أسرار العقلية الروسية التي برع بوتين في استغلالها

نشر في 30-08-2017
آخر تحديث 30-08-2017 | 00:03
«في الفترة الأخيرة وجدتُ كتاباً في المنزل لم أفكر به منذ مدة طويلة بعنوان Russia: Faces of a Torn Country (روسيا: وجوه بلد ممزق). قد لا يكون العنوان مميزاً بشكل خاص لكنه مناسب جداً. يتناول الكتاب وضع روسيا منذ ربع قرن: كان البلد حينئذ أشبه بمستشفى للمجانين! كان الاتحاد السوفياتي انهار للتو، واتّضح أن الآمال بإطلاق بداية جديدة كانت وهمية، واستولى الموظفون ورجال الأعمال الماكرون على إرث الاتحاد السوفياتي وراحوا ينعمون بثرواتهم المفاجئة في حين غرقت بقية شرائح البلد في الفقر.
كانت الجدّات يقفن وسط الريح والمطر طوال ساعات في أسواق السلع المستهلكة ويحاولن بيع الأواني الخزفية التي تعود إلى أيام زفافهن إلى جانب طلاب يسوّقون الطوابع البريدية التي جمعوها بكل حب. في الوقت نفسه، احتدمت الحرب على حدود البلاد».
الكلام لمراسل صحيفة «دير شبيغل» كريستيان نيف الذي أمضى ثلاثة عقود وهو ينقل أخبار روسيا. عشية رحيله من موسكو، يتكلّم نيف عن العقلية الروسية الاستثنائية التي لم يُنشئها بوتين لكنه يبرع في استغلالها.
في عام 1991، لم يتمكّن الروس العاديون من شرح ما ترمز إليه روسيا، أو تحديد وجهتها السياسية، أو التوصّل إلى حل للصراعات القائمة فيها. لم نتمكّن نحن الصحافيون من القيام بذلك أيضاً.

أصبحت تلك الحوادث كلها جزءاً من الماضي، وبعد مراعاة الاعتبارات يمكن القول إن وضع روسيا ليس سيئاً جداً في هذه الأيام. كنتُ أنا مؤلّف ذلك الكتاب الذي يشمل مواصفات 18 شخصاً يحاولون إيجاد مكانهم في روسيا. كانوا أشخاصاً نموذجيين خلال المرحلة الانتقالية: سياسيون وجنرالات، ورجال أعمال، وفنانون، أشخاص مثاليون وشعبويون ومجرمون.

مات جزء منهم: قُتل عدد منهم وغادر آخرون البلد أو تولوا مناصب في السلطة. عند تحليل مواصفاتهم بناءً على الوضع الراهن، لا يصعب أن نفهم ما جعل البعض يفشل والبعض الآخر ينجح في مسيرته المهنية. يمكن أن نلاحظ أيضاً كيف نجحت روسيا في استرجاع مكانتها.

دجوخار دوداييف أحد أبطال الكتاب، وهو من أعلن استقلال الشيشان عن روسيا في عام 1991، ودعا شعب القوقاز إلى مقاومة المستعمرين الروس. شنّت روسيا الحرب بسببه ونشرت 60 ألف جندي في الجمهورية الصغيرة. بعد ثلاثة أشهر على كلامي مع رئيس الشيشان، سُحِق مكتبه الذي تقابلنا فيه. وبعد 15 شهراً على تلك الحادثة، قتله صاروخ روسي. وبعد مرور 15 سنة، ساد السلام في الشيشان. يُقال إن 160 ألف شخص قُتلوا خلال الحرب. منذ ذلك الحين، لم تحاول أية منطقة أن تنفصل عن روسيا.

كان خبير الكيمياء الحيوية واختصاصي الجلد سيرغي ديبوف من أبطال القصة لكنه مات أيضاً. انضم إلى وحدة «ضريح لينين» السرية في عام 1952، وهي تشمل مجموعة العلماء الذين حنّطوا القائد الثوري الذي يرقد في موسكو منذ وفاته في عام 1924. طوال 40 سنة تقريباً، كان ديبوف الذي حنّط ستالين أيضاً يُنعش جثة لينين بمحلول سري مرتين أسبوعياً.

ثم انهار الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي، وألغى الرئيس بوريس يلتسين تمويل الوحدة السرية وأزال الحرس الفخري من أمام الضريح. هكذا أصبح لينين شخصية وطنية منبوذة وبدأت مبادرات المواطنين تدعو إلى دفنه في مقبرة في «سانت بطرسبورغ». أخبرني ديبوف أنه شعر بالصدمة: «كان حذف لينين من تاريخ روسيا أمراً غير مقبول بأي شكل».

لا ندم في التاريخ الروسي؟

لما كان القائد الثوري لا يزال معروضاً في «الميدان الأحمر» بعد مرور 25 عاماً ولا يزال خلفاء ديبوف نشيطين حتى الآن، فيمكن فهم ما جعل روسيا تستعيد استقرارها. مثل ستالين، لم يكن قائد «ثورة أكتوبر» يهتمّ بأعداد الضحايا الذين سقطوا في سبيل الفكرة الشيوعية ولا يزال يُعتبر رمزاً سياسياً مهماً. يسمح حضوره المستمر بتهدئة مؤيدي الشيوعية لكنه يؤكد لقادة الكرملين أيضاً بأن شيئاً في التاريخ الروسي لا يدعو إلى الندم. تعكس هذه القناعة نظرة الناس إلى التاريخ في روسيا خلال عهد بوتين.

لا يزال الشخص الثالث في الكتاب حياً ويبلغ اليوم 53 عاماً. وُلِد في تاريخ ميلاد ستالين ثم أصبح نائب رئيس الحكومة ويرأس اليوم قطاع الدفاع الروسي. قابلتُ ديمتري روغوزين حين كان يبلغ 31 عاماً. قبل فترة قصيرة على ذلك اللقاء، كان ناشطاً في الجناح الشاب للحزب الشيوعي «كومسومول». ثم أصبح سفيراً لحلف الأطلسي وصدم الجيش الغربي بتصريحاته القوية. كنا نتقابل في بروكسل غالباً.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبح روغوزين مسؤولاً عن مصير 25 مليون روسي من أبناء المجموعات الإثنية الذين يعيشون الآن خارج حدود البلد، في الجمهوريات السوفياتية السابقة. أسس روغوزين «مؤتمر الجماعات الروسية» لحماية مصالحهم وأصبح رئيس مفهوم «العالم الروسي» الذي يشمل زوايا العالم التي يعيش فيها الروس ولا بد من الدفاع عنهم، بحسب بوتين. أصبح روغوزين اليوم أشبه بناطق قومي باسم الحكومة ووصف السياسيين الغربيين أخيراً بـ«حثالة».

أسهم استرجاع الشيشان وإعادة تأهيل التاريخ السوفياتي وابتكار مفهوم «العالم الروسي»، بما يشبه ما يفعله ترامب راهناً في الولايات المتحدة تحت شعار «أميركا أولاً»، في إنقاذ روسيا في بداياتها، إذ توجهت مشاعر الامتنان الروسية نحو بوتين وانعكست بنيل الرئيس نسبة تأييد بلغت 80%.

روسيا الجديدة

اتّضحت مظاهر «روسيا الجديدة» في أماكن كثيرة. منذ بضعة أسابيع، سافرتُ إلى البلدة الروسية الغربية الصغيرة «غفارديسك» التي تقتصر على 13 ألف نسمة. كنت زرتُها آخر مرة في عام 1998، بعد أزمة الروبل الكبرى التي جعلت الحكومة توشك على الإفلاس. أغلق معمل الورق أبوابه بعد تلك الأزمة ثم حذا حذوه مصنع الخرسانة المسلحة ومصنع الأجبان. كذلك افتقرت محطات التدفئة للفحم وعاش معظم السكان تحت خط الفقر.

حتى أنّ الجو كان بارداً في المستشفى الذي كان يفتقر إلى الأدوية والقفازات الطبية. كانت ثكنات الجيش والسجون الواقعة في القلعة القديمة تفتقر إلى الطعام أيضاً. وفي البلدات المحيطة بـ«غفارديسك»، أدت قلة الغذاء وماء الشرب القذرة إلى حالات من السل والتهاب السحايا.

اليوم، في عام 2017، تبدو المنازل الواقعة في الميدان المركزي مطليّة حديثاً وفتحت مصانع للأثات وتصنيع اللحوم ومواد التغليف أبوابها. نشأ أيضاً مركز للشباب ونادٍ رياضي ومن المنتظر أن تتحوّل القلعة أو السجن السابق إلى موقع سياحي.

عند التوجه شرقاً يظهر واقع مختلف، إذ توحي البلدات كلها بأنها تُحتضر. لكن لا شيء يشير إلى حالة الطوارئ الوطنية التي شلّت روسيا منذ عقدين، لا سيما في موسكو التي حوّلت نفسها إلى مدينة معاصرة فيها مناطق مخصصة للمشاة ومتاجر عملاقة ونوادٍ لموسيقى الجاز ومسارح استثنائية، حتى أن خدمة الإنترنت اللاسلكية متاحة في الشوارع وفي محطات المترو تحت الأرض.

تقاسم الآراء

لكن ثمة ظاهرة لم تتغير في العاصمة أو في بقية أجزاء البلد. لاحظتُها حديثاً حين كنت أقرأ إشعاراً في المبنى السكني الذي أقيم فيه في موسكو ويرمز إلى الجزء الاستثنائي من روسيا طوال قرون ويفسر تأييد معظم الناس لبوتين.

كان ذلك الإشعار يتعلق بخطة بلدية موسكو هدم 4500 مبنى سكني قديم. كانت تلك المباني في معظمها عبارة عن تصاميم بشعة ومسبقة الصنع ومتداعية تتألف من خمسة طوابق. لكن سيتأثر مليون شخص من سكان موسكو بتلك الخطة وبدأت البلدية تنفذها بوحشية لدرجة أنها أقرّت القانون المتعلق بذلك القرار في البرلمان بسرعة البرق وأطلقت موجة من الغضب العارم حتى في الحي الذي أقيم فيه مع أنه لا يشمل أياً من المباني المهددة بالهدم.

اشتقّ الإشعار الذي وصل إلى شقتي من مبادرة «سكان موسكو ضد الهدم». يعتبر هؤلاء أن الخطة شكل مشين من إعادة التوطين القسري وأنها لا تقتصر على المباني العالية ومسبقة الصنع بل تتعلق فعلياً بتأمين عقارات لشركات بناء على علاقة وثيقة بالحكومة لتشييد ناطحات سحاب مربحة. يذكر الإشعار أن أماكن إقامة السكان الذين رفضوا الرحيل ستتغير قسراً ولن يحصل المستأجرون على تعويضات مقابل الإصلاحات التي قاموا بها. وتعتبر المجموعة المعارِضة أن كثيرين من الأشخاص الذين كانوا يملكون شققهم لن يحصلوا على منزل جديد بالقيمة نفسها.

يبدو الاستياء السائد في موسكو هائلاً. بدا وكأن الحكومة التي أعلنت أنها تريد أن تفيد سكان المدينة فوجئت بهذا الرفض. حتى بوتين اضطر إلى التدخل وحثّ البرلمان الروسي على تعديل القانون لأن الانتخابات الرئاسية ستحصل في عام 2018، ولا يريد الرئيس أن يطلق المواطنون الغاضبون الاحتجاجات في هذه الفترة.

إنها قصة شائعة في روسيا. حتى لو حاولت القيادة أن تطلق خطة تفيد الشعب، لا مفر من أن يسوء الوضع لأن الحكومة تتخذ القرارات وحدها ثم تطرحها إزاء الشعب من دون أخذ رأيه وتحاول تنفيذ مشاريعها على الطريقة البلشفية، ومن الواضح أن السياسيين الروس لا يأخذون اعتراضات الناس بالاعتبار.

يثبت الجدل القائم حول تغيير أماكن إقامة السكان مجدداً غياب مبدأ تقاسم الآراء في النظام السياسي الروسي. لا تبذل الحكومة جهوداً جدّية لإشراك الشعب في قراراتها. بل تُطرَح القرارات السياسية وكأنها خدمات أو شروط ملزِمة، ما يفسر موجة الاحتجاجات الجديدة في موسكو ومدن أخرى. نادراً ما يتلاقى الشعب وحكومته في روسيا.

حب غير متبادل

قال الكاتب فيكتور إيروفييف يوماً إن روسيا بلد الحواجز لكنّ تلك «الحواجز تبقى مغلقة». تساءل أيضاً: «يسمح لنا الوطن بأن نحبه بكل سعادة لكن هل يبادلنا ذلك الحب؟ هل تحبنا روسيا؟». يعتبر إيروفييف أن حب الروس لروسيا ليس متبادلاً ولاحظتُ هذا الواقع بشكل متكرر في العقود الأخيرة. لكنه يظن أن الروس مُلامون أيضاً لأنهم لا يهتمون بدولتهم بدرجة كافية.

منذ بضعة أشهر، تجادلتُ حول هذا الموضوع مع المخرج السينمائي والمسرحي المرموق أندريه كونشالوفسكي. سيبلغ 80 عاماً هذه السنة وأخرج عدداً من أفضل الأفلام الروسية وعاش في هوليوود فترة طويلة. رغم اختلافاتنا، كانت آراؤنا متقاربة حول مسائل متعددة. يقول كونشالوفسكي إن الروس احتفظوا بروح الفلاحين طوال قرون ولم يصبحوا مواطنين بالمعنى الحقيقي للكلمة ولطالما وضعوا أنفسهم في مواجهة الدولة لأن الحكومة تحاول دوماً أن تحرمهم مما يحبونه. لكنه يعتبر في الوقت نفسه أن الروس صبورون لدرجة أنهم يستطيعون أن يتحمّلوا الظلم بسهولة. بحسب رأيه، يحمل التفكير الروسي طابعاً مانوياً، ما يعني أن الروس لا يعرفون الاعتدال بل يقاربون الوضع بنظرة تفاؤلية أو تشاؤمية.

ثم قال كونشالوفسكي إن بوتين فكّر في البداية بطريقة غربية لكنه أدرك في النهاية ما يجعل كل حاكم روسي يفشل في قيادة هذا البلد: تماشياً مع التقاليد الراسخة، يعطي السكان كامل سلطتهم لشخص واحد، ثم ينتظرون منه أن يعتني بهم من دون أن يحركوا ساكناً.

نتيجةً لذلك، ترتكز العلاقة القائمة بين الشعب وبين الدولة في روسيا على سوء تفاهم كبير. هل يستطيع شخص غريب أن يطرح هذا الاستنتاج؟ هذا أمر ممكن! أنقل أخبار روسيا منذ أكثر من 30 سنة وعشتُ في هذا البلد طوال 15 سنة. أصبح السبب الذي جعل الليبراليين المرتبطين ببوريس يلتسين يفشلون خلال التسعينيات واضحاً في نظري. لا يمكن أن تنجح الليبرالية في روسيا. لن يسمح الشعب بذلك.

تتضح العلاقة الغريبة بين الروس وحكومتهم في تفاصيل يومية كثيرة. منذ سنتين أو ثلاث سنوات، حاول رئيس بلدية موسكو أن يحلّ مشكلة ركن السيارات عبر استعمال نظام ركن إلكتروني. كانت الرسوم منخفضة وكلّفت الساعة الواحدة أقل من يورو. خفّت حدة المشكلة بدرجة ملحوظة وأفاد النظام جميع الناس. لكن ماذا حصل بعدها؟ بدأ سكان موسكو يغطّون أرقام لوحات السيارات كي لا تتمكن مركبات التفتيش من مسح الأرقام أثناء قيادتها، ما جعل رصد المخالفين مستحيلاً.

ثمة مثال آخر على الوضع القائم: طوال عقود بقي عدد الشوارع الجديدة والطرقات السريعة التي بُنيت في روسيا صغيراً. لكن يجري العمل الآن على وضع خطط لبناء طريق سريع جديد بين موسكو و«سانت بطرسبورغ». سبق وفُتحت أول طريق مؤدية إلى مطار «شيريميتيفو» الدولي في موسكو. لكن لم يعتد السكان عليها بعد رغم تراجع كلفة استعمالها. يظن السائقون في روسيا أن حكومتهم تسرقهم ويفضلون تحمّل ازدحام السير على الطريق القديم.

جمود ولامبالاة

نادراً ما يقتنع الناس في روسيا بضرورة أن يخدم المواطنون المجتمع كي يحصلوا على شيء في المقابل. ربما يكرّم الروس ممثليهم وشعراءهم أكثر مما يفعل الألمان، لكنهم يشككون في الأشخاص المبدعين الذين يحاولون بطريقتهم الخاصة أن يطوروا النقاش حول وجهة البلد المستقبلية.

يبيع الكاتب بوريس أكونين ملايين الكتب لكنه يعيش خارج البلد لأنه لا يتحمل سياسة حكومته. ينطبق الوضع نفسه على الكاتب فلاديمير سوروكين الذي تعرّض للمضايقة من منظمات سياسية قريبة من الحكومة خلال فترة طويلة. كذلك تعرّض المخرج المعروف عالمياً كيريل سيربرينيكوف للضغوط واقتحمت وحدات الشرطة مسرحه حديثاً وأُلغي عرض الباليه الخاص به «نورييف» في مسرح «بولشوي» قبل ثلاثة أيام من عرضه الأول بعدما واجه معارضة شديدة من السياسيين المحافظين. أثّر بي قرار الإلغاء أيضاً لأنني نجحتُ في نيل بطاقة نادرة لحضور العرض في تلك الأمسية.

لا تزعج هذه الممارسة إلا عدداً صغيراً من الروس. باستثناء اعتراض بعض أعضاء النخبة المثقفة في موسكو، لم تحصل أية احتجاجات. قال الكاتب فيكتور يروفييف بنبرة ساخرة: «نحب من يشبهنا ولا نحتاج إلى من يختلف عنا». بحسب رأيه، يبقى المدعي العام الذي يرعب معظم الشعب أقرب إلى الناس من حاكم إصلاحي مثل ميخائيل خودوركوفسكي الذي انتقد نظام بوتين بكل وضوح.

تساءلتُ عن السبب حين وجدتُ نفسي في مركز للشرطة في وسط «سانت بطرسبورغ». يتّضح في هذا المكان كيف تسعى الدولة إلى جعل مواطنيها يشعرون بعدم أهميتهم. حتى أن المسؤول هناك لم يأخذ عناء النظر إلى الأشخاص الذين جاؤوا إليه ليقدموا شكواهم وكانت الأبواب الحديدية الثقيلة تمنع دخولهم إلى المكاتب. كانت الأبواب تُفتَح من وقت إلى آخر لأسباب مجهولة وكانت السجلات تُكتَب باليد في المكاتب. لكن زُيّنت الجدران بصور فيليكس دزرزينسكي! كان هذا الرجل أول مسؤول استخباري في الاتحاد السوفياتي وكان هو من أطلق موجة «الرعب الأحمر» وتسبّب بمقتل آلاف الناس. كان تمثاله أمام مبنى «لوبيانكا» في موسكو أول تمثال يسقط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومع ذلك تُعلّق الشرطة الآن صورته مجدداً؟

لماذا يقبل الروس بهذا الوضع من دون التفوه بكلمة؟

يمتزج جمود الشعب ولامبالاته بطريقة سلبية مع الميل إلى تقبّل المصير والخوف من تحمّل المسؤولية، ما يجعل فهم الحقائق التاريخية مستحيلاً بالنسبة إلى معظم الناس. لا يبالي كثيرون بقرار بناء نصب جديد لستالين، واعتبر صحافي في موسكو أن هذه الخطوة توازي إقدام اليهود على إنشاء نصب لهتلر.

لا يزال إقدام الدولة على استعمال القوة يُعتبر جزءاً من مصير الشعب الطبيعي. يظن الفيلسوف الاجتماعي ألكسندر زيبكو أن معظم السكان لا يفهم حتى الآن أن ملايين الناس ماتوا في الاتحاد السوفياتي بسبب مرحلة «الرعب الأحمر».

بعد سنوات من البحوث، اكتشف دينيس كاراغودين، رجل عمره 35 عاماً من مدينة «تومسك» السيبيرية، هوية المسؤولين السريين الذين أعلنوا والد جده ستيبان جاسوساً يابانياً في عام 1938 ثم أعدموه. بناءً على تلك المعلومة، رفع دعوى ضد هؤلاء المسؤولين مع أنهم ماتوا منذ فترة طويلة. إنه أول مواطن روسي يبدي استياءه من الإشعار الرسمي الذي أصدرته السلطات بشأن إعادة التأهيل. يريد الأخير أن يُحاسَب المذنبون رمزياً على الأقل. لكن قوبل إصراره بالتهميش وسوء الفهم على اعتبار أنه لا يستطيع تغيير ما حصل مهما فعل.

غوغائية وحقائق منقوصة

لم يكن بوتين مسؤولاً عن نشوء المظاهر التي كَتبتُ عنها، بل اكتشف الأخير الوضع القائم بكل بساطة واستعمله لمصلحته. خوف من تحمّل مسؤولية شخصية؟ تهميش أصحاب الآراء المختلفة؟ الاستسلام للقدر؟ الشعور بالنقص تجاه بقية دول العالم؟ يجب أن تتحرك الدولة لمعالجة هذه المظاهر كلها! لكن تعمل الحكومة على ترسيخها لأنها تستفيد منها. لم أدرك إلا في السنوات الأخيرة كم يزعجني هذا الوضع، حتى وسط أصدقائي الروس الذين يخضعون الآن في معظمهم لغوغائية رئيسهم.

يؤجج بوتين مشاعر الازدراء التي يحملها الروس تجاه الأوكرانيين مع أن الروس يغارون من الأوكرانيين لأنهم سينجحون قريباً في التقرب من أوروبا. كذلك يعزز شعور الروس بتفوقهم الأخلاقي والعسكري على الغرب. لا تعكس هذه الأفكار الواقع لكنها تعزل الدولة والشعب عن العالم الخارجي بدرجة متزايدة. يعمل بوتين على فصل روسيا عن النظام العالمي ويؤيد الشعب هذا الموقف بكل حماسة باعتباره إنجازاً مع أن أوروبا والولايات المتحدة تبقيان مرجعاً أساسياً في حياة عدد كبير من الروس.

كما سبق وقلت، لم يخترع بوتين أياً من هذه المظاهر. لكنه أجاد استغلالها ببراعة وعمل على تغذية هذه العقلية الروسية عن طريق الغوغائية والحقائق المنقوصة والأكاذيب. إنه أهم استنتاج توصّلتُ إليه بعد 25 سنة على ولادة روسيا الجديدة.

السياسيون الروس لا يأخذون اعتراضات الناس بالاعتبار

إقدام الدولة على استعمال القوة جزء من مصير الشعب الطبيعي
back to top