن أن تُرى في المدينة بالعين المجردة، ولكن قلبه وعقله وأذنيه تنصت باهتمام للضيف الغريب.

«والآخر، سيؤتمن فيخون».

يتبادل يامن وفاكه نظرات استغراب ولكنهما مع ذلك لا ينبسان بحرف.

«والثالث، سيعد وعدا وسيخلفه».

يرفع ياسر ناظريه أخيرا ويقول بنبرة جادة: «والرابع يا جدي؟ ماذا سيفعل الرابع؟».

يتنهد الرجل بعمق.

«الرابع سيكون الضحية».

يضحك جهاد ثم يثب جالسا: «أنت يا جدي تعمل منجما، أليس كذلك؟ ولكن اسمح لي أن أقول لك إنك لست منجماً ناجحاً، فصداقة مثل صداقتنا لا يمكن أن يشوبها شيء. أرى أنك تعيش هنا بمفردك لضغينة تحملها في صدرك تجاه بني آدم، ولكن الناس ليسوا سواء».

يتضاحك العجوز في وجه محدثه.

«أفلح إن صدق». يقول الرجل وهو يهم بالوقوف. يسارع يامن وفاكه ليساعداه ولكنه يشيح بيديه.

«حسنا، أنا سأراهنك يا عمي»، يقول جهاد متمادياً في مزاحه، «في مثل هذا اليوم بعد سنة... لا بل بعد خمس سنين، سنأتي لنقابلك في هذا المكان نفسه ونثبت لك أن بني آدم ليسوا كلهم سيئين».

«ممتاز. في مثل هذا اليوم من عام 1989 سأقابل من يأتي منكم عند بوابة العاصمة القديمة».

يتبادل الأربعة النظرات ثم ينفجرون ضاحكين.

«لقد اختفت تلك البوابة منذ عقد كامل يا عمي»، يعلن ياسر بأسف رغم ابتسامته، «ألم تشعر بالزلزال المدمر عام 1973؟».

يصمت الغريب للحظة ما إن يدرك أن تلك البوابة، مثل أشياء كثيرة في حياته، لم يعد لها أثر.

«ما قولك أيها الشيخ؟ لقد بنى الملك مكان تلك البوابة نصباً تذكارياً لضحايا الزلزال. فلنتقابل عند ذلك النصب في العشرين من مارس عام 1989 الساعة الثانية وثلاث عشرة دقيقة وعشرين ثانية بعد الظهر. إن وجدتنا كما نحن، ستأكل اللحم وتشرب القهوة وتعود إلى العالم الحقيقي بعيداً عن حياة عصور ما قبل التاريخ هذه، حسنا؟».

يهز الرجل رأسه موافقا رغم السخرية الواضحة في كلام جهاد.

«سأكون هناك».

«حسنا سننتظرك!» يصرخ جهاد وراءه وهو يقف ويلوح له كأنما يودعه.

لا يفكر الأربعة كثيراً في كلام الغريب بعد ذلك اليوم.

الموتى لا ينتحرون

«العقل لا يشغل نفسه بأسئلة

المصير، فالقدر يتولاها»

«حياة... حياة...» بصوت يشبه فحيح أفعى كان جدي «أبو مشعل»، جدي لأبي، يحاول إيقاظي من نومي وسط إخوتي في فجر ليلة شديدة البرودة. لا أدري لماذا تملكني الرعب فجأة، فهذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها جدي إلى غرفة نومنا. رفعت رأسي قليلاً عن وسادتي وأنا أهيئ نفسي لطلب اعتدت أن يطلبه مني جدي حتى قاطعني صوته الخافت مرة أخرى:

«انهضي بسرعة.. واجمعي ملابسك فوراً. سأنتظرك في غرفتي فلا تتأخري».

نهضت من فرشتي الإسفنجية في زاوية الغرفة الصغيرة التي تجمعني مع أختي «سناء» وأخي الصغير «حسن». كنت غير مدركة تماماً لما قاله جدي، هل عليّ أن أبدّل ملابسي أم أجمعها؟ ولمَ أجمعها؟ ولمَ أجمعها؟ بحيرةٍ تحسست خطواتي في الظلام قاصدة غرفة جدي وقلبي يكاد يخرج من مكانه من شدة القلق. ماذا يريد؟

أبقى جدي باب غرفته موارباً وضوء خفيف يتسلل إلى خارج الغرفة، أضاء لي ما تبقى من خطوات نحوها.. فتحت الباب بترقب. وجدته جالساً على أريكته المحببة دون أن يسند مرفقه إليها كعادته حين يجلس متكئاً. ما إن انفتح باب الغرفة كاملاً حتى وجدت أمي واقفة. بخطى ثقيلة وقلب يتهاوى وأطراف مرتعشة خطوت حتى أصبحت في وسط الغرفة. كانت نظراتي تتناوب وجه أمي ووجه جدي لعلّي أستبين سبب إيقاظي بهذه الطريقة في مثل هذا الوقت من الليل، حتى سلب جدي نظراتي بصوته الذي أخفضه عمداً:

«عليك أن تغادري المنزل. اجمعي ملابسك واخرجي من البيت بلا عودة. لو بقيت هنا ستموتين. نعم، سأقتلك بنفسي، أو ربما سأوحي لأحد شباب العائلة أن ينهي المهمة بدلاً مني. اخرجي من هذا البيت ولا تعودي. لم يعد بإمكانك البقاء بيننا يوماً آخر».

وجهت بصري صوب أمي التي اختارت ألا ترفع رأسها، وبدت كمن تصلي واضعة يداً فوق الأخرى ورأسها مطأطأً ودموعها تنهمر بصمت. استجمعت ما استطعت من بأس واقتربت خطوة من جدي وسألته بنبرة غلفها الاستعطاف: لماذا يا جدي؟ ماذا فعلت؟

«أنت تعلمين لماذا. هذا هو الوقت المناسب لتغادري، جميعنا نعلم أنه لا يمكنك البقاء هنا. خذي ملابسك وجواز سفرك وامضي ولا تعودي. هذا هو الحل الأمثل... لن يرحمك أحد إذا ما بقيتِ. أتفهمين؟ لن يرحمك أحد».

خرجت من غرفة جدي صوب غرفتي ورأسي يكاد يتصدع.

طالت المسافة من غرفة جدي إلى غرفتي، الخطى ثقيلة كأنها حجارة تلقى عليّ فأصير واجهة من زجاج تتشظى إلى ملايين القطع. أشعر أن خطواتي تدوسني وشظايا كرامتي تُدميني.

دلفت إلى غرفتي لجمع ملابسي نظرت صوب «سناء» و«حسن» اللذين كانا يغطان في نوم عميق.. أخرجت ملابسي من دولابي المشترك مع «سناء» ووضعتها في كيس من الأكياس البلاستيكية التي اعتدنا حفظها بجوار الدولاب. كنت أجمع ملابسي وأسئلة المصير تتدافع داخل رأسي: أين سأذهب؟ هل سأعود؟ أين.. كيف.. ماذا عن.. متى... أسئلة ثقيلة لم تكتمل تزيد حيرتي اتساعاً وتسلبني القدرة على تحديد خطوتي الأولى.

سناء، يا سناء.. قومي، أريد أن أحدثك قليلاً. كنت أهمس بالقرب من أذنها وأنا ألتفت خلفي خوفاً من دخول أمي أو جدي فيمنعاني من الحديث إليها. همهمت سناء قليلاً دون أن تفتح عينيها، فقرصتها قرصة خفيفة من أذنها حتى استفاقت. «لماذا ترتدين ملابسك؟» سألتني دون أن ترفع رأسها عن الوسادة. ليس هذا الوقت المناسب لهذه الأسئلة. اسمعيني جيداً يا أختي الصغيرة. «إياك أن تصدقي أي شيء يقولونه عني. أنا لست ما يدّعون. أريدك أن تنتبهي إلى نفسك، ولا تسمحي لأحد أن يقترب منك. لا تخافي من أحد ولا تذعني لسلطة تحت أي ظرف. كوني شجاعة وحنونة على «حسن» وانتبهي لأمي جيداً. أمنا مسكينة وليس لها في الدنيا سواك أنت وحسن. كوني قوية ولا تقتدي بي. جسدك لكِ، لا تسمحي لأحد أن يسلبك إياه، احتفظي به طاهراً لزوج أو حبيب. لا تسخري من حسن حين يتأتئ في حديثه. حسن ولد ذكي، عزّزي ثقته بنفسه، كلنا سنحتاجه حين يكبر، هو جدارنا الذي سنسند ظهورنا إليه».

كنت أحدثها وحرقة الدمع تكوي وجنتيّ كحمم تتناثر من فوهة بركان. قطعت نحيبي بضحكة صغيرة عانيت كي أتقنها.. آه، لقد تركت لك جلبابي الكحلي الذي تحبينه، أصبح الآن ملكك.

نهضت وسرت صوب باب الغرفة وأنا أكفكف دموعي وأدرت وجهي إلى الخلف لألقي نظرة وداع أخيرة على إخوتي.

خرجت إلى باحة البيت، كانت أمي تسد باب غرفة جدي حيث انتصف جسدها بين داخل الغرفة وخارجها. بأقدام قيّدها البرد والخوف اقتربت من أمي التي اختارت أن تهرب بنظرها عني.. حسناً.. انتصبت في وقفتي وأكملت مسيري صوب باب غرفة جدي حتي أوقفني ذراع أمي الذي امتد ليدق صدري كعمود خيمة: «خذي».. دست في يدي لفافة من أوراق نقدية لم أتبيّنها.

بصوت متهدج ذليل: «اطلعي الآن يما قبل أن تصحو القرية. اخرجي من البيت الآن وانتبهي إلى نفسك». أخذت نفساً عميقاً علّه يطفئ ناراً تستعر داخلي وقبضت على كيس ملابسي بكلتا يديّ مقربة إياه من صدري، ثم صوّبت جسدي نحو باب البيت قبل أن أردد: «يما، أنا مش راجعة؟ بطلت بنت هاد البيت؟» فهمت من صمتها ودموعها على وجنتيها أن حبلي السُّري مع عائلتي قد انقطع.

كان صوت ارتطام باب البيت الحديدي كإسدال الستار في المسرح، حيث أقفلت باب الماضي على عشرين عاماً عشتها في هذا البيت وخرجت بلا وجهة أقصدها...

أمسكت وحدتي من يدها وتعلّقت ذكرياتي بذيل جلبابي كأطفال صغار يجرهم ثوب أمهم، ولثّمت وجهي بما تبقى من كرامتي. خطوت خطوات قليلة نحو المجهول قبل أن أستدير لأنظر صوب بيتنا.. نظرة أخيرة حيث كانت حياتي... نظرتُ، شهقتُ، بكيتُ، بكيتُ، بكيتُ.. على كل البيت، على أمي، على إخوتي، على نفسي، بكيتُ أكثر وأكثر. ما أصدق البكاء حين يبكي المرء نفسه. لفّني ضباب الفجر وأخفى جسدي عن العيون ومحت الريح آثار خطواتي على الطريق... كأنني لم أكن هنا يوماً...

دوّى صوت المنبه في أرجاء الغرفة. أطلقت يدي في الهواء بحثاً عنه دون أن أفتح عينيّ المثقلتين بالنوم. اعتدلت في سريري ممسكة رأسي بكلتا يدي وأخذت أدور ببصري في أرجاء الغرفة كمن يراها للمرة الأولى. وكان ضوء الشمس المتسلل من بين الستائر يحمل إبرة صغيرة غرزها للتوّ في عيني اليسرى فأزاح بقايا النوم عنها...

back to top