«الأب»!

نشر في 18-08-2017
آخر تحديث 18-08-2017 | 00:00
 مجدي الطيب بين المسحة الوثائقية، والنظرة الواقعية، ومن خلال سيناريو اتخذ من شخصيات أبطاله وسيلة للتعبير عن معاناة يعيشها الآلاف من السوريين، وتبنى رسالة شديدة الوضوح تؤكد أن «روح المقاومة باقية»، وأن «المواجهة حتمية بل مصيرية»، كما أن «تطهير أرض الوطن ضرورة»، و{الطبيعة التي حبا الله بها الوطن لن تُدنسها أقدام نجسة وعقول مريضة»، أنجز المخرج باسل الخطيب فيلمه «الأب»، الذي يأتي بعد ثلاثيته الشهيرة: «مريم» (2012)، و{الأم» (2013)، و{سوريون» (2016)، التي قدَّم من خلالها أكثر من قصيدة سينمائية استهدفت تمجيد دور المرأة السورية، وإعلاء شأن بطولاتها، وتضحياتها، في ظل الأزمة التي تعيشها سورية في الخمس سنوات الأخيرة.

في فيلم «الأب» (120 دقيقة/ 2017) ينتقل الخطيب إلى رصد ما سماه «وقائع من المأساة السورية»، من خلال «الأب» «إبراهيم عبد الله» (الممثل السوري المخضرم أيمن زيدان)، الذي أحيل إلى التقاعد، وفوجئ بأن بلدته تتعرض لحصار من التنظيم الإرهابي المُسمى «داعش»، وأن عليه تأمين خروج عائلته الصغيرة المكونة من زوجته «وفاء» (روبين عيسى) وبناته الثلاث، من بينهن الطفلة «ريما» (غادة قاروط) والممرضة «ديما» (رنا كرم) بالإضافة إلى والديه المسنين (سعيد عبد السلام ووفاء العبد الله). بل إن مسؤوليته تتجاوز هذه المهمة إلى حماية أهل البلدة (المجتمع) بالكامل، رغم كونه أعزلاً في مواجهة جيش من القتلة المأجورين، سفاحي الدماء وغلاظ القلوب!

حرص المخرج باسل الخطيب على تجنّب الوقوع في فخ الأحادية، والمباشرة، وأولى اهتماماً كبيراً بتوظيف لغة السينما، سعياً وراء مخاطبة المشاعر واستهداف الأحاسيس، بغية التأثير في المتلقي، واستقطابه، وهو ما نجح فيه فعلاً، عندما اعتمد لغة بصرية مُبهرة، استثمر فيها جمال المكان (القرى التي تحوَّلت إلى أطلال) وسحر الزمان (استغلال المناخ والأجواء)، بالإضافة إلى بساطة الطرح، والمباشرة، والتكثيف، وأحياناً التلميح، في توصيل إحساس إلى المتلقي بأن «الأب» أو «ولي الأمر» يتحمَّل جانباً من المسؤولية عن المصير الذي ألم بعائلته/ شعبه. وأسهمت الحالة الذهنية، والنفسانية، بالإضافة إلى الحالة الشكلية، التي كان عليها الممثل القدير أيمن زيدان، في إضفاء مصداقية على «الأب»، فهو موظف سابق، وليس ضابطاً متقاعداً، ومن ثم كان طبيعياً في خوفه، ومنطقياً في قلقه، وفي تردده. غير أن السيناريو، الذي شهد تعاوناً بين باسل ووضاح الخطيب، عانى بعض الخلل في البناء الدرامي، ما أضفى على بعض المواقف نوعاً من عدم المنطقية، والمبالغة غير المقبولة. فالموضوعية في تناول الصراع المحتدم على الساحة لا تعني، مُطلقاً، الحياد بين الجيش والإرهابيين، وكأن ما بينهما مجرد اختلاف في وجهات النظر، ومن غير المقبول أن يظهر أعضاء التنظيم «الداعشي» أقوياء الشكيمة، وكأنهم «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» بينما يبدو أصحاب الحق، وعلى رأسهم أفراد الجيش السوري، كذلك الحال بالنسبة إلى المواطنين السوريين النازحين، قليلي الحيلة، مغلوبين على أمرهم، بلا حول ولا قوة!

صحيح أن «الأب» استحوذ على المشاعر، لكن المخرج باسل الخطيب خرج عن نهجه الرقيق، الذي يميز أسلوبه في أفلامه كافة، عندما صور مشهد اغتصاب الفتاة «سارة سعيد» (خلود عيسى) بوحشية لا تقل عن وحشية المغتصبين، فلم يكن ثمة داع، على الإطلاق، للتركيز على كم الدماء المنهمر بين ساقيها، حتى لو كان الهدف تكثيف معنى الشعور بالألم الذي ارتكب في حق أبناء الوطن، أو الإيحاء بوحشية وشراسة أعضاء التنظيم الإرهابي، فضلاً عن «الكليشيهات» النمطية، التي عجز السيناريو عن التخلّص منها، وكأنها موروثات تقليدية. لكن التجربة، في مجملها، تستدعي الإعجاب بسبب جرأة المخرج في التصوير بالأماكن الحقيقية، رغم خطورتها، واستعانته بضحايا حقيقيين، كالطفل مبتور الساق، الذي يُجسد عمق المأساة، ويترك بصيصاً من الأمل في غد جديد، وسيطرة المخرج على طاقم الفيلم، من فنيين وفنانين، رغم تشابه الوجوه الشابة، وصعوبة التفريق بينهم، باستثناء أداء روبين عيسى في دور الأم، وأيمن زيدان، الذي تلبسته الشخصية، واستلهم روحها، وسيطر على انفعالاتها الداخلية والخارجية، وإن لم يُفلح «المونولوج» الإنشائي الطويل الذي ألقاه، في حضور قيادات التنظيم الإرهابي، في إقناع المتلقي بفشل «عملية غسيل المخ»، التي مارسها المتطرفون على الأطفال (جيل المستقبل)، حيث اقتيد «الأب» إلى الإعدام رمياً بالرصاص، على يد طفل لقنه، مع رفاقه ومنهم ابنته، درساً في «أهمية التحلي بالإرادة والإيمان، والاعتزاز بهذا البلد، الذي لم نقدره حق قدره سابقاً، وآن لنا أن نستعيده، وألا يكون لهم مكان فيه». لكن الطفل بدا متردداً في قتله، وظلّ ممسكاً بالمسدس في نهاية مفتوحة، قد تعني، في جانب منها، أن الإعدام وارد!

back to top