السفر يحسّن قدرتكم على الكتابة!

نشر في 20-08-2017
آخر تحديث 20-08-2017 | 00:09
No Image Caption
تذكّرتُ حديثاً إحدى أفضل الكتابات التي صادفتُها هذه السنة: كانت المقالة بعنوانThe Eureka Hunt (البحث عن أوريكا)، كتبها جوناه ليهرير في صحيفة «نيويوركر» عام 2008. تتمحور المقالة في جوهرها حول عملية البصيرة، أي السبب الكامن وراءها والعوامل التي تعوقها، وما يمكن فعله لتحسين بيئتنا وتطوير بصيرتنا إلى أقصى حد.
يوضح جوناه ليهرير: «البصيرة لمحة عابرة عن المخزون الدماغي الضخم للمعارف المجهولة». يمكن اعتبارها أشبه بلحظة استنارة فكرية، أي المرحلة التي تندمج فيها الأفكار وتصبح منطقية من دون وجود محرّك واضح لها.

تنشأ البصيرة بشكل غير متوقع لكنها تفرض نفسها بكل ثقة. وحين تتمتع بها، ستعرف أن الفكرة التي تراودك صحيحة حتى لو كنت تجهل السبب. في مقالته «البحث عن أوريكا» يحلِّل ليهرير البيئة التي تستطيع أن تُطوّر البصيرة. يبدو هذا المقطع المقتبس من كلام عالِم الأعصاب المعرفي مارك جونغ بيمان مفيداً بشكل خاص: «البصيرة، كما وصفها جونغ بيمان وكونيوس، عبارة عن عملية دقيقة من التوازن العقلي. في البداية، يشغّل الدماغ مصدراً نادراً من الانتباه للتركيز على مشكلة واحدة. لكن حين يصبح تركيزه كافياً، ستحتاج القشرة الدماغية إلى الاسترخاء كي تبحث عن أبعد رابط مفيد في نصف الدماغ الأيمن الذي يكون مسؤولاً عن تطوير البصيرة». قال جونغ بيمان: «تكون مرحلة الاسترخاء محورية. لهذا السبب تنشأ لحظات البصيرة في حالات كثيرة أثناء أخذ حمّام ساخن».

أداة استرخاء

يمكن اعتبار هذا البحث إنجازاً حقيقياً. لطالما كان التداخل بين علم النفس والأداء الفردي يثير اهتمام الباحثين حول العالم، لكني فوجئت حين أدركتُ أنني أستفيد، أنا وكثيرين، من ذلك التداخل بطريقة متعمدة. نحن نستعمل السفر كأداة للاسترخاء. إنه مصدر إلهاء ضروري لسدّ تلك الثغرات العقلية الشائكة.

كل من يسافر ويكتب خلال السفر يعرف حجم التقلبات التي ترافق هذه التجربة. ربما تجد صعوبة في بلوغ مستوى التركيز الذي تبحث عنه والعثور على مكان هادئ وتدوين آلاف الكلمات. لكن يقول ليهرير وجونغ بيمان إن هذه الخطوات تعكس طريقة تفكير خاطئة. بدل زيادة التركيز حين نحتاج إلى البصيرة (عندما نريد مثلاً أن نختم مقطعاً نعمل عليه منذ أسابيع)، يجب أن نخفف تركيزنا! حين نعطي عقلنا الوقت الكافي كي يتشتت ستنشأ شرارة، ولو كانت عكسية، من شأنها أن تطور البصيرة التي نبحث عنها.

تعرف الكاتبة وأستاذة اليوغا آبي كارفر التي تقسّم وقتها بين بالي وفرنسا وكندا ومواقع أخرى هذا الشعور جيداً: «في ما يخص البصيرة، لاحظتُ هذه السنة أن الوقت الذي نمضيه في جو من الوحدة يرتبط بطريقة إيجابية بلحظات الاستنارة الفكرية. شخصياً، لا أفكر بوضوح تام حين أشعر بالتعب أو بضعف أدائي. أنا مدمنة جداً على لحظات البصيرة المفاجئة لدرجة أنني نظّمتُ حياتي بطريقة تسمح بنشوء أكبر عدد من تلك اللحظات».

بالنسبة إلى كارفر، يشمل ذلك النظام الاستيقاظ باكراً وتمضية الوقت وحدها وتخصيص وقت طويل للتفكير والتصرف بكل حرية ومن دون ضوابط. يمكن الاستفادة من الاحتفاظ بمذكرة لمراقبة مسارنا، لكن ربما يُمهّد الجدول الصارم لإعاقة الكتابة بدل تسهيلها.

توافقها الرأي باربرا وولسي، صحافية مستقلة زارت حديثاً برلين وبانكوك: «يمكن أن يخبرنا الكتّاب عما يعيشونه حين يجلسون طوال ساعة ويحاولون كتابة مقطع ذكي واحد أو إيجاد المقدمة المثالية. تعلّمتُ مع مرور الوقت أن أفضل طريقة لتجاوز العوائق خلال الكتابة تقضي أحياناً بالسماح للأفكار بالتسلل إلى العقل بعيداً عن شاشة الحاسوب: خلال نزهة، أو أثناء الاستحمام، أو من خلال السفر بانتظام. ستكون التجارب والحوافز الجديدة كفيلة بفتح آفاق العقل. وفي لحظات مماثلة ستنشأ البصيرة المنشودة بكل سلاسة».

كتّاب سافروا

وُلِد إرنست همنغواي في «أوك بارك» في ضواحي شيكاغو لكنه انتقل إلى تورونتو وباريس حين بلغ 22 عاماً. حذا ف. سكوت فيتزجيرالد حذوه أيضاً وأمضى ثلاثة أشهر في أوروبا في عمر الخامسة والعشرين، قبل أشهر من نشر كتاب The Beautiful and Damned «الجميلة والملعون»، ثم انتقل إلى باريس بعد ثلاث سنوات.

لم تكن آين راند لتتمكن من ابتكار المواضيع التي طرحتها في كتابَي The Fountainhead  «المنشأ»

وAtlas Shrugged «التشكيك بالأطلس» لو أنها لم تركب قارباً متّجهاً إلى الولايات المتحدة. مثل راند، وُلد فلاديمير نابوكوف بدوره في روسيا لكنه أمضى أكثر من 20 سنة في أوروبا والولايات المتحدة. كانت آراؤه عن السفر أقوى من الجميع: «كنت أقول لنفسي أحياناً: هذا الموقع مناسب كي أجعله مكان إقامتي الدائم. لكني كنت أسمع صوتاً في عقلي يذكّرني بمئات الأماكن البعيدة التي ربما أدمّرها إذا قررتُ أن أستقر في مكان واحد من العالم». لم يكن نابوكوف من نوع الأشخاص الذين يلازمون مكاناً واحداً لكن لم يمنعه ذلك من نشر عشرات الروايات والقصص القصيرة ومقالات أخرى. تطول لائحة الكتّاب الذين مرّوا بهذه التجربة.

راودتني فكرة منشورات السفر الإلكترونية حين كنت في عبّارة بين كولونيا ديل ساكرامنتو والأوروغواي وبوينس آيرس والأرجنتين. أتذكّر ما حصل بالتفصيل: تعطّل حاسوبي المحمول وكان هاتفي يوشك على الانطفاء، فجلستُ على سطح العبّارة ورحتُ أشاهد أفق بوينس آيرس وهو يشق طريقه للظهور ببطء. لو أنني لم أخصص ذلك الوقت للاسترخاء وتفريغ عقلي والتفكير بالأمور كافة، ما كان منشور How I Travel «كيف أسافر» ليصدر على الأرجح.

تفريغ عقلك من الأفكار

«يبدو أن التركيز يَنْشَط مقابل كلفة خفية ترتبط بإضعاف حس الإبداع». هذا هو فحوى فرضية ليهرير. حين نواجه مشكلة صعبة، لدينا طريقتان للتعامل معها: يمكن أن نستجمع كامل تركيزنا ونصبّه عليها، أو يمكن أن نسترخي ونسمح للمشكلة بالوصول إلى وعينا الباطن. بحسب ليهرير وجونغ بيمان، تكون الاستراتيجية الثانية أكثر فاعلية لكنها الأصعب عند التطبيق. تتعلق آخر ميزة تنصحنا بها غريزتنا حين نواجه مشكلة شائكة بالرضا عن الذات.

لكن إذا كنت كاتباً، ربما يكون ذلك الاسترخاء العقلي أساسياً كي تحقق الإنجازات التي تسعى إليها، ولا تتوافر طريقة أفضل من السفر لتفريغ عقلك من أفكاره الراهنة!

إرنست همنغواي سافر إلى تورونتو وباريس حين بلغ 22 عاماً

ف. سكوت فيتزجيرالد أمضى ثلاثة أشهر في أوروبا قبل نشر كتاب «الجميلة والملعون»
back to top