«القوة الناعمة» المُفترى عليها!

نشر في 24-09-2017
آخر تحديث 24-09-2017 | 00:07
مفهوم «القوة الناعمة» يخص الدولة والمجتمع في آن، فيجب أن يخضع لإدارة مركزية تعمل على استيفاء كل عناصره، لا التركيز فقط على مفهوم «الغناء والرقص»، وأن ذلك المفهوم الواسع لا يدرك المرامي وحده، بل من خلال تضفيره مع مفهوم «القوة الصلبة».
 ياسر عبد العزيز ظل مفهوم «القوة الناعمة» عصياً على الضبط والفهم في منطقتنا، رغم غزارة استخدامه من قطاعات كبيرة في النخبة العربية؛ وهو أمر تسبب في التباس معناه بين أوساط الجمهور بعض السياسيين وصُناع القرار.

يبدو لكل من يتابع تفاعلات نخبتنا العربية مع هذا المفهوم أن سوء فهم عميقاً سيطر على هذا التفاعل؛ بحيث تم اختصار مفهوم «القوة الناعمة» في الغناء والرقص تقريباً من جانب، وتم اعتبار هذا المفهوم منفصلاً عن القوة الشاملة للدولة، وغير خاضع لإدارتها، باعتباره مهمة المطربين والموسيقيين والسينمائيين والطباخين والشعراء فقط، من جانب آخر.

إن تحرير مفهوم «القوة الناعمة»، وتفصيل مؤشراته المتوافرة، وتحليل تجارب الدول المتقدمة في استخدامه، كلها أدوار مهمة وواجبة، لذلك فقد كانت مكتبة الإسكندرية موفقة، حين اختارت عنوان «مستقبل القوة الناعمة في مصر» ليكون موضوع نقاشات أول صالون ثقافي تعقده، تحت إدارة مديرها الجديد الدكتور مصطفى الفقي، في الأسبوع الماضي.

ظهر مصطلح «القوة الناعمة» لأول مرة بمعناه الحالي، في عام 1990، في مقال كتبه بروفيسور العلوم السياسية في جامعة «هارفارد» الأميركية «جوزيف ناي»، في دورية «السياسة الخارجية»، تحت عنوان «القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة».

وعاد «ناي» إلى المفهوم مجدداً بمحاولة أوسع لتأصيله وتنقيحه في كتاب شهير بعنوان: «القوة الناعمة: سبل النجاح في عالم السياسة الدولية»، وهو الكتاب الذي صدر في عام 2004.

وفي أبسط صورة ممكنة، يشرح «ناي» مفهوم «القوة الناعمة» باعتبارها: «قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه»، وبمعنى آخر فهي: «قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة».

إن «القوة الناعمة» مفهوم سياسي بامتياز؛ وهو أمر يخص الدولة بقدر ما يخص المجتمع، ولا يمكن للقوة الناعمة أن تعمل خارج نطاق إرادة الدولة وأهدافها، وهي تمتزج مع القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية والأمنية والديموغرافية) لكي تشكل «القوة الشاملة» للدولة، كما أن توظيفها بحصافة مع شقيقتها «الصلبة» يُنتج ما وصفه «ناي» لاحقاً بأنه «القوة الذكية».

وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن مفهوم «القوة الناعمة» بات يخضع لمؤشرات عديدة لقياسه وتعيينه تعييناً منضبطاً، بعض هذه المؤشرات يتضمن عناصر مختلفة، ويصل عدد هذه العناصر في أحد أهم المؤشرات إلى 75 عنصراً، وقد تم تطويره وتفعيله على المستوى الدولي منذ عام 2015.

وبين العناصر الـ75 تلك ستجد التعليم، والسياحة، وعدد السياح، والتنافسية الاقتصادية، وترتيب فريق كرة القدم الوطني بحسب «الفيفا»، والحوكمة، وعدد الشركات الأجنبية، والقدرة الإلكترونية، وسرعة الإنترنت، وحرية الإعلام وغيرها، وستجد أيضاً حالة الحريات، واحترام حقوق الإنسان، كما ستجد النفاذية الثقافية، والتأثير المعرفي.

ومن بين المحاولات الجادة التي حاولت أن ترسي معايير لقياس «القوة الناعمة» تلك المحاولة التي أثمرت «مؤشر بورتلاند»، وهو مؤشر طورته مؤسسة بحثية أميركية معتبرة بمساعدة عدد من الباحثين في أهم الجامعات الغربية.

ويحدد المؤشر ستة عناصر لقياس «القوة الناعمة» في أي دولة؛ على النحو التالي:

أولاً: الحكومة، وجودة المؤسسات السياسية، ومدى توافقها مع معايير الحكم الرشيد.

ثانياً: الانتشار الثقافي، بما يتضمنه من جودة الإنتاج الثقافي والمعرفي والفني وتنافسيته.

ثالثاً: المشاركة العالمية والسياسة الخارجية.

رابعاً: التعليم، والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي.

خامساً: الاقتصاد، وجاذبية الدولة الاقتصادية على صعيد الاستثمار وأداء المؤسسات.

سادساً: التواصل الرقمي للدولة.

يتضح من فحص تلك العناصر الستة أن مفهوم «القوة الناعمة» سياسي بامتياز، وأنه يبدأ بقدرة الحكومة على أن تحظى بالاحترام والاعتبار الدوليين، عبر التزامها أنماط أداء ديمقراطية ورشيدة، وعبر ما تظهره من احترام للحريات وحقوق الإنسان.

ثم يأتي الانتشار الثقافي الذي تؤدي فيه الثقافة والفنون الدور الأهم، قبل أن تظهر المشاركة العالمية والسياسة الخارجية، ثم التعليم، والاقتصاد، والتواصل الرقمي.

يتضح لنا من ذلك أن دولة تمتلك أفضل المطربين والفنانين وأجمل المناطق السياحية في العالم لا يمكن أن تحرز نقاطاً كافية في مؤشر «القوة الناعمة» إذا كانت حكومتها دكتاتورية، أو الانتخابات العامة التي تجريها مزورة، أو حالة حقوق الإنسان فيها مزرية.

يتضح لنا أيضاً أن دولة تمتلك أكبر عدد من الشعراء والممثلين قد لا تحتل مكانة متقدمة في هذا المؤشر بالضرورة، إذا كانت تعاني مشكلات اقتصادية، أو تخفق في خلق بيئة استثمارية فعالة.

ويظهر لنا أيضاً أن التعليم عنصر أساسي من عناصر إدراك «القوة الناعمة»، ليس فقط في ما يتعلق بإتاحة فرصه لأبناء البلد، ولكن في ما يتعلق بقدرة المنظومة التعليمية على أن تكون جاذبة للأجانب ليأتوا ويتعلموا عبرها، ويصبحوا في وقت لاحق رصيداً مهماً للدولة وداعماً رئيساً لها.

وببساطة أيضاً، ولتقريب الصورة عبر ضرب الأمثلة، فإن نزاهة الانتخابات في بريطانيا، وكفاءة حكومتها، ونجاعة الإدارة العمومية للدولة، من أهم العوامل التي جعلتها تتربع على عرش «القوة الناعمة» في 2016، كما أن القدرات التعليمية الفذة في ألمانيا كانت عاملاً رئيساً لاحتلالها مكانة متقدمة في هذا المؤشر.

ورغم أن لبنان مثلاً يمتلك طاقة فنية وأدبية وسياحية خلابة ومؤثرة، فإنه سيأتي في مرتبة لاحقة للإمارات، التي تفوقت بامتلاكها بنية سياسية فعالة، ومشاركة سياسية عالمية وإقليمية نشطة، وقدرات أكبر في السياسة الخارجية، وسمعة اقتصادية براقة.

والأمر ذاته يتضح عندما نقارن بين دولة كبيرة غنية بالفنون مثل الهند، مع دولة صغيرة الحجم ومحدودة الإنتاج الفني مثل الدنمارك؛ حيث نجد أن الثانية سبقت الأولى.

يتضح من هذا العرض أن مفهوم «القوة الناعمة» يخص الدولة والمجتمع في آن، وأنه يجب أن يخضع لإدارة مركزية، تعمل على استيفاء كل عناصره، وليس التركيز فقط على مفهوم «الغناء والرقص»، وأن ذلك المفهوم الواسع لا يدرك المرامي وحده، إنما من خلال تضفيره مع مفهوم «القوة الصلبة».

إنه مفهوم يُخطط لإدراكه سياسياً، ويُدار سياسياً، وتُجنى ثماره سياسياً.

* كاتب مصري

«القوة الناعمة» مفهوم سياسي بامتياز يبدأ بقدرة الحكومة على أن تحظى بالاحترام والاعتبار الدوليين
back to top