حبر و ورق

نشر في 19-08-2017
آخر تحديث 19-08-2017 | 00:00
No Image Caption
الحلم المعلَّق

إنها أرض استثنائية، أو هكذا يظنّ أهلها لتاريخها الطويل الحافل بالأحداث والحضارات. يطلقون عليها الجوبه، ووادي النفاخ، ويتناقلون عنها الكثير من الروايات والحكايات الأثيرة في نفوسهم. يسمونها اليوم منطقة الجوف. ويطلقون عليها أرض الزيتون، وينعتونها بالحلوة. نخلتهم حلوة، ماؤهم حلو، وبلدهم حلو. كلهم مغرمون بالحلوة، يسمون كل شيء في حياتهم باسمها، تلك النخلة العشق التي اشتهرت بها أرضهم. تعلقهم بالحلوة أكثر من محبتها فالحلوة جزء من تاريخهم، ومن حياتهم. عاشوا على تمرها وقدموه لضيوفهم، ينظرون إلى مزارعهم من دونها أنها ليست مزارع إن لم تكن ضمن نخيلها. يقول أحد الرواة، إنهم عندما تجمعوا بعد صلاة المغرب في الزمن القديم على مصاطب من طابوق الطين، كان مهاوش انتهى لتوّه من زراعة نخل جديد، في مزرعة جديدة، فصاروا يسألونه، زرعت النخلة الفلانية قال زرعتها، والفلانية، قال زرعتها... وراحوا يعددون كلّ أنواع النخل وهو يقول زرعتها، حتى قال أحدهم زرعت الحلوة. قال: لا. ردوا عليه كلهم بصوت واحد “ما زرعت شي”! فنهض من مكانه كمن ضربته على رأسه بمشعاب إلى خاله في طرف المدينة، يطلب منه نخلة حلوة، فأعطاه من أفضل نخله، حلوة اقتلعها له من حوض الماء، ثم قال له: رح إلى جماعتك يسحبونها معك، فعاد إليهم وساعدوه في سحبها، ولم يناموا حتى قاموا بغرسها وسقيها.

قيل عن منطقة الجوف الكثير بين الأسطورة والحقيقة. قالوا: إنها أقدم مكان استوطنه الإنسان في الجزيرة العربية، وإنها احتضنت حضارات إنسانية قديمة، مرت بها قوافل، ووقعت بها أحداث. قامت عليها مملكة دوماتو في العهد الآشوري في القرنين السابع عشر، والثامن عشر قبل الميلاد، وغزتها زنوبيا ملكة تدمر ففشلت في اقتحامها وقالت: “تمرد مارد وعز الأبلق”. وسيطر عليها أمرؤ القيس في القرن الخامس الميلادي. هذه الأرض التي أهملها حاضرها واستبقاها التاريخ في ذاكرته ووجدانه تتوهج بآثارها ومعالمها الأثرية، مسجد عمر بن الخطاب، قصر مارد، قلعة زعبل، بئر سيسرا، أعمدة الرجاجيل، قصر إثره، تل الصعيدي وغيرها. قصدها العشرات من الرحالة والمؤرخين، قبل أكثر من مئتي سنة يستطلعون تاريخها وآثارها.

في هذه الأرض التي يضيء تاريخها ولد ناصر غالب الأشدف، وكشأن أهل ذلك الزمان، لا يعرف أحد تاريخ ميلاده إذ لم يكن آنذاك مستشفيات، ولا من يسجلون تاريخ مولود أو غيره، لكنهم وكعادتهم يؤرخون بسني القحط والأمراض، وغزو الجراد لمزارعهم الصغيرة، ووفاة الأقرباء، وجيرانهم من أهل الحارة. وعلى هذا القياس فإن ميلاد ناصر كان في عام الجدري. عمره الآن ست وستون سنة، وتوفي والده ولما يبلغ العاشرة من عمره بعد. كان الأول بين إخوته. قالت له أمه: إن والده غالب الأشهب عندما ولد أذّن في أذنه أذاناً كاملاً، وقال لهم إنه سماه ناصراً. قالت أمه ذلك وهي لا تدري أنه سيحمل حلماً سوف يسميه في ما بعد الحلم المعلق.

ترك الوالد وراءه زوجته ريحانة المسند، وأربعة أطفال، هو وأخوته سند، ليلى وهايل، تكدح أمه بشقاء وعناء لا حد لهما، لتوفر لهم لقمة العيش. كانت كمحارب عنيد في معركة قاسية ليس فيها من فرار، الموت أو النصر على عدوه، وعدو أمه اللدود كان الفقر، تحاربه ليل نهار، تقف له كمصدات الرياح العاتية. تعمل مع الحصادين بالأجر، أجرها حفنات قمح. وإذا لم تجد من يُشغّلها في حصاده، تلتقط مع العصافير ما يتناثر وراء الحصادين من حب تجمعه. كانت تحمل بيدها عسيب نخل تطرد به العصافير من حولها لتجمع أكبر كمية من الحبوب التي تسقط على الأرض. تطحنها وتصنع منها لهم خبزاً أو عصيداً.

عندما تعود لهم بعد عناء يوم طويل تجدهم مثل عصافير تفتح أفواهها لمنقار أمها في عشها، ومع كل الجهد والجهاد والصبر على الكد والعناء، ونزع لقمة العيش لأولادها من شوك شجرة الحياة، تدمي يديها وأقدامها، كانت لا تختلف حاجتها وعوزها الشديد لإطعامهم عن تلك المرأة التي وجدها الخليفة عمر بن الخطاب تطبخ لأطفالها الحجارة حتى يتعبوا من البكاء انتظاراً للأكل فيناموا. هكذا كانت قسوة الحياة ومعاناة ريحانة المسند التي كانت تربط على وسطها حزاماً وتشده حتى لا يؤذيها ويشغلها الجوع.

لم يترك لهم والده بعد وفاته غير الجوع، فواجهت أمهم قسوة الحياة بعناد، تخرج قبل شعشعة الضوء، تبحث عن أي عمل لتأتي بقوت اليوم. تشتغل أينما تجد لها شغلاً بالغزل والنطو، والحصاد والاحتطاب. وحين تعود إلى الدار تطعمهم، وتقع كجثة هامدة من التعب والإعياء. لتنهض مع نجمة الصبح تستقبل عناء يوم جديد، تبحث لهم بصبر وكد نملة عن قوت يومهم.

هذا هو قدرها، فأقدارنا لا تستشيرنا ولا تعقد معنا مصالحة. أنها تأتي كما تريد هي، وتعبث بنا على هواها. لا كما نريد ونختار. تلك هي قصة أم ناصر تضيء في الحياة درباً لا يتعثر فيه أولئك الذين أغتال القدر في قلوبهم بهجة الأبوة، ورماهم على أُمٍّ كان الشقاء قدرها الذي لم تختره. لكن القدر أيضاً، وهو يشقيها لم يتريث، باغتها ولم يترك لها مساحة تزرع عليها آمالها وتجني ثمارها.

مرضت أم ناصر مرضاً شديداً، ولم تستطع الخروج، خارت قواها، نحل عودها وهزلت، لم تستطع المقاومة، تنهض وتسقط على الأرض كالشلو الهزيل. يوم لا ينسى، ذهبت ليلى إلى جارتهم أم محمد تستغيث بها وتصيح: أمي لا تقوى على الوقوف، تحتاج المساعدة. أرجوك.. أسرعي... ساعدينا.

جاءت أم محمد مسرعة، واجفة مضطربة، ووضعت يدها على جبين أم ناصر، ثم ذهبت وأحضرت لها عشبة نقعتها بالماء وأسندتها في حجرها وظلت تسقيها بصعوبة، أحضرت معها تمراً ووضعت شق تمرة في فم الأم الكبيرة بصبرها وعطائها وتضحياتها لكن الأم المريضة لم تستطع أن تمضغها، التمر عندهم غذاء ودواء، يقوّي الجسم ويشفي من الأمراض. هكذا يعتقدون ببراءة طفل، بسطاء وأنقياء كأشعة الشمس، أو ربما لحبهم الجم للنخلة، وكثيراً ما قضوا بعفويتهم على مريض بالسكر بما يعطونه من التمر ليقوّي جسمه.

تجمعوا حول أمهم، ناصر وإخوته. يبكون بنحيب حد الوجع. تصرخ ليلى، أمي ستموت... ستموت وليس من منقذ. ترتفع أصواتهم ويعلو الضجيج، تجمع حولها عدد من نساء الحارة الصغيرة. وصلت أم ناصر حد الاحتضار. ستموت أمهم. حالتها تزداد سوءاً، ودخلت إغماءة الموت، وازداد هلع الأطفال، يصيحون كمن فوجئوا بصاعقة. أصبحوا مثل قطط رُميت بحجارة من أطفال أشقياء، يتلوون ويصيحون. انهضي... يمه... نريدك، نحبك، لا تطلعي من البيت، لا تشتغلي، نعمل كل شيء، نبحث عن الطعام بكل مكان، نريدك أنت.. اجلسي معنا، ما نقدر نعيش بدونك... يمه.. وفي حالة من الهذيان راحوا يتوسّلون.. يمه... يمه... أرجوك... خليك.. أنت أقوى من الوجع.. أقوى من الموت.

يوم يحفر في ذاكرة ناصر وإخوته أقسى الذكريات وأكثرها وجعاً، وضعهم القدر على ذبابته المؤلمة. يدورون حول الجذع الذي سقط، يدورون حوله في هذيان وآهات حارقة. الجذع القويّ العنيد، غصن النور، شجرة الزيتون المورقة. آه.. الألم العربيد عاتٍ يقتحم الجذع القويّ الصلب ويرميه على الأرض. لحظة انكسار يسقطون فيها بقبضة الزمن. مسكون ناصر بمواجعها، بمواجع الأم الصلبة القوية التي تسقط أمامه فيسقط في حزن كثيف موحش يتضرم بالألم ولا يقوى على تحمل عنفوان التجلد. ينظر في عينيها المنطفئتين: عودي فلن يبقى لنا شيء بعدك. عودي غصناً من النور كما كنت، جذعاً قوياً بحفيف أغصانه الندية. عودي يا انبلاج النور، انهضي من هذا الصمت الواجم وأطفئي الجمرة الحارقة التي سقطت في قلبي. أمّاه... الأرض من دونك بركان يلتهب باللوعة والأسى. ساحقة هذه المفاجأة كأنياب ثعبان أخرس ينتزع شهقة مرعبة تسحقني. توقد القلب حسرة لا تكمد. يتمسك ناصر بأمل أعمى لا يرى. عودي كما كنت آتيك متعباً لاهثاً فتغسلين بنبع حنانك تعبي وترمين بيدي رغيف خبز ساخن برائحته الزكية وطعمه اللذيذ الذي لن أنساه في حومة العمر أبداً. لم تأتِ توسّلاته إلاّ بظلام عميم يلف الكون من حوله.

في صمت وسكون تغرق أمّ ناصر في غيبوبتها، ثم تفتح عينيها بأنين يقطع نياط القلب. تصحو.. وتغيب، ثم شقت الظلام... عبرته وغابت بهدوء. أسلمت روحها، فعلا الصراخ واهتزت الدار، وهزت معها الحارة الصغيرة. لم يدم مرضها طويلاً، خطفتها يد الموت إلى الأبد. وتركتهم كقطط صغيرة عمياء لا ترى النور، لا تعرف طريقها ولا إلى أين تذهب!

قال ناصر: أريد أمي لأنني أحبها، أكثر من أنني أحتاجها. ماتت أمي، وأنا لم أصدق أنها رحلت وغابت ولن أراها أبداً. لم أصدق أنها ماتت بتلك السرعة. وضعت النساء عليها غطاءً. ماتت أمي نبض الحياة ورمزها العميق. لحظة مرعبة... نثرتني الفجيعة كالرماد في مهب الريح.

ناصر لأنه أكبرهم، أو ربما أكثرهم ولعاً بأمه، كان الأكثر ألماً، ولكن رغم ما ألمّ به تصبّر صبر أيوب يشد عزم إخوته، ويصبرهم على تحمل الفجيعة وهول المصاب. كانوا ينادون بحرقة.. أمي.. تعالي... تعالي... يصيحون ولا يرد عليهم غير صدى أصواتهم الحزينة. انسدّ الأفق أمامهم، وأصبح ضيقاً كخرم إبرة. وناصر يتصبّر ويواري حزنه وألمه، يحاول أن يخفّف عنهم ويحتويهم ولا من يحس به أو يسمعه. الفجيعة قاسية ومريرة. أبعدوهم خارجاً. ماتت الأم، لأنها لم تستطع أن تتحمل أكثر من طاقتها. جاهدت كثيراً، وتحملت الكثير.... والكثير، وواجهت ما لم يستطع مواجهته أقوى الرّجال وأصلبهم. وقفت في معركتها صامدة تتحدى حتى سقطت كما يسقط شهيد. خرجت من الدار على نعش. قال ناصر: أمي لم تمت، لقد خرجت تحث خطاها واقفة قوية صلبة، تنطلق مسرعة كمن هب لنجدة أهل الحي في غارة، أمي خرجت لتعمل وتبحث عن قوتنا لا إلى قبر يوارونها فيه ويتحوّل ذلك الجسد القوي إلى رميم، إلى تراب في تراب. لم أصدق إلاّ أنها خرجت إلى حيث ستجلب لنا من كدها وعرقها تحت الشمس كالعادة، ما سلنتهمه من الأكل مثل صغار حيوان بري تتضور من الجوع. لم تخرج كما اعتادت قوية مضيئة مع الضوء تبحث عن قوت الجياع. آه... لقد خرجت محمولة على نعش بعد أن تولّت النساء غسلها وتحضير جنازتها فأخذوها للصلاة عليها.

شمدين

أمام قرية رشتي التي كانت تغفو في سهل جبل سنجار شمال مدينة الموصل، ثلاثة أشخاص جميعهم أموات، مبعثرة أجسادهم وسط ركام سقوف هاوية وسيّارات عسكريّة متفحّمة. الأول لم تبق منه سوى عظامه، لأن الشيء الذي أصاب السيّارة وأحرقها هو على الأغلب صاروخ أطلقته طائرة مقاتلة نزعت عنه الثياب ومعظم ما كان يكسو تلك العظام من لحم. والثاني كان بلا رأس. وكي لا يبقى مجال للشك في أن الرأس إنما قطع عن عمد بعد الموت كفعل من أفعال الانتقام، ألقيت بقايا الجثة على صدرها بعدما شدّ بنطالها إلى الأسفل ليبقى الجسم مكشوفاً في العراء، وهو تقليد انتقامي يتبعه البعض في ساحات المعارك في العراق بقصد إهانة القتيل. أما الجثة الثالثة فقد كان عليها ذلك الرداء البنّي الفضفاض القصير عند الكاحل وهو الزيّ المميز للمقاتلين المتشدّدين وخصوصاً أولئك الذين جاؤوا من منطقة الخليج. أما القرية التي تحوّلت إلى خرائب وأنقاض حجرية فقد كان يلفّها صمت الموت، وتتناثر فيها أشجار الزعرور التي بان عليها الجفاف وأضحت مثل عجائز ساحرات من العالم السفلي تتّجه أصابعهنّ العجاف صوب جبل سنجار. وسكان القرية جميعهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، قد اقتادهم مسلحون إلى جهات مجهولة.

لم تتمكن شمدين من جمع شتات تصوّرها السابق عن هيكلية القرية، أو تحديد مساحات هنا وهناك، ومنها مكان دارهم أو ما بقي منها، لكن المرأة التي أتت معها دلتها على بقايا دارهم، هنا كان الباب الكبير الذي ينفتح على حوش واسع تحيط به غرف كثيرة متراصّة، كانت الثالثة تضمّها هي وأختيها نازك وروناك. أجالت بنظرها تحاول لملمة بعض الصور المتخيّلة عن شيء كان ولم يعد له وجود إلا في زاوية عميقة من تلافيف العقل الباطن. لذلك ستكون لنا رؤيتان في هذه الأحداث تسيران معاً هما رؤيتنا للأحداث ومتابعتها، ورؤية شمدين لها من الداخل وسيكون المساران متداخلين معاً.

بعد عامين على الأحداث التي ألمّت بقرية رشتي التي وجدت في هذه المنطقة منذ أزمنة سحيقة، حيث البيوت المشيّدة من الصخور المحلية والمسقفة بأعمدة أشجار السرو وحصر القصب المغطاة بالطين، تلك البيوت الواطئة بعض الشيء بألوانها البيضاء أو الترابية وطرقاتها الضيّقة التي رسمتها خطوات سكانها وحوافر أغنامهـم وحميرهم وبغالهم، ولقد تناثرت هذه البيوت حول معبد القرية المخروطي المضلّع الذي تتجه قمّته الحادّة إلى السماء وإلى الشمس، وتحيط به غرف وأروقة وقاعة كبيرة يجتمع فيها أفراد القرية لأداء مناسك العبادة والبرّك، لأن أهل القرية كلهم يزيديون، وهي واحدة من القرى المتناثرة حول سهل لالش المقدس ومرقد عدي بن مسافر الذي يتوسط سهل لالش المقدس والمرجة وجبل عرفات وبئر زمزم.

قبل الأحداث في حزيران من عام 2014 كان سكان القرية المسالمون يعيشون بهدوء معتمدين على زراعة الحنطة والشعير والفواكه والخضروات، ويعتمدون في زراعتهم على مياه الأمطار التي تهطل غزيرة في موسم الشتاء، وعلى مياه الينابيع، ولقد كانت حياتهم تسير بإيقاع يومي جميل لا تخدشه أيّة منغصات وإن حصلت بعض

هذه المنغصات فإنها سرعان ما تزول لأنها ليست بذات أهمية ولم تؤدِّ يوماً إلى إزالة هذا المكوّن الديني والاجتماعي أو تذويبه، ولقد مرّت حوادث عدّة على مرّ التاريخ لكنّها زالت من دون أن تترك أثراً جسيماً.

جلست شمدين تحت ظلال شجرة التين التي نجت من التدمير والخراب، والتي كانت في الباحة الخلفية الواسعة لدارهم التي تحوي أقنان الدجاج، وزريبة الأغنام والماعز، ومخزن الحبوب والأعلاف. هذه الشجرة التي كانت على حافة تلك الساقية المتفرّعة من نهر القرية الذي يشطر القرية وتتفرّع منه سواق صغيرة تدخل كل بيت لتخرج منه وتسير لتلتقي في نهاية القرية بالنهر مرة ثانية الذي يتابع جريانه جنوباً. وتعتمد القرية في مائها على هذا النهر الذي ينحدر من جبل سنجار الذي يظلّل القرى المنتشرة على سفحه وفي سهله المنبسط لمساحات شاسعة.

حاولت شمدين أن تستعيد بعضاً من أشيائها المفقودة أو بعض الرؤى التي كانت تختزنها في ذاكرتها عن هذا المكان الذي تجلس فيه الآن لكنّها فشلت لأنها لم تكن تمتلك أية ذاكرة أو رؤى تستطيع بها ترتيب أفكارها. كل الصور كانت ضبابية، وطنين مستمرّ لأجراس بعيدة مصحوبة بصراخ بعيد لا تميّز مصدره فتلجأ إلى النوم فهو الوسيلة الآمنة لطمس الآلام التي تتراءى لها باستمرار، ولا تريد العودة لبدء الأحداث ومجرياتها التي استمرّت لأكثر من عامين حتى هذه الأيام التي بدت غريبة يلفّها الغموض والصمت.

ومن جانب رؤيتنا للأحداث...

بعدما تمكنوا من طرد الغزاة المتوحشين من هذه البقاع وزال خطرهم، عادت مجاميع صغيرة من أهل القرى إلى قراهم المهدمة المنهوبة يلملمون بقاياهم ويداوون جراحهم، ويتكئ بعضهم على بعض محاولين العثور على ما بقي من تاريخهم الممزق المنثور في رياح العواصف والتراب. أحياء أقرب إلى الموتى منهم إلى الأحياء، ثيابهم ممزقة وشعورهم شعثاء منفوشة وأقدامهـم حافية ووجوههم هزيلة شاحبة. كانوا أشبه بشذاذ من الغجر أو تجمّع من الشحاذين ألقت بهم سيّارات حمل كبيرة مع ما يحملون من صرر مجهولة الأغراض، ينظرون ببلاهة إلى أطلال بيوتهم ويسيرون من دون هدف في دروبهـم التي ألفوها سابقاً، وحاولت كلّ شرذمة من الأفراد أن تتّجه إلى خربة من الخرائب أو من بقايا البيوت التي تحوّلت إلى أطلال من الركام. ورفع الرجال بعض الأحجار وبقايا الأبواب وأزاحوا الموانع التي تحول دون دخولهم إلى ما بقي من بيوتهم، ينظرون بعيون لا تكاد تلمس فيها أملاً بعدما عانوا ما عانوا من الذلّ والتشرّد والجوع والاضطهاد وفقدان الكثير من أفراد أسرهم.

لم تجد شمدين أحداً معها فلقد فارقت هذه الدار منذ أكثر من سنتين إثر اقتيادها سبيّة على أيدي الغزاة المسلحين من متوحّشي داعش هي وأختيها نازك وروناك وأمّها وجاراتهنّ. وها هي تعود بعدما فقدت كل شيء ولم يبق منها سوى خيال إنسان تنوء بحمله. تترنّح في مشيتها بعدما ألقتها سيّارة الحمل الكبيرة مع آخرين غيرها. وها هي تجلس تحت ظلال شجرة التين تتطلع ببلاهة إلى الأفق المجهول لا تدري ماذا تفعل. إنها وحيدة وسط جمع لا يمتّ أحدهم للآخر بصلة، وإن كانوا متواصلين متحابّين متعاونين في ما مضى لكنهم اليوم يسيرون فرادى أو مجموعات تتكوّن من اثنين أو ثلاثة على الأكثر لا يكاد يعرف أحدهم الآخر.

back to top