ما قــل ودل: الوحدة العربية وثقافة رفض الآخر

نشر في 20-08-2017
آخر تحديث 20-08-2017 | 00:09
توحدت أوروبا رغم اختلاف الأديان والقوميات واللغة، وما شاهدته من خلال رحلتي إلى خمس دول أوروبية من التسامح وقبول الآخر خير دليل على الثقافة الأعم التي يدين بها السواد الأعظم من هذه الشعوب، والتي كانت سبب تقدمهم ونهضتهم بعد الحرب العالمية الثانية.
 المستشار شفيق إمام الإسلام وثقافة رفض الآخر

ترجع ثقافة رفض الآخر في مجتمعاتنا العربية، وتمتد جذورها إلى ثقافة القبيلة، حيث كانت القبائل يغير بعضها على بعض، لاستلاب الغنائم واستعراض القوة والسيادة، حتى قيل في الشعر الجاهلي، إنهم كانوا يُغيرون على الجميع...

"وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نَجِد إلا أخانا"

وجاء الإسلام رحمة وهدى للإنسانية كلها ليوحد شعوب هذه الأمة، على أساس من حرية العقيدة في قوله تعالى "لا إكراه في الدين"، وليحقق المساواة بين الأمم والشعوب في قول الرسول، صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط" و"لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، فتقوى الله هي الأساس سواء في علاقات الأمم والشعوب بعضها ببعض أو في علاقة الأفراد بعضهم ببعض.

وهو ما دعا الإمام الراحل محمد عبده، بعد عودته من سفره إلى الخارج، إلى القول "رأيت هناك إسلاما بغير مسلمين، ورأيت هنا مسلمين بغير إسلام".

الوحدة الأوروبية والوحدة العربية

فتوحدت أوروبا كلها في إطار من حرية العقيدة التي كان الإسلام أول من نادى بها، وفي إطار من حقوق الإنسان التي أعلنتها المواثيق الدولية بعد الحرب العالمية الثانية التي اكتوت أوروبا بنارها.

نعم توحدت أوروبا رغم اختلاف الأديان والقوميات واللغة، وما شاهدته من خلال رحلتي إلى خمس دول أوروبية، كانت ألمانيا والنمسا منها، ومن أوروبا الشرقية التشيك وسلوفاكيا والمجر، حيث التسامح وقبول الآخر هما الثقافة الأعم التي يدين بها السواد الأعظم من هذه الشعوب، والتي كانت سبب تقدمهم ونهضتهم بعد الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح أكثر من خمسين مليون أوروبي ودمرت أوروبا وبنيتها التحتية.

وعدنا نحن إلى جاهلية جديدة تفرق بين الأديان والمذاهب والأعراق، ليذبح الأخ أخاه تحت راية الإسلام والدعوة إلى خلافة جديدة، تلبس عباءة الإسلام وهو منها بريء.

الوحدة العربية

وقد كانت الوحدة العربية والقومية العربية هما أمل هذه الأمة ونبضات قلبها، بعد تحررها من الاحتلال الذي كان جاثما على صدرها، ينهب ثرواتها ويفرق بينها، بل بين أبناء الشعب الواحد، وفقا للمقولة المعروفة "فرق تسد".

فانطلقت من نبض قلب هذا الأمة دعوة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الوحدة العربية والقومية العربية، فالتهب حماس الجماهير العربية لهما وانطلقت الأغاني والأهازيج والأناشيد تدعو المارد العربي إلى النهوض من كبوته.

وحدة مصر وسورية

وكانت أول تجربة لهذه الوحدة في عالمنا المعاصر هي وحدة مصر وسورية، التي أعلنت في فبراير 1958، عندما ذهبت أدراج الرياح إثر انقلاب عسكري في سورية أطاح بها في سبتمبر 1961 وجعل رمادها يغلي في الوجدان العربي.

وكان أول أسباب فشل هذه الوحدة العاطفة التي كانت أسبق من العقل في تحقيقها، فلم تكن قائمة على دراسة قامت بها لجان تشكل من سياسيين ومفكرين وعلماء في كل التخصصات الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية من كلا البلدين، ولتحديد عوامل النجاح في تحقيقها، وبما يمكن أن يكون من أسباب انقسامها والتوقيت المناسب لتحقيقها كاملة، والتدرج في التطبيق إلى أن تصبح الدولة الموحدة حقيقة تعرض نفسها.

اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية

وكانت القيادة العربية في سورية برئاسة الرئيس الراحل شكري القوتلي هي التي سعت إلى هذه الوحدة لتسلم رئاسة الدولة الموحدة إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وليكتفي الرئيس السوري بلقب المواطن العربي الأول، إيذانا بدولة موحدة تعلو فيها المصلحة العليا للبلدين على الأنا ورفض الآخر، فقد كانت الحياة السياسية في سورية تغلي بصراعات الأحزاب السياسية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوري، فكانت الوحدة العربية مع مصر، هي خريطة الطريق التي ارتضتها الأحزاب السورية للخلاص من الخطر الشيوعي الذي كان يتهدد سورية في هذا الوقت نتيجة قوة الحزب الشيوعي الذي كان يترأسه خالد بكداش، في الوقت الذي لم تكن فيه الظروف السياسية مهيأة في كلا البلدين لقبول الآخر، بل لرفضه، إلا أن الحقيقة غابت عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما حملته الجماهير العربية بسيارته في سورية على أكتافها، فقد كان مشهدا رائعا، لم يكن له سابقة في التاريخ كله، فاعتقد أن شرعيته وشرعية الوحدة العربية يستمدها من هذه الجماهير وحدها، وغاب عنه الجيش السوري، ولعبة الانقلابات التي تمرس عليها، منذ انقلاب حسني الزعيم في عام 1950، والقوى السياسية التي كانت تتصارع على الحكم في سورية.

في الوقت الذي كانت الحياة السياسية في مصر قد تحولت إلى بركة راكدة من المياه لا حياة فيها، بعد ثورة 23 يوليو التي ألغت الأحزاب السياسية والحياة النيابية لتحقيق الهدف الذي أعلنته "إقامة حياة ديمقراطية" سليمة، فتنكبت هدفها تحت راية الحزب الواحد "هيئة التحرير" ثم "الاتحاد القومي العربي".

ولأن خريطة الطريق كانت قد استنفدت أغراضها بزوال الخطر الشيوعي عن سورية، ولأن الاشتراكية التي بدأ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يخطو أولى الخطوات في تطبيقها بتأميم الشركات والمصانع، وهو ما لم يكن يتفق والمزاج السوري، والتجارة مصدر رئيس للدخل، ولأن الطريقة التي كانت تدار بها شؤون الحكم في مصر لم تكن لترضي القوى السياسية، خصوصا حزب البعث السوري وأنصاره في الجيش، فإن هذه الأسباب جعلت الجيش يقوم بانقلابه العسكري الذي أطاح بالتجربة الأولى للوحدة العربية.

ولكن هذه الوحدة العربية ظلت أملا يراود الشعوب العربية ورمادها نار تغلي في الوجدان العربي إلى أن غيبت نكسة 1967 الزعيم الراحل الرئيس جمال عبدالناصر قبل أن يغيبه الموت عام 1970، الأمر الذي أدى إلى انحسار الفكر الوجودي والقومي العربي، وغياب الفكر الناصري حتى في مصر ذاتها.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

أول أسباب فشل الوحدة بين مصر وسورية العاطفة التي سبقت العقل في تحقيقها
back to top