أحمد شوقي / حديث متجدد (3)

نشر في 12-09-2017
آخر تحديث 12-09-2017 | 00:00
 د. نجمة إدريس قد لا يختلف اثنان حين التأمل في سيرة شوقي، أن عوامل البيئة الجديدة في باريس ستكون – منطقياً واستنتاجاً – بالغة التأثير وواضحة البصمات في فكر شوقي ونتاجه. ونكاد نتصور أن الشاعر كان ينوء تحت وطأة رؤاه وتهاويمه، وربما طموحاته، في أن يلبي ذلك الشغف المتوهج في نفسه، أو بالأحرى في نفس الشخص الآخر، الذي انسلَّ خلسة من إهاب الرجل الكلاسيكي الرصين ذي السمت المحافظ واللغة التقليدية المهادنة. ولعل من أنصع شواهد هذا التململ والصراع بين الرجلين / الشاعرين اللذين يعيشان في شخصية شوقي، آنذاك، ما كتبه بنفسه في تقديمه للجزء الأول من "الشوقيات"، وفيه تصريح واعتراف بمعوقات ومثبطات انطلاقه نحو تحقيق ذاته الشاعرة والبحث عن ملامحه المميزة. وهو اعتراف يمكن قراءة الكثير من الخيبة والشجن بين سطوره، ومن ثم إدراك حجم الضغوطات المهولة التي كانت تمارس ضد شاعريته وتحقيقه لذاته.

إن اعتراف الشاعر بهذا الكم من المعوقات والسدود؛ تلميحاً أو تصريحاً في مقدمة "الشوقيات"، يشي بلا شك بتململ وقلق واضحين إزاء نزعتين من نزعات النفس: الأولى تتمثل في الرغبة بالتخلص من الشعور بالذنب والتقصير، فيسوق التبريرات والحجج، علّها تسوّغ عجزه وقلة حيلته. أما النزعة الثانية، فهي نزعة الرغبة في التمرّد والرفض للارتهان والتبعية، وإن كانت تتلامح متدثّرة بالتخفي والغموض.

وكما اصطلى أحمد شوقي بنار هذه المتناقضات على مستوى الطروحات الفنية في مقتبل حياته الإبداعية، نجده يعيش ذات التأرجح لاحقاً في مواقفه السياسية، سواءً فيما يخص موقفه المتذبذب بين الولاء للقصر أو الولاء للشعب، أو فيما يخص طبيعة العلاقة مع الإنكليز، في ظل حكومات الخديوي المتغيرة، والتي انتهت به إلى المنفى، ومن ثمَّ اضطراره بعد تجربة النفي إلى مواجهة واقع جديد، حين بدأت تأثيرات القصر والخديوي وضغوطاتهما تخفت وتتلاشى.

هذا الكم من الملابسات والظروف – بكل زخمها الحياتي ومستوياتها الثقافية – بقدر ما كانت تعزز بقاء أحمد شوقي في إطار الرصانة والتقليدية المحافظة المأثورتين عنه، كانت تساهم في الوقت ذاته بالتعتيم على "ذاتيته" و"أناه"، أو تهميشهما وإبقائهما في الظل. بل يمكن القول إنها ساهمت بشكل أفدح في استعداء النقاد له، وثلبه شاعريته، ووضعه في خانة شعراء الصنعة، لا شعراء الشخصية، كما فعل العقاد وغيره.

ولعل استسلام الشاعر للصورة النمطية التقليدية التي رُسمت له، و"استحسانه" لها، ومن ثم تكريسها، ساهم في إهمال النقد على وجه الخصوص للنماذج الشعرية الممثلة لذاتيته الذاهلة، المتفتقة بصدق البوح وحميميته، والمُعبِّرة عن الجانب الآخر في شخصيته.

وسنحاول فيما سيأتي من استطرادات هذا المبحث أن نقف عند أفضل النماذج تمثيلاً للمهمّش و"المسكوت عنه" في شخصية أحمد شوقي الأخرى، من خلال قراءة ما وراء السطور في أحد أعماله المتميزة، وهي مسرحية "مجنون ليلى".

تبدو قضية التعبير عن الحب إشكالية من إشكاليات شعر أحمد شوقي. وإيراد هذه القضية في سياق الحديث عن مسرحية "مجنون ليلى" أمر جوهري، حين محاولة التعرف على الموانع والمعوقات التي جعلت الشاعر في عموم شعره، يبدو متحفظاً أو ناظماً تقليدياً للنسيب والغزل، أو متردداً إزاء موضوع الحب والمرأة عموماً. ثم كيف استطاعت مسرحية "مجنون ليلى" أن تسدّ بعض الثغرات المقلقة في أدائه، فيما يخص هذا الموضوع، وتعيد لشعره شيئاً من التوازن العاطفي والفني، إن صح التعبير.

back to top