6/6 : الراحل الباقي

نشر في 18-08-2017
آخر تحديث 18-08-2017 | 00:25
 يوسف الجاسم أيها الغائب الحاضر، ملأت دنياك وشغلت ناسك، كنت حراكاً لا يهدأ، وإشراقة لا تخبو، وظاهرة فنية لا تتكرر. ملأت أيامنا عبر نصف قرن، أو يزيد، بعطاءات فنية وتثقيفية قلَّ نظيرها؛ كمَّاً ومضموناً، واخترقت حُجُب القلوب، وسكنت ساحاتها دون استئذان، وتربَّعت على عرش الفنون المسرحية في وطنك ومحيطك الخليجي سيداً لا ينازعه في السيادة أحدٌ، وتمكنت من إبهاج الخواطر المكسورة والنفوس المتعبة، وانتزعت البسمة ورسمتها فوق الوجوه العابسة، وجعلت من أعمالك، الممتدة عبر الأجيال المتعاقبة، مادة للترديد والاستذكار، وكل مرة تكون كأنها الأولى، ونكتشف فيها شيئاً فاتناً من لمحاتك الساخرة التي زرعت فينا الفرح النبيل، فأعمالك ممهورة بأختام لا تنتهي عبر الزمان.

آه لو تعلم كم أوجع نبأ رحيلك شعباً بأكمله، وحلَّ عليه كالصاعقة، وكم كان فراقك صاخباً بالألم، بقدر صخب حضورك بالابتسام! فرحيلك أصابنا بالدهشة، مثلما كان حضورك يدهشنا بإبداعاتك.

بكاك الناس بدقائق بقدر ما أسعدتهم بعقود، وتراكم برحيلك حزن وطني مشترك، وإجماع عاطفي ندر حدوثه مع غيرك من راحلينا الكبار، فهاجت من حولك بحور المراثي متفجرة من خزائن حب الجميع لك، ولفنك وعطائك، كرائد لعالم المسرح والدراما، وقامته الشامخة، ونجمه الشامل، الذي حباه الله مواهب متوقدة؛ شِعراً ولحناً وغناءً وكتابة وإخراجاً وتمثيلاً، وحزت فيها جميعاً مراكز الصدارة والأستاذية، وتبوأت مكانة المُعلِّم والقدوة لأجيال تعلمت في مدارسك، ونهلت من فيض نجاحاتك.

نقلت مع عمالقة عصرك الإبداع المحلي إلى مساحات خليجنا ووطننا العربي، وأصبحت أبرز نجوم بساطها الأحمر.

قبل هذا وذاك، كنت الإنسان والأب والأخ الحاني على كل مَن حولك، من أهل وأصحاب ومعارف، ولكل واحد منهم معك حكاية وفاء وشهامة، وأنا أحدهم، وسيشعر الكثيرون باليُتم من بعدك، ولا يقتصر ذلك على أبنائك وذريتهم فحسب.

أرثيك رمزاً من رموز الصف الأول في فضاء الثقافة والتنوير في وطني، ومثالاً لحب الوطن ووحدة أبنائه، فوطنك الذي احتضنك برفق أحببته بعنف، والذي رعاك بسخاء أجزلت له العطاء، وتركت فيه آثاراً وأعمالاً لن تبددها مسافات الزمن. أخلصت لفنك وعملك وجماهيرك، فأخلصوا لك الوفاء، وليس أبلغ إخلاصاً للناس من إكمالك أحد أعمالك المسرحية الفكاهية بعد تلقي العزاء بوفاة والدتك، رحمها الله، في السادسة مساءً، لتبدأ عرض مسرحيتك في الثامنة، وكتمت حزنك وألمك، فاختلطت دموعك بضحكات الجماهير.

لن أنسى نداءك من القلب الذي أطلقته للشباب في لقائي التلفزيوني معك: "الكويت وبس... حافظوا عليها"، وحديثك الوطني البليغ عن إخوتك بالرضاعة من العوازم الذين نشأوا معك في فريجهم الذي وُلدت فيه.

كرَّمك وطنك حياً، واحتفى بك راحلاً احتفاء الفرسان، ففي حياتك تجمَّعنا حول أعمالك، وفي مماتك توحَّدت الحشود، سائرة خلف جنازتك المهيبة، تزفك باكية إلى مثواك الأخير، وحملت شلالات دموعها مركبك المرتحل في مشهد لن تمحوه الذاكرة، وسيعود كل منا إلى بيته، ليواصل حضوره معك، عبر تراثك الغزير الذي تركته للجميع نهراً لن يتوقف تدفقه الخصيب.

كتبت في أيام سابقة عند رحيل قامات وطنية إلى دار الخلود، أن الشخوص النماذج يموتون ولا يغيبون، وستبقى في ذاكرتنا أيها الأخ الكبير عبدالحسين عبدالرضا نموذجاً متميزاً من الرجال، وراحلاً باقياً لن يغيب.

رحمك الله يا بوعدنان، ولذويك والكويت ولنا حُسن العزاء.

back to top