نجمة المقهى

نشر في 16-09-2017
آخر تحديث 16-09-2017 | 00:00
No Image Caption
ذلك النهار كان مختلفاً في أحداثه وتفاصيله ولون سمائه، وشمسه المتوارية خلف الغيوم. ثمة رياح وأضغاث مطر تتشكل على غير هدى، وترسم صوراً رمادية، باردة، وقانطة للآتي القريب، فانتقال هناء عابد الشاكر من الجنوب إلى بيروت لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، فقد اعتادته مرافقة لأسرتها في حلّها وترحالها، في حافلة القرية أو غيرها من الحافلات العابرة من الجبل، والتي أصبح لهديرها دلالات خاصة في نفسها كأنها جرس إنذار للبحث عن مخرج، أو عن أمل مفقود يمكن أن يضيء سماء الأسرة في زمن القسوة، منذ أن اقترن بسوء الحظ وقلة الحيلة؛ كأنه قدر محتوم لا مفر منه. وفي اللحظة التي يطلق المعاون نعيم نداءه المعهود «ع بيروت، ع بيروت، ع بيروت»، تشتعل هواجسها بالحيرة والقلق وتغادر فراشها الدافئ رغماً عنها. تشعر بشيء ما يلسع روحها ويستبد بها، فهذه الدلالات والأصوات والمشاعر لها معنى وحيداً في ذاكرتها هو، الغياب.!

تضع هناء قدمها على مدخل الحافلة، يسبقها شعور خافت بالوجل، ترى في عيني السائق محفوظ، نظرة لم تعهدها من قبل وابتسامة خجولة تعبر عن شيء ما في نفسه. أما المعاون نعيم فيمتلئ وجهه حبوراً وبهجة، وهو يتلقف حقيبتها ويصطحبها إلى مقعدها كعادته، منذ أصبحت بيروت رفيقة أيامها وتوأم عمرها، ومرتع أحلامها الآتية من بعيد. كانت ترى في عينيه صورة بائسة لطفولتها، فعلى تلك المقاعد العتيقة «بكت وضحكت» وتألمت وعبثت بالأشياء، وتعلمت الكثير مما يتعلمه الصغار في غفلة عن الآباء والأمهات أو بعلمهم.

يفرغ «نعيم» من وضع أمتعتنا في أماكنها ويواصل عبر باب الحافلة نداءاته المعهودة بصوت خاطف.. ع بيروت.. ع بيروت.. ع بيروت. فيوقد في ذاكرتها شموع الأيام، ويتناهى إلى سمعها صوت أمها وهي توقظها من نوم عميق.

- قومي يا هناء تأخرنا قومي..

تسكت قليلاً، وتعيد الكرة برجاء. أقرب إلى الأنين.

-قومي يا حبيبتي.. قومي يا أمي تأخرنا.. الله يخليكي.. هلق بتجي البوسطة.

كانت هناء تشعر بوقع خطوات أمها في أرجاء المنزل وهي تحاول إيقاظها قبل أن تفتح «نجمة الصبح» عينيها على النور، لكن دفء الفراش يجذبها إليه، وعتمة الغرفة تزيدها رغبة في النوم،

-قومي يا هناء.. يللا قومي... تأخرنا.

يظل صوت الأم معلقاً في سمعها وهي بين نوم ويقظة، تقاوم النعاس، بتثاؤب مسموع يترك صداه في أنحائها، وعبارتها مبعثرة،

-طيب... رح.. قووووم!

...رح قووم.

تغادر فراشها مرغمة لتقوم بما عليها القيام به. تشعر ببرودة المياه تلسع وجهها النابض بياضاً فتغسله بحذر، ثم ترتدي ما هيأته لها أمها من ملابس استعداداً للرحيل.

كانت «فاطمة» ما تزال منهمكة في جمع ما تيسر من ملابس وحوائج وأغراض، في صناديق وحقائب قديمة، بدت متأففة وهي تحمل ما تيسر لها من أدوات منزلية وأغطية وغيرها من لوازم السفر. هناك شيء ما يهتز داخلها، يشبه الإحساس بالألم يظهر في ندائها المتردد.

-تأخرنا.. تأخرنا يللا يللا.. إجا محفوظ.

هدير الحافلة يقترب ويوقظ «هادي» من نومه باكياً، تتلقف الأم بكاءه وتسارع إلى تهدئته، وتعمل على تخليص المنزل من بعض فوضاه.

-كل شيء أصبح جاهزا الآن.

حوائجنا ونحن، وبرد شديد متربص بنا، في بيتنا الحزين المعتم الذي ينطفئ فيه القنديل، والموقد، والدفء، وتتوقف عقارب زمنه عن الدوران.. حان الوقت إذن!

-أسرعي يا هناء.. يللا يللا.

أسرع وأنا أحمل لعبتي، وحقيبة مدرستي، وصمتي الذي يسكنني قبل أن أولد، وأغادر المكان.. لكنه لا يغادرني تظل صورته معلقة في قلبي وفي عيني أمي الدامعتين وبكاء «هادي» الذي ينم عن جوع أو ألم. لم تتغير أحوالنا كثيراً عندما بدأ المعاون «نعيم» رفع أمتعتنا فوق سطح الحافلة، أحسست بشيء ما يسقط داخلي.. وأنا أبحث مع أمي عن مقعد داخلها قبل أن تكتظ بالمغادرين والضجيج. تحشرني فاطمة في زاوية المقعد ناحية النافذة، وتريح رضيعها على ركبتيها ثم تصلح ربطة شعري، وتزيح خصلاته المتمردة عن عيني. وتنفض عن ملابسي الصوفية ما علق بها من خيوط وغبار، تود أن تفرغ مني وتتنفس قبل أن يستحوذ عليها «هادي» من جديد.

ينهي نعيم ما لديه من مهمات خارج الحافلة وداخلها ويلقي بنفسه متعباً فوق أحد المقاعد الخلفية نافضاً عن ثيابه ما علق بها من رذاذ.. ثم لا يلبث أن يجلس أحد الركاب مكانه ويقف ممسكاً بالباب، يفتحه أو يقفله كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

.. تتحرك الحافلة، فتتمايل أجساد الركاب على إيقاع عجلاتها الحذر فوق الماء.. ويغيب بيتنا شيئاً فشيئاً عن مرمى النظر ويعم السكون. وحده ضجيج الحافلة يحلق في الأرجاء. في تلك اللحظة أيقنت أنني أسير في طريق معاكس لرغبتي وكل جهاتي.

بعد قليل سوف يزدحم الشارع بالأطفال الذاهبين إلى مدارسهم، لن أكون بينهم هذا الصباح وربما لصباحات كثيرة قادمة، سوف يعبرون النهار، والنهر الذي يشكله المطر من ضفة إلى أخرى، أو يرمي بعضهم زوارق ورقية في خضمه.. كما كنا نفعل معاً، ونرحل مع الأشياء إلى حيث ترحل، لكن ذلك الحلم الوليد لم يكن ليتحقق يوماً أو يكتمل، حيث تجف المياه ويتوقف النهر عن الجريان، قاذفاً بأحلامنا الغضة إلى المجهول. فنشكل حلماً آخر عند حافة الطريق قرب «حاكورة» أم اسماعيل حيث نعبث بالوحل (الطين) أو يعبث بنا من دون أن نعرف سبب تلك الرغبة الدفينة في التشكيل أو العبث.. نبني بيوتاً صغيرة تشبهنا ونلعب لعبتنا المفضلة «عريس وعروس». في طريق العودة من المدرسة، أو في أيام الآحاد والعطل، كان المطر يجرف بسرعة ما نبنيه فنعيد الكرة.. غير مرة، وهكذا حتى آخر النهار، ثم نعود إلى بيوتنا مغسولين بالماء والوحل والبرد.

كنت أشهد عبر نافذتي ارتفاع مستوى المياه كلما انحدرت بنا الحافلة نحو «عين السفلى» في المدخل الشمالي للقرية، وأبحث عن خط سير النهر وسره، لأعرف إلى أين يمضي بزوارق طفولتنا الورقية وأين يرميها؟ كنت أبحث عنها عند أطراف كروم الزيتون والتين حيث تكثر النباتات وتتشابك الأغصان وترتفع أوراق الحميضة وأغصان «الشومر، والخبيزة» وتغطي المكان بسحرها الأخضر بينما يعلو صوت خرير مياه السواقي بأصدائه العذبة في الأرجاء وعلى امتداد الطريق الذي حفرته أقدام أهل القرية ومن يأتي إليها من القرى المجاورة.

كانت لحظات استيقاظنا المبكرة للذهاب إلى المدرسة تتداعى في مخيلتي على إيقاع صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي يتلو القرآن بطريقة تجذب الأسماع والقلوب ويطلقه أبي على مداه عبر مذياعه الذي لا يفارقه..

back to top