الفلسفة... والفوضى الخلاقة

نشر في 07-09-2017
آخر تحديث 07-09-2017 | 00:15
 خليل علي حيدر صدر قبل عامين كتاب مرجعي ضخم يقع في مجلدين في 2456 صفحة، قام بتأليفه مجموعة من الأكاديميين العرب، تحت إشراف الباحث العراقي د. علي عبود المحمداوي، وبمقدمة كتبها د. علي حرب.

سفر "الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج"، وهو عنوان هذه الموسوعة، يضم دراسات عن أكثر من خمسين اسماً من فلاسفة العصر الحديث المعروفين وبخاصة القرن العشرين مثل ويليام جيمس وأنطونيو غرامشي وإدموند هسرل وهنري برجسون ونقولا بردياييف وجون ديوي وجان بول سارتر وبرتراند راسل وآخرين.

في القرن العشرين، يقول الكاتب خالد غزال، "نعثر على مختلف أنواع التطور البشري في تقدمه وانحداره، فالحداثة وصلت إلى ذروتها وأوصلت الفلسفة إلى أعلى ذراها، وقدمت للبشرية كل ما تحتاجها من متطلبات التطور والخروج من التخلف، لكن فلسفة الحداثة نفسها لم تمنع تفجر العنف على أعلى المستويات، خصوصاً عبر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما شهدتا من تدمير وقتل، وصعود الأيديولوجيات الشمولية من خلال الفلسفات الشيوعية والنازية".

غير أن القرن نفسه احتضن في نصفه الثاني نقيض هذه الفلسفات.

"وفي مقابل فلسفات الدكتاتورية، صعدت فلسفة حقوق الإنسان والمواطن، فكان لها مفكروها ونتاجها الذي لا يزال حيا يتطور في كل مكان". (الحياة، 12/ 9/ 2013).

ما زلت شخصياً أنبهر كلما نظرت إلى الكون بما فيه من سحب وألوان وكواكب وشموس وأجسام منفلتة ومنضبطة وثقوب سوداء وتشكيلات لا يتصورها العقل، بعد أن أسقط "تلسكوب هابل" الحائط الرابع بيننا وبين الفضاء الخارجي والأكوان والمجرات، وأدخل هذه اللوحة الكونية المبهرة إلى صالاتنا وغرف نومنا عبر شاشة التلفاز.

"النظام"، يقول المفكر اللبناني د. علي حرب، "لم يعد هو الأصل والفطرة، إنما هو شيء يُصنع وسط الهباء الكوني الشامل. ثمة "مسلك فوضوي" يسلكه الكون دائماً، هو مصدر النظام ومنبع المعنى وملعب الحقيقة... إنها الفوضى الخلاقة التي هي بؤرة انبجاس المعنى، أو الجذوة التي يوقد منها الفكر".

هل ما جرى في الشرق الأوسط من "فوضى خلاقة" لها امتداد كوني في الواقع كما يرى د. علي حرب؟ وهل الفوضى مرحلة تسبق كل استقرار ونظام؟

هيمنت على المسلمين في مراحل عدة فكرة الاكتفاء الذاتي ثقافياً، وبخاصة عدم احتياجهم إلى الفلسفة، بقول د. محمد عبد الستار نصار أستاذ الفلسفة بكلية الشريعة بجامعة قطر في ورقة قرأها عام 1989:

"سألت نفسي كثيراً، كلما خطوت في دراسة الأنماط الفكرية الفلسفية: هل كانت البيئة الإسلامية ذات الصبغة الدينية في حاجة إلى فلسفة؟ والذي أوحى إلي بهذه التساؤلات أنه يبدو للناظر أن المشكلات الرئيسة التي استلهمت فكر الفلاسفة والتي لا يزالون فيها على رؤى متباينة، قد جاء الدين وحسمها، بحيث لم يبق لسائل أن يسأل بعد ذلك".

(أبحاث ندوة "نحو فلسفة إسلامية معاصرة"، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1994، ص253).

وغنيٌّ عن البيان أن الأديان كلها بحاجة ماسة إلى الفلسفة وما فيها من أدوات تحليل ومقارنة ومنطق، إذ لا يخلو نص ديني من غموض أو حاجة إلى مقارنة وتوفيق بين مدلولات النصوص.

وقد رأينا المسلمين أنفسهم يثيرون أسئلة فلسفية كبرى ويتجادلون في الجبر والاختيار والخير والشر وغير ذلك!

يقول الكاتب اللبناني كرم الحلو في مقال فلسفي في صحيفة الحياة، بعنون "مهام الفكر الفلسفي في الراهن العربي":

"لم يكن الفكر الفلسفي غائبا عن مفكرينا النهضويين، فقد خاض هؤلاء في أسئلة الوطنية والقومية والحرية والمجتمع والدولة وقدموا إجابات فلسفية أو ذات منحى فلسفي".

ماذا عن الواقع الراهن؟

ثمة أسئلة ملحة، يقول الكاتب، عما إذا كانت الفلسفة قادرة على تفسير انتكاستنا الحضارية والثقافية والنكوص الراهن في العالم العربي "في موازاة تقدم اللاعقلانية والخرافة والاحتكام إلى الماضوية في كل الشؤون السياسية والاجتماعية، فلماذا لم تتقدم الاتجاهات العقلانية في فكرنا الحديث والمعاصر؟ ولماذا لم تتجذر في تفكيرنا وفي سلوكنا اليومي؟ ولماذا خفتت إبداعاتنا العقلية بعد ثمانية قرون على العقلانية الرشدية؟ والفكر الفلسفي معنيٌّ الآن بالإجابة عن إشكال الهوية الذي يهدد بتمزق الأمة العربية عصبويات متقاتلة".

(الحياة، 25/ 9/ 2013).

نحن بحاجة إلى أن يمتد مشرط الفلسفة إلى الكثير من الشعارات السائدة وإلى أطروحات جماعات التشدد الديني وإلى قضايانا الاجتماعية والفكرية وعلل التخلف والنكوص الحضاري!

الثقافة العربية لم تبلور مدرسة فكرية تنموية قادرة على البقاء والاستمرار، والإجابة عن أسئلة العصر الملحة المتوالية، وكان من شأن هذه الفراغ تضخم الجماعات الدينية والإسلام السياسي، حيث ابتلع هذا التيار بدوره أكثر بكثير مما يستطيع هضمه!

الأكاديميون العرب لجؤوا إلى الاهتمام بعض الشيء بتاريخ الفلسفة، بعد أن تأخروا في الإبداع الفكري والفلسفي.

يقول د. مصطفى النشار، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة متسائلا: لماذا غاب التأريخ العربي للفلسفة؟ رغم مرور حوالي مئتي عام كاملة على بدء النهضة العربية الحديثة؟ لقد جرت محاولات ولكنها لا تكفي، والحقيقة، يضيف د. النشار، أن هذه المحاولات لم تتعد الثلاث: "محاولة أحمد أمين وزكي نجيب محمود في كتابهما قصة الفلسفة اليونانية، وقصة الفلسفة الحديثة، ومحاولة يوسف كرم في كتبه الثلاثة تاريخ الفلسفة اليونانية، وتاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وتاريخ الفلسفة الحديثة، وأخيراً محاولة محمد علي أبو ريان في كتابه تاريخ الفكر الفلسفي بأجزائه الأربعة، الجزء الأول: من طاليس إلى أفلاطون، الجزء الثاني: أرسطو والمدارس المتأخرة، الجزء الثالث: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، والجزء الرابع: تاريخ الفكر الفلسفي: الفلسفة الحديثة".

وينتقد د. النشار هذه الأعمال من جوانب عدة... منها:

1- أنها انطلقت في الأغلب الأعم من وجهات نظر غربية بحتة حول مفهوم الفلسفة، وأنها معجزة غربية لا ناقة للعرب فيها ولا جمل.

2- أنها كانت محاولات فردية، ولذلك لم تكتمل أي منها بشكل مُرض رغم أن الهدف كان نبيلاً.

3- أنها أهملت التاريخ للفلسفة في الشرق القديم، رغم اعتراف فلاسفة اليونان أنفسهم بتأثير الشرق فيهم، ورغم زيارة فلاسفة اليونان لبلدان الشرق القديم، وبخاصة مصر وفارس والهند وبابل.

4- أهملت هذه المحاولات أيضاً التأريخ للفلسفة الإسلامية ضمن السياق العام للتاريخ الفلسفي في العالم.

5- غابت عن تلك المحاولات الموضوعية، وسادتها نزعة انتقائية، كما عزلت الفلسفة الإسلامية عن الفلسفة الغربية المسيحية، في ما عرف عموماً بفلسفة العصور الوسطى.

6- أهمل مؤرخو الفلسفة العرب في محاولاتهم تلك النظر في الفكر العربي المعاصر، ولم يعتبروه مطلقاً ضمن التاريخ العام للفلسفة، ربما لأنهم لم يعتبروه بشكل عام فكراً فلسفياً.

(الفلسفة في الوطن العربي في مئة عام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص70-72).

هل تفاعل سفر "الفلسفة الغربية المعاصرة" الذي صدر عام 2013، مع هذه الملاحظات؟ هذا ما سنراه في مقال قادم.

back to top