انتبه أيها السياسي

نشر في 01-10-2017
آخر تحديث 01-10-2017 | 00:12
المطلوب ببساطة أن يعرف كل متحدث عمومي أن ما يقوله علناً دائماً، وسراً في بعض الأحيان، سيخرج يوماً إلى الناس، وسيسمعه ويدركه ويتأثر به هؤلاء الذين يستهدفهم الخطاب، كما سيصل إلى الآخرين مهما كانوا بعيدين.
 ياسر عبد العزيز في أعقاب إعلان انتخابه رئيساً لمصر، ذهب الدكتور محمد مرسي ليلقي كلمة للشعب، فخاطب الجمهور قائلاً: "أهلي وعشيرتي"؛ وهو النداء الذي ظل يجسد إشكالية الخطاب العمومي "الإخواني" لاحقاً، كما أعطانا فكرة واضحة عن انغلاق تلك الجماعة، وتهافت رؤيتها السياسية، وتصورها عن دورها ونفسها.

كان مرسي نفسه قد تورط ورطة أكبر، حين خطب في مؤتمر جماهيري، بوصفه قيادياً في الجماعة، في عام 2010، بإحدى المحافظات، إذ رأى أن الجمهور جله من أعضاء الجماعة ومؤيديها والمتعاطفين معها، فراح يجلجل واصفاً اليهود بأنهم "مصاصو دماء"، و"أحفاد القردة والخنازير"، كما طالب المستمعين بأن "يرضعوا أبناءهم كراهية اليهود".

لم يكن مرسي يدري أنه حين خاطب هؤلاء المؤيدين، في تلك الجلسة المغلقة، كان ثمة من يصوره بالفيديو، وأن هذا الفيديو تمت أرشفته، وأمكن استدعاؤه لاحقاً بطريقة سهلة للغاية، مما أوقعه في ورطة كبيرة؛ إذ ظهر أن هذا الرجل بات ممثلاً لفصيل غاية في الانتهازية السياسية، في رئاسة جمهورية مصر العربية، ومن منطلق براغماتي راح يرطب العلاقات مع إسرائيل، حتى إنه وصف نظيره الإسرائيلي شمعون بيريز، في رسالة رسمية، بـ"الصديق الحميم"، وتمنى لدولته "التقدم والرفاهية".

من "أحفاد القردة والخنزيرة" إلى "أصدقاء حميمين"، تحول الإسرائيليون في خطاب مرسي، ومن تحريض الجمهور على كراهيتهم إلى الدعاء لهم بـ"التقدم"، تحولت مشاعر هذا الأخير تجاههم، في مدة لم تتجاوز سنتين.

يعطينا هذا فكرة واضحة عما طرأ على مفهوم الاتصال من جانب، وعن القيود التي تكثفت على مخاطبي العموم في عالمنا من جانب آخر.

شيء مثل هذا حدث، حين ظن الداعية اللامع عمرو خالد، أنه بدعائه لـ"متابعي صفحته" على موقع "فيسبوك"، واختصاصهم بمحبته واهتمامه، في ما كان يؤدي فريضة الحج قبل أسابيع، يمكن أن يمر مرور الكرام.

وببساطة، لم يمر هذا القصر في الدعاء، وتم إلحاق الأذى بالداعية، لأن ملايين آخرين كان بوسعهم أن يستمعوا إليه، وكان من حقهم أن يشعروا بالإقصاء، قبل أن يسخروا مما اعتبروه "انتهازية وتزلفا"، يريد منها هذا الأخير أن يحصد "لايكات" وأن يزيد عدد المعجبين.

لقد تغير الفضاء الاتصالي الذي نعيش فيه تغيراً جوهرياً في العقدين الآخرين؛ وهو تغير يبدو أن كثيرين لم يدركوا أبعاده بعد، ولذلك فهم يدفعون أثماناً فادحة.

وببساطة شديدة، فثمة عاملان يؤطران هذا الفضاء الاتصالي راهناً؛ وهما: طاقة الأرشيف اللامتناهية، ولا محدودية التلقي، وبلغة أوضح فإن كل ما تقوله أو تفعله، علناً أو سراً، يمكن أن يكون متاحاً لأوساط تلقي غير تلك التي تظن أنها تسمعك، كما أن كل ما تقوله أو تفعله، علناً أو سراً، يمكن أن يُسجل، ويُؤرشف، ويستدعى في وقت ما.

يفرض هذا على صناع الخطاب العمومي، والمتحدثين العموميين، والنجوم، والشخصيات العامة مزيداً من القيود، وهي قيود تفرض التزامات جديدة، وطريقة مختلفة في الحديث والتصرف، وهو أمر يمتد ليشمل مجالات السياسة، والاقتصاد، والفن، والرياضة، والخطاب الديني.

ولمزيد من تقريب المسألة فإن الخطاب الديني مثلاً يحظى بازدواجية كبيرة، وتُرتكب عبره أخطاء اتصالية مكلفة، حين يعتقد بعض الدعاة المسلمين أن ما يقولونه لا يخص سوى المسلمين المتدينين، ولذلك فهم يذهبون إلى "تكفير المسيحيين"، وإلى "الدعاء على غير المسلمين" بالهلاك في خطب المساجد، أو قصر الدعاء بالخير على المؤمنين دون سواهم، وحين يتناول بعض الدعاة السنة أنماط التدين الشيعي أو العكس، بشيء من الانتقاد.

لكن هؤلاء الدعاة وممثلي المؤسسة الدينية يغيرون كلامهم حين يتحدثون في منتديات "حوار أتباع الأديان"، وحين يذهبون إلى الكنائس أو المساجد أو الحسينيات، للحديث عن ضرورة إدامة المودة والتفاهم والحفاظ على العيش المشترك، وحين تتم دعوتهم إلى منتديات "الوحدة الوطنية".

هناك مبحث رئيس يجب أن يتعلمه كل من يتصدى للعمل العام، وتضطره مهامه إلى أن يتحدث للجمهور؛ وهو مبحث يُسمى "تشخيص الجمهور".

وتقول الأدبيات الكلاسيكية في هذا المجال أن المتحدث عليه أن يحدد سمات جمهوره، ويختار المضامين وطرق التعبير الملائمة له، حتى ينجح في إدراك أهدافه من الخطاب.

يؤسفني بشدة أن أشير إلى أن ذلك ليس سوى "تاريخ دراسات الخطاب العمومي"، لأن أولى قواعد الخطاب الأكثر حداثة تشير إلى لا محدودية نطاق التلقي، بحيث يصبح جمهور الخطاب العمومي العالم بأجمعه، بما فيه المؤيديون والمعارضون، والأصدقاء والأعداء.

يظن البعض أن السياسي المسؤول في منأى عن الالتزام بتداعيات تلك القاعدة الأحدث، طالما كان يتحدث في نطاق خاص.

إن هذا التقييم خاطئ بكل تأكيد، لأن عهد الخصوصية، بكل بساطة، انتهى، أو هذا على الأقل ما قاله "مارك زوكربيرغ"، مؤسس "فيس بوك" قبل نحو سبع سنوات.

بسبب جملة من التطورات التقنية، التي نعرف بعضها ولا نعرف بعضها الآخر، بات كل مسؤول مراقباً معظم الوقت، وضمن تلك المراقبة، فقد يتم تسجيل، وأرشفة، ما يقوله في النطاق الخاص، ثم استدعاؤه، وإذاعته لاحقاً في العلن.

لقد عرفنا أن الولايات المتحدة مثلاً استطاعت أن تتنصت على محادثات سرية لقادة أوروبيين مرموقين؛ بينهم المستشارة الألمانية، والرئيس الفرنسي.

وعرفنا أيضاً أن بعض ما قاله قادتنا في اجتماعات مغلقة، أُذيع على العلن، وأصابنا بأفدح الأضرار، كما أدركنا مثلاً أن الزيارات السرية، واللقاءات غير المعلن عنها، خرجت إلى العلن، وباتت جزءاً من السياسة والتاريخ، والفقرات الانتقالية في القصص الصحافية.

والمطلوب ببساطة، أن يعرف كل متحدث عمومي أن ما يقوله علناً دائماً، وسراً في بعض الأحيان، سيخرج يوماً إلى الناس، وسيسمعه ويدركه ويتأثر به هؤلاء الذين يستهدفهم الخطاب، كما سيصل إلى الآخرين مهما كانوا بعيدين.

يفرض هذا على الشخص العام، والمتحدث العمومي، أن يضبط خطابه، وأن يختار إفاداته بعناية، وأن يزنها بميزان الذهب.

ويعيد أيضاً الاعتبار لحكمة فارسية قديمة لا يلتفت إليها كثيرون؛ وهي حكمة تقول: "الكلام المباشر لا يصدر عن فطن".

* كاتب مصري

الخطاب الديني يحظى بازدواجية كبيرة وتُرتكب عبره أخطاء اتصالية مكلفة

على الشخص العام أن يضبط خطابه وأن يختار إفاداته بعناية وأن يزنها بميزان الذهب
back to top