هل تحبين برامز؟

نشر في 24-09-2017
آخر تحديث 24-09-2017 | 00:00
 فوزي كريم مازلت أتذكر موسيقى الألماني برامز Brahms (1833-97)، مطلع الشباب في بغداد، في فيلم "وداعاً مرة ثانية" (1961، عن رواية فرانسوا ساﮔان "هل تحبين برامز؟). أتذكر خيوط اللحن، الذي أطلق تنهداتي القلبية الحارة من أسارها، منتزعةً، كما عرفت فيما بعد، من السيمفونية الأولى، في حركتها الرابعة (البطيئة). اللحن ينطلق بعد مقدمة لائبة تمتد لدقائق أربع. كذلك اللحن المتهادي الذي يمتد طوال الحركة الثالثة من السيمفونية الثالثة. اللحنان خريفيان، يلائمان مشاعر امرأة حائرة في الأربعين (تقوم بدورها الممثلة بيرﮔمان).

من بين الشعراء والموسيقيين والفنانين، هناك مَن يتميز بهذه الصفة الخريفية، التي لا تنمّ عن حزن جارح، بل عن ضرب من الأسى الهادئ، الذي لا يُخفي عذوبتَه ورقةَ ملمسه. لندن في الخريف خيرُ من يعبّر عن هذا الهاجس من بين المدن. أشجار الكستناء المتزاحمة تُسقط أوراقها في الحدائق، الـﭘاركات وعلى الأرصفة. الأوراق التي كانت داكنةَ الخضرة على أغصانها، تُصبح ذات خلطة لونية تستعصي على الوصف؛ خمرية مشوبة بلون البن وحمرة الشفق، وصفرة النرجس. تتساقط بدِعةٍ، وكأنها تستجيبُ لدعوة كريمة من الأرض. ألحان برامر التي أستعيدُها من الفيلم، لا تختلف كثيراً عن هذه الخلطة. لذا أعودُ إليه مع مطلع كلِّ خريف.

الإحاطةُ به ليست مستعصية، فأعماله، على كثرتها، محدودة، قياساً لباخ، موتسارت أو بيتهوفن. له 4 سيمفونيات، 2 بيانو كونشيرتو، ﭭايولين كونشيرتو واحد، 3 "تنويعات" أوركسترالية، ومن "موسيقى الغرفة" قرابة 19 عملا موزعة على فنون الثلاثيات والرباعيات والخماسيات والسداسيات الوترية، وغير الوترية، إلى جانب أعمال البيانو المنفرد، والأغاني. ولديه "قُدّاس جنائزي" جليل يُلقب بـ"الألماني". والعلةُ في هذه القلة كامنة في نزعته إلى الكمال الفني، فكم أتلف من أعمال عن حق أو غير حق. على أن هذه الطبيعة مصدرُ جاذبية، فعمله بالغ التماسك، حتى ليوصف بـ"المحافظة"، وكأنها تهمة، مقارنة بالنزعة التجديدية باتجاه ربط الموسيقى بما وراءها من دلالة، والتي تصدرها "ﭭاﮔنر".

كان الناقد المعروف هانسلك يدعم برامز كنموذج أمثل في إنتاج عمل فني "خالص" للفن، ومكتفٍ بذاته. وأنا على يقين أن برامز لم يكن يعتمد قياساً نقدياً، يلوّح به النقاد المعادون أو المنتصرون له. إنه شاعر ألحان تتمتع بصدقٍ داخلي، ورغبةٍ مخلصةٍ للتعبير عن الأسى العاطفي، الذي راكمته السنين. ولكي تختبر مصداقية كلامي، لك أن تنتخبَ من YouTub ثلاثية البيانو الأولى Piano trio no.1، لتصحب أساه العذب هذا. كان برامز ذا موهبة مبكرة، صرفها في صِباه عازفاً جوالاً للـﭭايولين بين البارات، ثم في مطلع شبابه تعلق بأستاذه المُحبب شومان وزوجته كلارا، التي كانت موسيقية أيضاً.

لكن الأقدار لم تُشبعه من طيبتهما وتشجيعهما كفاية، إذ سرعان ما جُن شومان، وحاول الانتحار، ومات في المستشفى، وظل هو على مقربة من كلارا وصغارها الكُثر معيناً، ومستعيناً. إلا أن موسيقاه تقول بخفاء إن علاقته بها لا تخلو من حبٍّ حييّ ومستور.

وأنا في استعادتي لما أحب من أعماله، توقفتُ عند كونشيرتو البيانو رقم واحدPiano Concerto no.1 (ثلاث حركات)، تعزف على البيانو فيه الفرنسية البارعة Hélène Grimaud. فالعمل كله من الوزن الثقيل (حركته الأولى تمتد 24 دقيقة)، وكأن برامز، وهو بعد في مطلع العشرينيات من عمره، أراد أن يلاحقَ، بثقةٍ عالية، خطا بيتهوفن. فمدخلُ حركته الأولى مثير للروع (الثيمة الأولى)، إلا أنه يلين ويرق، ثم يعاود الكرّة. تدخل البيانو لتضع أوليات (الثيمة الثانية) التي تحملها عنها الوتريات، ثم ينمو تشابك الألحان، حتى الخاتمة. سمعت الحركة الأولى أكثر من مرة، قبل أن أنتقل للثانية، ثم الثالثة. وعبرها جميعاً لم تغِبْ عن مخيلتي صورةُ برامز في الواحدة والعشرين، وهو يتأمل الحياة فيغضب، وذاتَه فيحار، وشومان (مع البيانو في الحركة الثانية) فيقلق، وكلارا فيرق.

لابد من معاودة رؤية فيلم "وداعاً مرة ثانية"، أو قراءة رواية "هل تحبين برامز؟".

back to top