صراع مع ساحرة

نشر في 12-10-2017
آخر تحديث 12-10-2017 | 00:00
 د. أيمن بكر من بين سحب الدخان ثبتت عينيها في عيني لثوانٍ، عرفت خلالها أني سأبقى هكذا محدقا فيها بجرأة، وفضول جامح. كنت الوحيد الذي لم يخفض رأسه أو يغمض عينيه... لم تتردد في رفع صوتها بقوة: روح معاندة لابد أن تخرج من الغرفة.

التفت الحضور، فوجدوها تنظر نحوي... أشارت بسبابتها سريعا، فأمرني العم (ص) بحركة من رأسه بالمغادرة. في طريقي لخارج الغرفة قررت أن أمرَّ من أمامها، دفعني الفضول أن أقترب قدر الإمكان من ذلك الكائن الأسطوري... انحنيت بتعمُّد، حتى صار وجهانا على مسافة سنتيمترات، وهي تراجعت بفزع... وقبل أن أبتعد عن وجهها المذهول حرصت على أن أريها ابتسامتي الواسعة.

حدث المشهد السابق أثناء دراستي بالجامعة، حين كانت الأسئلة الكبرى لا تزال مستغلقة على عقولنا بصورة كبيرة، كنا نسأل عن حدود العقل والخرافة، والزمن، وما وراء الطبيعة، أرَّقتنا أسئلة عن نشأة الحياة والموت وخلود الروح وقواها الخفية وإمكان الاتصال بعوالم الجن.

في وسط كل هذا أخبرني أحد الأصدقاء، بأنه ووالده وعمه سيذهبون إلى السيدة (س) المشهورة بقدراتها في تحضير الأرواح وفك السحر. رجوتهم كثيرا كي يقبلوا بوجودي معهم، بعدها عرفت السر وراء الزيارة؛ الأمر يتصل بحالات تشنج وتغير في لون الجلد ونبرة الصوت تعانيها أخت صديقي، وقد أعيا الأطباء دواؤها: البنت لابد أنه تلبسها جني. حين وصلنا للمكان بعد سفر ساعات على طريق الصعيد المرهق، كان كل شيء مُعداً بشكل درامي: بيت كبير على أطراف البلدة، محاط بسور عالٍ، مدخل البيت طويل ومُعتم، غرفة تظهر لك فجأة جهة اليسار، هي نفسها ممتدة بصورة مستطيلة غير معتادة وشبه معتمة أيضا، سقف الغرفة عالٍ، وفي نهايتها تجلس السيدة (س) وأمامها منضدة فوقها وعاء معدني كبير تتصاعد منه الأبخرة، وعلى مسافة منها تتراص أرائك خشبية (كنبات) على جانبي الغرفة. بدا لي المشهد قريبا من الأفلام الهزلية. لكن ما حدث بعد ذلك بيني وبين صديقي وعائلته لم يكن هزليا.

على إثر طردي من الغرفة، لأني "روح معاندة"، تجوَّلت في فناء البيت الوسيع، لا شيء مختلفا: حظيرة بها بقرتان وبعض الغنم، بئر تعلوها ماكينة سحب الماء (الطلمبة). بعض الخدم يجلسون في ركن الفناء يتبادلون الحديث. بعد نصف ساعة تقريبا خرج الضيوف من الغرفة في حالة صمت استمرت حتى وصلنا إلى القاهرة مرة أخرى.

كان من الواضح أن السيدة حذرتهم مني ومن إطلاعي على ما دار في الغرفة بعد طردي. الأخطر أن صديقي (وقد كان جامعيا مثلي) ظل يتجنبني بعدها، حتى شحبت علاقتنا وانتهت. مرَّت عشرات السنين على هذه الحادثة، التي أدت إلى انهيار علاقتي بصديقي وأسرته، لكني كلما استدعيتها ثارت في رأسي تساؤلات وأفكار جديدة.

أسرع هذه الأسئلة ظهورا في الوعي: ما الذي أثار حفيظة الساحرة إلى هذا الحد؟ وما الذي قالته لصديقي وأسرته عني؟ لكني مع الوقت اكتشفت أن هناك أسئلة أعمق تتصل بسلطة هذه المرأة، أو سلطة ما تمثله على وعي الناس.

يبدو وجود هذا النوع من الممارسات مرتبطا بأمر أساسي، هو اعتقاد الناس، على نطاق واسع وبصورة حاسمة، بوجود كائنات غير مرئية تتحرك كما تشاء ما بين عوالم خفية وعالم البشر الذي نعيشه، ويمكن لهذه الكائنات، إن هي غضبت أو أثارها شيء، أن تتحكم في مصائر البشر وأرواحهم، فهي قوى قاهرة عنيفة وشريرة غالبا، وبقدر ما هي غامضة تستدعي كل ما يخيف ويرهب. هكذا، يتمكن السحر وأوهام الاتصال بعوالم الجن والأرواح من وعي مجتمعات بأكملها، فيصبح الفزع سبيلا لانهيار الإرادة في المعرفة والتقدم، وسببا في الوقت نفسه لنمو اقتصادات الخرافة والدجل.

لم يسأل أحد نفسه: لماذا اختفت تلك الكائنات الخرافية من الغرب، وقررت أن تعشش هنا في الشرق وحده؟ صحيح أن هناك بعض الجماعات التي تمارس طقوس السحر وتحضير الأرواح في الغرب، لكنها لا تمثل سوى أقلية ضئيلة تحوَّلت إلى مادة للتندر. أما لدينا، فإن الأقلية التي يتندر منها الجميع ويلقى عليها بالاتهامات جزافا هي تلك الحفنة التي تنادي بتحكيم العقل وتجنب الخرافة.

وبالنظر للمشهد السابق، لا نبالغ إذا قلنا إن صراعا خفيا دار بيني وبين الساحرة لمدة ثوانٍ معدودة كانت كافية لحسم المعركة لصالحها، فحين أعيد المشهد في خيالي لا أجدني قد فعلت شيئا سوى التجرؤ بالنظر المتفحص نحوها، لكنه نظر يكسر هالة الهيبة التي تغلف المرأة، كما تنتهك نظراتي عادات التعامل بينها وبين مريديها. إنه نظر فيه من التحدي وإعلان العصيان الشيء الكثير، وهؤلاء المتلاعبون بالعقول أذكياء إلى أبعد حد، وقادرون على تفسير النظرات وحركات الجسد بصورة مدهشة. أدركت المرأة على الفور أي نوع من البشر ذلك الذي يجلس أمامها ويحدق فيها دون ارتعاش. لقد كانت الثواني التي التقت فيها أعيننا كافية لتقول الساحرة لنفسها بحق: هذا الشاب لا يصدق بما أفعل، إنه من شباب الجيل الجديد المؤمنين بالعلم، وربما أفسد كل شيء، في عينيه نظرة تحدٍ قوية، ولعله يقول كلمة ساخرة تهز من هيبتي في قلوب الباقين، والأهم أنه سيشكك فيما أفعل بعد خروجه من هنا، إنه خطر يتهدد مصالحي، وعليَّ التخلص منه فورا، هكذا رفعت صوتها ضد الروح المعاندة، كمن يرفع بندقية في وجه عدو.

عقوبة الساحرة غامضة كسحرها، وتفسيراتها عني تتناقض بالضرورة مع تراث العلاقة بيني وبين صديقي وأسرته، لكنها وجدت في عقول الناس مستقرا ومقاما، بسبب تعطل عقولهم، والتسليم بقدرات الساحرة المدعاة، والأهم هو عجزهم عن تفسير واقعهم.

هكذا تتحوَّل الخرافة إلى سلطة مخيفة يمكنها أن تتحكم في مصير الكائنات المؤمنة بها وبقدراتها. وبالمناسبة، لم تنجح تعاويذ الساحرة في حل المشكلة، وقد اتضح بعد هذه القصة بأشهر أن أخت صديقي، التي قادتهم لمملكة السحر، كانت في حالة نفسية سيئة لإصرار ذويها على رفض خطبتها للشاب الذي تحبه... فقط.

back to top