حبر و ورق

نشر في 07-10-2017
آخر تحديث 07-10-2017 | 00:00
No Image Caption
من دمشق إلى القدس

دمشق - أواخر 2010

مدارس العاصمة دمشق

7:30 صباحاً

في صباح كل يوم يصطف طلاب المدارس في كل أنحاء العاصمة السورية دمشق لتصل أصواتهم عنان السماء وهم يرددون النشيد الوطني، ليكون هذا المشهد بمثابة بداية يوم جديد في هذه المدينة الجميلة.

إذا نظرتَ إلى شوارع المدينة رأيت العمال والموظفين ذاهبين إلى أعمالهم منذ الصباح الباكر، ورأيت الباعة والأسواق المكتظة، الطلاب في مدارسهم وجامعاتهم، والكل في شأنه. وفي أي مكان ستمر فيه حتماً ستشتم رائحة القهوة التي تفوح في كل الأرجاء.

الناس، الشجر، الحجر، الشوارع المزدحمة، الأرصفة الممتلئة، المساجد، الكنائس، صوت العصافير، رائحة القهوة، كل شيء في هذه المدينة جميل يجعل روحك تتعلق بحاراتها وأزقتها، لتصل إلى مرحلة تعجز فيها عن الوصف ويصعب على القلم أن يخط المزيد من العبارات، وينطق لسانك لاإرادياً.. يا شام يا مدينة السماء.

* * *

«أول الغيث قطرة»، قال جهاد في نفسه وهو يلمح على عجل قطرات المطر وهي تسيل على نافذة غرفته الصغيرة.

لقد تأخر في النهوض كعادته، وقد لا يدرك محاضرته الأولى. ودّع أهله وخرج بسرعة من المنزل ذاهباً إلى الجامعة. عليه السير مسافة ليست باليسيرة من المخيم الذي يقطنه هو وأهله جنوبـي العاصمة السورية دمشق إلى أقرب موقف لحافلات «المكرو» التي ستقله إلى الشام حيث جامعته.

لم يَطُل انتظاره عند الموقف كثيراً، وما هي إلا دقائق معدودة حتى سمع صوت محركات الحافلة تعلو شيئاً فشيئاً، ثم تمتم متبسماً عندما لمح الحافلة الصغيرة من بعيد: «يبدو أن أمي دعت لي في ليلة القدر».

في الحافلة كان لكلِّ شخصٍ شأن يغنيه، هنا صبية تراجع بعض الملخصات لامتحانها، وهناك مسن يحمل مسبحة ويستغفر، وبين كل استغفارة وتسبيحة يستنشق نفساً عميقاً ثم يُخرج زفيراً صاخباً يحمل معه هموم رجل حاول أن يصارع الحياة فغلبته. وفي المقعد الخلفي بجانب النافذة يجلس جهاد صامتاً يتأمل جمال هذا الصباح الدمشقي الماطر، وكعادة سائقي النقل العام، كان السائق يقلب في أثير إذاعات الراديو بحثاً عن إذاعة تبث آخر الأخبار السياسية العاجلة، وما إن وجد واحدة، حتى رفع الصوت ليُسمع كل من في الحافلة. لم يكن جهاد مهتماً بمعرفة آخر الأخبار السياسة، فدائماً ما كان يذهب إلى غرفته كلما أدار والده التلفاز على قناة إخبارية، من وجهة نظره: «السياسة قذارة ولا ثوابت فيها».

نشرة الأخبار.. هي الشيء الوحيد الذي يخرجه من التأمل والحلم والخيال ويعيده إلى الواقع المرير ويذكره بحال الأمة الحزين. نشرة الأخبار هي التي تعكر صباح هذا الشاب كل يوم وهو في طريقه إلى جامعته ولكن لا مفرَّ هنا، فيجلس ويسمع.

لا جديد، فالأخبار تعيد نفسها ولكنها تزداد سوءاً، ففلسطين قلب الأمة تعاني اختلاجاً عضلياً بسبب توقف سيل دم الشهداء له إلا من بعض الشرايين الداخلية. ومع التكرار أصبحت النشرة شيئاً روتينياً لم يعد يزعجه كثيراً وكأنه تأقلم على سماع المآسي. اليوم كان الوضع مختلفاً بكل ما تعنيه الكلمة، لأول مرة يستمع جهاد إلى النشرة بإنصات وتركيز بعدما لفت انتباهه خبر يتحدث عن شاب تونسي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على قيام شرطية بصفعه على وجهه بعدما منعته من البيع في الشارع. لم يكن هذا الخبر وحده، رغم فظاعة تصوره، ما لفت انتباهه بل ما تبعه من تفاصيل.. الثورة... نعم إنها الثورة يا مولاي. لقد اشتعلت الثورة في تونس الخضراء، لم يكن أحد ليتوقع بأن يثور المظلوم على الظالم المستبد، وها قد بات الجلاد على وشك أن يسقط.

كان بودّ جهاد سماع بقية التفاصيل في أول نشرة يستمع إليها بشوق وتفاؤل وأمل بغد أفضل، لكن حافلة «المكرو» وصلت إلى وجهتها اليومية.

في الجامعة، توجه جهاد إلى كليته، كلية الآداب. خلال تجوله في حرم الجامعة لم تفارق البسمة شفتيه، ما أثار تساؤلات رفاقه عن السبب وراء هذه الابتسامة وهذا الشعور غير المألوف الذي كان بادياً على وجه رفيقهم.

- «ما سمعتوا آخر الأخبار؟» قال جهاد مخاطباً رفاقه وهم جالسون بجوار باب قسم اللغة العربية.

- «من متى وإنت بتابع الأخبار؟ شو عدا ما بدا» أجابه زميله علي بنبرة استفزازية.

- «من اليوم». رد جهاد بنبرة جامدة.

كان الانزعاج من نبرة علي واضحاً على جهاد، وقبل أن تبدأ مشادة كلامية بينهما، تدخل ماهر أعز أصدقاء جهاد ليتدارك الموقف:

- «نعم إنها الثورة».

- تساءل علي بتعجب، «عن أي ثورة عم تحكي؟».

انتهز ماهر هذا السؤال ليبدأ بهوايته المفضلة وهي التنظير بالفصحى وكأنه أستاذ لمادة الفلسفة:

- «إنها ثورة الشعب التونسي العظيم، أحرار تونس قالوا كلمتهم، وقد آن أوان التغير والحرية، وكما قال الشاعر التونسي الشهير أبو القاسم الشابـي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر.

لقد انتهى زمان الخوف من أنظمة الاستبداد وآن أوان العدالة والحرية والكرامة، فقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية». نظر علي إلى ماهر والسخرية واضحة على تقاسيم وجهه وأردف:

- «شو؟ شو قلت؟ الثـ... الثورة التونسية» أطلق علي ضحكة مصطنعة ملؤها الاستهزاء والتهكم ثم تابع، «عن أي ثورة وأي حرية عم تحكي، اللي سمعتوا بالإعلام عبارة عن بضعة تجمعات شبابية طائشة وكلها يومين ورح تُقمع من الأمن وقوات مكافحة الشغب. يا رجل كبر عقلك، معقول تشتعل ثورة في أرجاء بلد كامل زي تونس بس عشان شاب عاطل عن العمل انتحر؟».

احمرّ وجه ماهر وكان على وشك الانفجار مما سمع للتو وردّ على علي بانفعال شديد إلا أنه بقي ينظّر بالفصحى.

- «انتحار!! إنه شهيد وبطل ضحى بروحه من أجل أن يُحيي روح الثورة في أوساط أبناء شعبه، ولكن أعداء إرادة الشعوب دائماً ما ينعتون الأبطال بأنهم مجرمون ومخربون».

في هذه الأثناء وبينما كان الجدال يحتدم بين ماهر وعلي، كان جهاد ينصت إلى النقاش الدائر أمامه وقد بدا واضحاً أنه يميل إلى كفة ماهر إذ كان لكلمات الأخير تأثير كبير فيه، وكي لا يشتعل النقاش أكثر، قرّر التدخل ليلطف الجو قليلاً:

- «شو رأيكم لو اتكملوا هاي الحلقة النارية من الاتجاه المعاكس بعد المحاضرة».

- «أمرك فيصل القاسم..».

* * *

جهاد لاجئ فلسطيني من عائلة محافظة، ولد في سورية وترعرع فيها. يدرس جهاد الأدب العربـي في جامعة دمشق، ويسكن مع أهله في مخيم اليرموك أو عاصمة فلسطينيي الشتات كما يحلو للبعض تسميته، فهو من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين. هُجّر جد جهاد من بلدته التي تقع غرب مدينة القدس سنة 1948، وحطت به رياح اللجوء في سورية. كان أبو جهاد طفلاً رضيعاً آنذاك، فهو لا يعرف فلسطين إلا من قصص جد جهاد، أما والدة جهاد فهي سورية الأصل من مدينة الزبداني بريف دمشق. وشاءت الأقدار أن يكونا والدي هذا الشاب.

* * *

ماهر، صديق جهاد «الروح بالروح»، سوري الأصل من مدينة حمص لكنه يسكن في دمشق وقد كان زميل جهاد في المدرسة وتخرجا معاً ثم التحقا بجامعة دمشق، إحدى أعرق الجامعات العربية. كان ماهر على عكس جهاد مهتماً بالسياسة ومتابعاً لكل التطورات التي تطرأ على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، وكان كثير المشاركة في النشاطات الطلابية داخل الجامعة. كان ماهر من أنصار التيارات اليسارية وكان من المتأثرين بأفكار ماركس الشيوعية ونضال تشي غيفارا ضد الإمبريالية.

علي، زميل جهاد في الكلية، سوري من الساحل، انتقل منذ فترة قصيرة ليسكن في دمشق. لم يكن جهاد وماهر يحبان الاحتكاك به كثيراً. لعلي شقيقان يعملان في الأجهزة الأمنية التابعة للدولة، الشقيق الأكبر ضابط في الحرس الجمهوري، أما الأصغر فيشغل منصب نائب رئيس فرع مخابرات محافظة طرطوس. ربما لهذا السبب كان جهاد وماهر يتجنبان كثرة الاحتكاك به.

* * *

في طريق العودة، وبعد يوم طويل مليء بالغرائب، تلا استماع جهاد لأول نشرة إخبارية بإنصات، وهو اليوم الذي غابت فيه دانيا، إحدى زميلاته في الكلية، والتي بالعادة لا تغيب ولا تفوت محاضرة واحدة.

كان جهاد يراقب قطرات المطر وهي تتساقط على نافذة «المكرو». وصلت الحافلة إلى موقفها الأخير، نزل جهاد من الحافلة ليكمل طريق العودة إلى البيت سيراً على قدميه تحت ماء السماء الطاهر الذي أزال عنه هموم وأحداث يوم لن ينساه وفي جسده دمٌ يجري.

ميلانو - أواخر 2010

شارع دي بورتا تيسينيزي

10:38 مساءً

في مدينة ميلانو شمال إيطاليا، على بُعد عشرات الأمتار من كنيسة القديسة (ماريا دي فيكتوريا) وبالقرب من حديقة منطقة (نافيجلي)، يقع الكثير من متاجر الموضة والأزياء، ويوجد أيضاً العديد من محلات الأسطوانات والتسجيلات الموسيقية. إذا لمحت هذه الأماكن وسرت بمحاذاة الأبنية، حتماً سوف تلمح لوحة معدنية مثبتةً بمسامير فولاذية على حائط أحد المقاهي مكتوب عليها بالإيطالية:

«Corso di PortaTicinese»

في داخل أحد محلات الملابس والأزياء على الجانب الأيمن من الشارع، كان رجل كبير في السن تبدو جلياً عليه الملامح العربية الشامية يعد غلة ذلك اليوم ويراجع بعض الفواتير والمصاريف والمدفوعات المستحقة كي يحسب أرباح هذا العام كما يفعل في نهاية كل سنة، إلا أن هذه السنة كان هنالك شيء غريب، ففي كل مرة ينتهي فيها من العد والنقر على أزرار الآلة الحاسبة، يعيد الكرة من جديد وكأن هنالك خطأً ما في الحسابات، قام بإعادة تشغيل الآلة الحاسبة والحساب من جديد، ولكن لم تختلف النتيجة التي تشير إلى خسائر ستتسبب في إفلاسه. بدأت تظهر عليه ملامح الحيرة والقلق، خاصة أن الشاب الذي يعمل عنده لم يداوم في المحل منذ خمسة أيام.

- «هل يعقل أن يكون العامل قد سرقني وهرب؟». راح الرجل يفكر، ثم قرر الذهاب في اليوم التالي إلى بيت الشاب ليسأل عنه، كي يقطع الشك باليقين.

عيّاش

جحيم في الدنيا، جحيم في الآخرة، شكراً يا رب، شكراً على هذا الحضيض الذي أعيش فيه... قبل مئتين وخمسين سنة كان جدّي ملكاً... ملكاً حقيقياً له مِنسأة صولجانية وعمّة ضخمة وعباءة منسوجة من سَقْط تسعة حملان، وكان نفوذه يمتد من قرى شمال الصعيد عند بني سويف والمنيا، وينتهي في أسوان، واسمه كاملاً همّام ولد يوسف بن أحمد بن محمد بن همّام بن أبو صبيح سيبك، والملقب بشيخ العرب همّام، الجنابُ الأجلّ والجناح الأظلّ، عظيم الصعيد وفارس هوّارة والذي خسر ملكه بعدما هزمه علي بك الكبير وتوفي منفياً عن عاصمة مملكته فرشوط، في العام 1769م لينفرط عقد آل همّام من بعده فروعاً مبعثرة في أرجاء البلاد، ولأدفع أنا الثمن وحدي، فبدلاً من أن أغدو برنساً يافعاً في مقتبل العمر، يفقه في الإتيكيت والفروسية والشعر: صرت واحداً من عامة الناس، مجرد واحد آخر، في فرع عياش الفقير من بني همّام، كاتب مغمور وشحيح الإنتاج لا يملك من أمره إلا أن يجاري الدنيا ويلاعبها بالأوراق التي في يده.

أترك القلم الذي تعرّق في يدي، أسحب نفساً من سيجارة ملفوفة كادت تنطفئ، أفكّر في الأوراق التي بين يدي والتي سألاعب بها الحياة، لا أجد سوى ورق الدشت وورق البفرة. أتذكّر محفظتي، أفتحها فأجد آخر عشرة جنيهات، أقول في بالي: «أوراق لا تكفي لملاعبة الحياة أكثر من نصف يوم». أنزل وأشتري سجائر فرط وطعميّة ساخنة ورغيفين، أحتفظ بثلاثة جنيهات أجرة المواصلات للغد، أتجاهل تساؤلاً يدوّي في رأسي عن كيف سأتدبّر أمري حتى بداية الشهر المقبل؟ غصّة تتصاعد عبر بلعومي وتقف في آخر حلقي، أسرع في المضغ لأظفر بمذاق الطعميّة قبل أن تختلط بالحزن. تنحشر كتلة في حلقي. أجرع بعض الماء. أتنفّس بعمق. أقوم وأطسّ وجهي بماء بارد من حنفيّة المطبخ، أترك رغيف الطعميّة، أفتح اللابتوب الذي تخلّعت أزراره، أجد رسالة إلكترونية من صديق جزائري يطلب مني كتابة مقال لجريدة الحزب الحاكم عن اليوبيل الذهبي لاستقلال الجزائر. جاء الفرج، وفي عزّ الظلام، هكذا فكّرت. أسأله:

-الله والوطن؟

-لا تنس أن المقال سينشر في جريدة الحزب الحاكم. تفهمني طبعاً يا صديقي.

أفهمك بالتأكيد يا ابن الحرام. أفهم جيداً أن خزائن الأرض ومفاتيحها في كروشكم، وأنا مستعد لكتابة مُعلّقتي في الرياء. فقط أروني يوروهاتكم، هبوني أموالكم أهبكم روحي، هكذا قال تشارلز بوكوفسكي في إحدى ندواته، وهكذا أفكّر أن أكتب لصديقي الجزائري، إلا أنني أحجم، بل وأخجل من تكرار سؤالي عن المقابل المادي.

في المساء أنهي كتابة مقال بعنوان «الورد اللي فتّح في جناين الجزائر»، جاء فيه: ... لفرحتي بهذه الذكرى أسباب وأسباب، فأنا كمصري، أعرف بدقة تفاصيل التاريخ المشترك العريض الذي جمع الوطنين في تحالف سري ومعلن في آن، فبخلاف المساهمة المصرية الموثّقة تضامناً مع ثورة الشعب الجزائري في مطالبته بحقه لتقرير المصير، جاء الرد الجزائري السخي، الفيّاض، ففي أيام 9، و10، و11 أكتوبر 1973 وصلت للأراضي المصرية الأسراب الجزائرية سوخوي 7 وميغ 17 وميغ 21 إضافة إلى إيداع 200 مليون دولار مناصفة بين مصر وسوريا من طرف الحكومة الجزائرية. لهذا التاريخ من الدم والكفاح المشترك، يطربني أن أشارك الجزائريين بهجتهم بيومهم الوطني. ويطربني أكثر أن أرى سحابة الصيف التي رافقت مباراة الكرة إياها وقد مضت لحال سبيلها، تلك اللحظة المسيئة للطرفين والتي ثبت أنها لم ترتق لدرجة تلويث التاريخ المشترك بين الشعبين. ومن هنا أكرر: مبروك للشعب الجزائري تحرّره المستمر حتى اللحظة، والمتواصل، إلى يوم يبعثون، بمشيئة المولى ثم برصانة القيادة الجزائرية ووعي الشعب الثائر والمكافح.

خمسون عاماً انقضت منذ رحيل المستعمر الفرنسي عن الجزائر بعد ملحمة خرافية سطّرها الشعب الجزائري بكل عناصره محققاً ثورة ستظل إلى الأبد وفقاً للأرقام ووفقاً لشواهد القبور، وأشلاء المجاهدين، وفقاً لكل ما يمكن أن تقاس به الثورات، ستظل الأكبر على مستوى العالم. خمسون عاماً لا يحكم فيها الجزائر إلا جزائريون، وهذا في حد ذاته أمر طبيعي في عصر ما بعد الكولونيالية، لكن الجميل بالفعل، هو أن يكون ذلك الحكم، سليل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، تلك المنظومة الخالدة في التاريخ التي أعطت الكثير، الكثير فعلاً ودون أي نوع من التجميل، وهذا مفهوم قياساً بعدد المنتسبين إلى الجبهة الذي وصل إلى 180000 مواطن في تلك الفترة التي لم يتجاوز فيها عدد المقيدين الذين أتيح لهم التصويت في استفتاء الاستقلال (اتفاق إيفيان) قرابة ستة ملايين فرد.

أراجع المقال، أضبط الفواصل والهمزات والحروف المنزلقة فوق لعابي الذي سال، أضع خطأ تحت العنوان الذي اخترته، أكتب اسمي فوق المقال مع هامش سفلي مكتوب فيه (صحافي وروائي مصري). أرفع المقال ثم أرسله.

بعد أيام أتجه إلى البنك لأتسلّم حوالة بقيمة سبعين يورو.

***

جدّي عياش كان يقول: «الدولار عملة أهل الجنّة»، فاته رحمه الله عصر توهّج الاتحاد الأوروبي. أفكر في ذلك وأنا في طريقي إلى العمل، السبعون يورو ستشكل غطاءً مادياً لأسبوعين إن لم تحدث أية أمور طارئة، وهي الفترة التي تفصلني عن قبض المرتّب. الشركة التي أعمل فيها تنشط في مجال استيراد الكيماويات، شركة صغيرة لا يوجد فيها غيري أنا والدكتور شريف العجماوي، المالك.

صديقي الذي دلّني على فرصة العمل عند الدكتور العجماوي - أو عجميستا كما صرت أناديه بيني وبين نفسي - لم يخبرني، والأمر لم يكن يحتاج إلى خبريّة، اكتشفت منذ اللقاء الأوّل أنه مثليّ. كل شيء كان يشي بذلك مشيته، وعلكته، ونظراته، وحتى بريده الإلكتروني الذي صرت مسؤولاً عن متابعته.

لحسن الحظ لم أكن مثيراً بالنسبة إليه، عجميستا لا يحب البدناء، ولا يحب الشعر الناعم. عجميستا كان يصطحب معه إلى المكتب عمّال بناء وعتّالين وحرفيين وفلاحين، ثم كان يصرفني بمنتهى اللطف: «تقدر تروح يا عمّور». أذكر مرة أنني هاتفته لأتأكد من أن الغد، السابع من يناير، عيد الميلاد المجيد إجازة. عجميستا رفض وقال إننا لسنا نصارى لنؤجز، وأجبرني على ترك السهرة مع الأصدقاء لأروّح وأخلد إلى النوم استعداداً ليوم جديد من العمل. وفي اليوم التالي، وبعد ساعتين من بدء العمل، دخل إلى المكتب، بابتسامة نيئة، وبخدين متورِّدين، يتبعه شاب يفيض بالصحة. منحني يومها إذنًا مجانياً بالانصراف المبكر. في نفس اليوم قررت أنه يجب أن أجد وظيفة أخرى.

back to top