منفّذ عملية الطعن في «هامبورغ»... مجنون أم إرهابي؟

حاجة ملحّة إلى معالجة اللاجئين نفسياً

نشر في 17-08-2017
آخر تحديث 17-08-2017 | 00:00
في عام 2015، كان أحمد أ. مجرّد طالب لجوء فلسطيني عادي وكان يحلم ببدء حياة جديدة في ألمانيا. لكنه طعن بعد سنتين أشخاصاً عدة عازماً قتلهم. يسلّط تحوّله الضوء على مشكلة متفاقمة بين اللاجئين: المرض النفسي.

في نهاية جلسة الاستماع الخاصة بطلب اللجوء في عام 2015، أراد أحمد أ. أن يعبّر عن حقيقة ما يشعر به، فأفصح عن كل ما في داخله. بعد مغامرة دامت ست سنوات في أنحاء أوروبا، تفوّه بعبارتين بكل بساطة وكان يأمل أن تساعداه على نيل ما يريده: «لم أسبب المشاكل يوماً، لا في النرويج ولا في أي بلدان أخرى قصدتُها. يمكنكم أن تجروا التحقيقات اللازمة إذا أردتم». ولكن بعد مرور سنتين، حمل سكيناً في حي «بارمبيك» في «هامبورغ»، وطعن خمسة أشخاص، وقتل واحداً منهم. واللافت، أنه كان يذكر الله فيما راح يقتل الناس عشوائياً.

كان وقع ذلك الاعتداء صادماً في ألمانيا وتساءل الجميع عن صوابية اعتبار ذلك الفلسطيني الذي وُلِد في السعودية وجاء إلى ألمانيا لاجئاً عام 2015 إرهابياً ذا دوافع إسلامية متشدّدة، أو شخصاً أقدم على القتل بسبب إصابته بمرض نفسي.

عمل مراسلو صحيفة «شبيغل» على إعادة رسم رحلة الفلسطيني من غزة إلى الاتحاد الأوروبي. من الواضح أن السلطات علمت عبر مجموعة من التحذيرات أن أحمد أصبح متشدداً ولم يكن متزناً من الناحية النفسية. حتى أن أحد المحققين في الشرطة حاول أن يوظّفه كمخبر ضمن الجماعات الإسلامية.

كان أحمد ذكر هذه المعلومات لمسؤولين في النرويج حيث قدّم طلب لجوء لكن رُفِض طلبه. لاعتباره لاجئاً في ألمانيا، اضطر إلى تقديم معطيات جديدة. عندما استجوبه مسؤول خلال جلسة استماع خاصة بحق اللجوء، لم يستطع أن يقدِّم معلومات جديدة مقنعة. كانت تصريحاته متناقضة، فاعترف بأنه بقي في غزة أكثر من سنة رغم خوفه المزعوم من التعرّض للملاحقة، لكنه تمكّن من إنهاء مرحلة الدراسة الثانوية: «درستُ الاقتصاد. دخل أشقائي أيضاً إلى المدرسة. جميعنا متعلّمون». سأله المسؤول إذا واجهت عائلته أية مشكلة مع «حماس» فأجاب: «لا، لم تنشأ مشاكل أخرى معها». أما المعلومة الجديدة الوحيدة التي استطاع التفكير بها فكانت متعلقة بتضرر منزل والديه عام 2014 خلال حرب غزة: «يجب أن أساعد عائلتي الآن. يجب أن أحاول إخراجها من هناك».

بعد مرور ساعتين، اتضحت معالم القضية ورُفِض طلب اللجوء. بدا وكأن المسؤولين سيتخذون الخطوات اللازمة لترحيله إلى الأراضي الفلسطينية. لكن لم يحصل ذلك.

تسلّط قضية أحمد الضوء على مشكلة متنامية في سياسة اللجوء في ألمانيا: يزيد عدد طالبي اللجوء المصابين باضطراب نفسي. تثبت الدراسات غياب أي خدمات استشارية مناسبة للاجئين. «شبيغل» غاصت في التفاصيل.

وُلِد أحمد أ. في منطقة الباحة بالمملكة العربية السعودية عام 1991. انتقلت عائلته في صغره إلى مخيم جباليا للاجئين في غزة. جذب انتباه حركة «حماس» لأنه كان ناشطاً ضمن منظمة شبابية تابعة لحركة «فتح» المنافِسة لها، فكان يوزّع المناشير وينتقد «حماس» علناً، فادّعى مثلاً أنها أطلقت النار على ساق أحد زملائه في «فتح». حين استدعته «حماس» للاستجواب، قال إنه خاف حتى الموت. في أواخر عام 2008، استعان بالمهربين للفرار إلى اليونان عن طريق مصر وتركيا، ووصل في نهاية المطاف إلى اسكندينافيا.

وقعت هذه الحوادث في صيف 2015، أي تزامناً مع بداية أكثر المراحل احتداماً من أزمة اللاجئين. وصل مئات آلاف المهاجرين إلى ألمانيا خلال الأشهر اللاحقة. ذكر النظام الداخلي في «المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين» أنهم سيعطون الأولوية لقضايا كثيرة من البلقان وسورية.

بعد أسبوعين على جلسة الاستماع، ارتكب «المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين» خطأً كبيراً. لما كان أحمد قدّم طلب اللجوء في النروج، فكان يجب أن تعيده السلطات الألمانية إلى هناك فوراً بموجب «اتفاقية دبلن»، إذ كانت النروج تلتزم بها مع أنها ليست جزءاً من الاتحاد الأوروبي. قدّم مسؤول في «المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين» الطلب اللازم بكل تهذيب وطلب من النروجيين أن يستعيدوا اللاجئ، لكن ذكرت دائرة الهجرة النروجية سريعاً أن المهلة النهائية انقضت في اليوم السابق. من ثم، وُضِع ملف أحمد في أرشيف «المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين» حيث بقي طوال سنة ونصف السنة تقريباً.

شكوك متزايدة

طالما بقيت القضية معلّقة إزاء الوكالة الاتحادية، لم يتمكّن المسؤولون في ولاية «هامبورغ» من التدخل في الموضوع ولم يستطيعوا مثلاً أن يطلبوا الوثائق البديلة عن جواز سفر أحمد لترحيله. لم يبقَ أمامهم إلا أن يستضيفوه في مخيّم اللاجئين وينتظروا.

زادت شكوك اللاجئين في تلك الفترة، ومن المعروف أن هذا الوضع يزيد احتمال تعرّضهم لأمراض نفسية، بحسب المعالِجة النفسية ميكثيلد وينك أنسوهن. تعمل هذه المعالِجة في «عيادة برلين»: منشأة استشارية تهتمّ بألف مهاجر ولاجئ سنوياً. سرعان ما يشعر الأشخاص الذين يكتفون بالعيش في المخيّم، من دون أخذ رخصة عمل أو تلقي دروس، بالإهانة والغضب، ما يجعلهم أكثر عرضة للأزمات النفسية. لذا «يقضي أفضل تدبير وقائي بتكوين رؤية واضحة عن المستقبل»، تقول أنسوهن.

في البداية، بدا كأنّ أحمد مقتنع بأن مستقبله مضمون في ألمانيا. قال لوالدته بكل فخر إنه يأخذ دروساً باللغة الألمانية بانتظام. في يناير 2016، بعد مرور تسعة أشهر على وصوله، وافق على إجراء مقابلة مصوّرة مع ويسغربر، ناشط في شؤون اللاجئين في برلين. فدعا ويسغربر إلى زيارته في وحدة سكنية مؤلفة من مجموعة حاويات حيث كان يعيش وطبخ له وجبة طعام مؤلفة من أرز وفلفل. تقابل الطالب دنيز راو (25 عاماً) مع أحمد أيضاً في مقهى للاجئين. راحا ينشدان الأغاني ويعزفان على الغيتار ويستمتعان بوقتهما.

بعد فترة قصيرة، استقل أحمد حافلة «فليكس باص» للتوجه إلى برلين وتصوير المقابلة. تقابل الرجلان في مقهى في حي «برينزلور بيرغ». خلال تلك المقابلة التي دامت ساعة ولم تُنشَر مطلقاً، بدا أحمد متعباً. لكنه بدا في الوقت نفسه صريحاً ومتفائلاً وكان يتحدث باللغة الإنكليزية. جلب معه كتاب The Plague (الطاعون) للكاتب ألبرت كامو وقال إنه يستعمله لتعلّم اللغة الألمانية.

خلال حديثه مع الناشط، تكلم أحمد مطولاً عن محاولاته الفاشلة لنيل حق اللجوء في أوروبا، ليس في النروج فحسب، بل في إسبانيا والسويد أيضاً حيث كان أحد أشقائه يعيش. تكلم أيضاً عن هجوم باريس والاعتداءات على النساء عشية رأس السنة في «كولونيا». فقال إنه يأسف لما حصل هناك واعتبر أن تلك الأعمال لا تمثّل المسلمين. قال أيضاً إن الرجال الذين ارتكبوا الاعتداءات الجنسية في «كولونيا» يجب أن يُعاقَبوا أو يُرحَّلوا.

على صعيد آخر، اعترف أحمد بأنه ليس متديناً: «وُلدتُ مسلماً لكني لست متديناً. بل أؤمن بالقيم الحسنة ولديّ أصدقاء مسيحيون ويهود. أتمنى أن يعمّ السلام. أنا لا أكره أحداً».

لكن بعد مرور سنة ونصف السنة، أقدم ذلك الرجل نفسه على طعن الناس عشوائياً في «هامبورغ» باسم الإسلام! ما كان يمكن أن يتوقع أحد ما سيحصل. عند مشاهدة الفيديو اليوم، قد يكون امتعاض أحمد الجانب الغريب الوحيد فيه، إذ قال: «الحياة في المخيّم معقدة. الوضع صعب جداً لأن عدداً كبيراً من الناس يعيش هناك». قال أيضاً إن الطقس في ألمانيا يزعجه.

يتذكر صانع الفيلم أنه أمضى عطلة أسبوع لطيفة مع أحمد بعد المقابلة. ذهب الأخير إلى المتحف التاريخي الألماني في الصباح ثم لعبا القمار معاً في المساء ودخّنا الماريجوانا. لم يلحظ لديه أي أثر للأصولية أو العدائية.

مؤشرات تحذيرية

تلقى الناشط أنباءً مزعجة من أصدقائه في مقهى اللاجئين في «هامبورغ» خلال الأسابيع اللاحقة. قالوا له إن وضع أحمد لم يكن جيداً وأنه قطع علاقاته بأصدقائه، من بينهم المتطوع دينيز راو. كان أحمد يعزل نفسه أحياناً طوال أيام وتوقف عن شرب الكحول وتدخين الماريجوانا وبدأ يمضي وقتاً إضافياً في المسجد، وكان يوبّخ أصدقاءه المسلمين لأنهم لا يطبّقون تعاليم الإسلام، وهم شعروا بالحيرة: هل كان يعاني «أزمة عاطفية» بكل بساطة، أم أنه كان يتجه إلى التطرف؟ لم يظن أحد أنه كان يخطط لشن اعتداء قاتل، لذا لم يبلغوا الشرطة. في ربيع عام 2016، قصدوا المركز الاستشاري «ليغاتو» الذي يتعامل مع قضايا «التطرف بناءً على أسس دينية» في «هامبورغ» لاستشارته في الموضوع.

تواصل مديرو موقع اللاجئين مع مركز «ليغاتو» أيضاً. لكن بعد مقابلة أحمد، قال المستشارون إن القضية تفوق قدراتهم لأن وضعه يشير إلى اضطراب عاطفي ولم يتمكنوا من التواصل معه بعمق. حين اتصلت صحيفة «شبيغل» بالمركز الاستشاري، قال المسؤولون فيه إنهم لا يعلّقون على أية قضايا فردية.

يبدو أن شرطة «هامبورغ» لم تعلم أن اللاجئين القادمين من قطاع غزة أصبحوا متطرفين في ألمانيا قبل ربيع عام 2016. في 1 أبريل، قصد رجل قلق مركز الشرطة خلف محطة القطار الرئيسة في «هامبورغ». لكن يتعامل الضباط في ذلك المركز مع قضايا النشل وتعاطي المخدرات وليس الإرهاب. كانت معلوماته تشبه كلام أصدقاء أحمد. قال إن الرجل الذي عرفه في مخيم «كيويتسمور» للاجئين في حي «لانغنهورن» توقف عن الشرب والتدخين وكان يتكلم كثيراً عن الدين. حضّر ضابط الشرطة تقريراً عن الموضوع، واتّضح لاحقاً أن ذلك الرجل كان أحمد. لكن ذكر ضابط الشرطة اسماً مختلفاً في تقريره: أحمد الأحمد.

أُرسِل التقرير إلى «مكتب حماية الدولة» التابع لشرطة «هامبورغ». في البداية، لم يشتبه أحد هناك بأن القضية ترتبط بالتطرف الإسلامي. في مايو أو يونيو، قارن ضابط الشرطة الاسم المشبوه بأسماء سكان مخيم اللاجئين وأوصله تحقيقه إلى صبي في عمر السنة، لكن لم تكن المواصفات التي أعطاها الرجل متطابقة معه بأي شكل، ثم بقيت القضية عالقة ولم يحصل أي أمر مجدداً.

بعد أسابيع قليلة على عمليات الشرطة المثيرة للجدل خلال قمة مجموعة العشرين، يواجه رئيس بلدية «هامبورغ» أولاف شولز من الحزب الديمقراطي الاجتماعي اليساري الوسطي وإدارته انتقادات لاذعة مجدداً. لكن يسهل أن يعوّض عن سلسلة أخطائه وإهماله. حين زار مسؤول من «مكتب التحقيقات الجنائية» مخيم اللاجئين في «لانغنهورن» في شهر يونيو، لم يكن يعرف أي أمر عن التقرير الذي حضّره مركز الشرطة. كانت مهمة المسؤول في «مكتب التحقيقات الجنائية» تقضي بتدريب موظفين في المخيم كجزءٍ من برنامج التوعية حول النزعة الإسلامية. أخبر الموظفون المسؤول بأن أحد السكان كان طالب لجوء يتصرف بطريقة غريبة وأصبح متطرفاً بكل وضوح. كانوا يتكلمون عن أحمد أ.

أراد المسؤول من «مكتب التحقيقات الجنائية» أن يتكلم مع أحمد فوراً، فسأله إذا كان يستطيع تقديم معلومات عن المشهد الإسلامي في «هامبورغ». لم يكن أحمد متعاوناً وفشلت محاولة استعمال اللاجئين كمصادر للمعلومات. من الواضح أن تلك المحادثة لم تكن تتعلق بتطرف الرجل الفلسطيني ومشاكله الشخصية، وتمّ تجاهل القضية مجدداً.

لم يبدأ أحد بالتركيز على القضية إلا بعد إرسال ملفها إلى «مكتب ولاية هامبورغ لحماية الدستور» (وكالة استخبارية محلية تراقب مظاهر التطرف المحتملة) في أواخر أغسطس، أي بعد خمسة أشهر تقريباً على وصول البلاغ إلى مركز الشرطة.

عثر موظف في المكتب الحكومي على اسم أحمد فيما كان يدقق بأسماء طالبي اللجوء في المخيم. ثم طُلِب من الشاهد الأصلي الذي جاء في فصل الربيع أن يحضر لإجراء محادثة أخرى. فأكد صحة الاسم وقال إن أحمد أ. سأله عن أفضل طريقة للذهاب إلى سورية. ربما أراد المشتبه به أن ينضم إلى «الدولة الإسلامية». بناء عليه، اتصل «مكتب حماية الدستور» بسلك الشرطة الاتحادي للمطالبة باعتقال أحمد على الحدود. لكنه لم يغادر البلاد.

وُجِّهت إليه اتهامات بالتطرف الإسلامي خلال موعده اللاحق في دائرة تسجيل الأجانب. كاد أحمد يبكي مصرّاً على أنه شخص مسالم. لكنه بدا مصاباً باضطراب عاطفي وكانت تعابير وجهه وحركاته لافتة. أشار وضعه إلى شخصية غير متزنة عاطفياً، وهو لم يقابل أي عالِم نفسي أو طبيب نفسي يوماً، لا في خريف عام 2016، حين بدا أكثر اضطراباً من السابق، ولا في أي تاريخ لاحق.

مشكلة شائعة

هذه المشكلة ليست غريبة على أيريس هوث من «جمعية الطب النفسي والعلاج النفسي». إنها الطبيبة المسؤولة في مستشفى نفسي في مقاطعة «بانكو» في برلين. تشمل المقاطعة نحو 5 آلاف لاجئ وقد دخل ثمانون منهم إلى المستشفى في السنة الماضية، وكانوا يواجهون أعراضاً تشير إلى إصابتهم بأزمة عاطفية حادة. تقول الدكتورة هوث إن العدد نفسه تسجّل خلال أول ستة أشهر من السنة. بحسب رأيها، يجب أن يتعلق الهدف الأساسي بالتدخل في مرحلة أبكر بكثير، لكن لا يزال ذلك بعيد المنال، لأن مستشارين كثيرين يفتقرون إلى المعارف اللازمة.

لمواجهة المشكلة، أصدرت «جمعية الطب النفسي والعلاج النفسي» دراسة في مارس 2016 اقترحت فيها اختبار طالبي اللجوء بحثاً عن أية اضطرابات نفسية لديهم خلال فحص طبي أولي ودعت إلى تدريب الموظفين في المخيمات والمراكز الاستشارية. تتحدث هوث عن وجود مفاهيم طموحة في البداية، لكن سرعان ما تلاشت الحماسة ولم يُنفَّذ إلا عدد صغير من تلك الطموحات. كما يحدث في معظم الحالات، لم تحصل الخطة على التمويل الكافي في نهاية المطاف.

في نوفمبر 2016، ازدادت المؤشرات على تطرف أحمد. وصلت معلومة من موظف في أحد مقاهي اللاجئين في جامعة في «هامبورغ» إلى السلطات الأمنية. قال إنه شاهده في المقهى في مناسبات متكررة. في أحد الأيام، حضر أحمد وهو يرتدي جلباباً، وقيل إنه هدّد قائلاً: «سيصل الإرهاب إلى هذا المكان أيضاً». بدا سلوكه غريباً في مخيم اللاجئين أيضاً، فكان يطرق أبواب السكان الآخرين ليلاً ويصرخ «الله أكبر»!

لكن من كان يستطيع التكلم معه إذا كان المستشارون المحترفون عاجزين عن التواصل معه؟ تكثفت النقاشات في أواخر عام 2016 وبداية عام 2017 لكن لم تصدر قرارات مهمة. نتيجةً لذلك، بقي أحمد على حاله وبدأ ينجرف نحو التطرف بدرجة إضافية.

جمع «مكتب حماية الدستور» حوادث فردية وكتب تقريراً عنها. تصف الوثيقة تغيراً في شخصية أحمد الذي كان يبلغ 25 عاماً حينها، وأوصى المعدّون بالاستعانة بالخدمات النفسية الاجتماعية في المدينة لتقييم وضعه.

لكن لم يحصل ذلك يوماً. أصبح السبب الذي منع «مكتب التحقيقات الجنائية» من تطبيق توصيات «مكتب حماية الدستور» محطّ تحقيقات داخلية راهناً. في ربيع عام 2017، أوصى مدير موقع طالبي اللجوء والموظف في «ليغاتو» أيضاً بالاستعانة بخبراء من الدائرة النفسية الاجتماعية.

لكن شعر المسؤول عن القضية في «مكتب التحقيقات الجنائية» على ما يبدو بعدم الحاجة إلى تلك الخطوة. بناءً على تقييمه الخاص، يجب ألا تتدخل تلك الدائرة إلا إذا تبين أن هذا اللاجئ يطرح تهديداً صريحاً على نفسه أو على الآخرين. لا يمكن التأكيد أنه كان ليستفيد من الاستشارة النفسية ويستعيد توازنه ويمتنع عن طعن الناس. لكن تقول معالِجة الصدمات كورنيليا ريهير إن عدم اتخاذ أية خطوة كان أسوأ خيار على الإطلاق. ترأس ريهير جمعية «سيغيمي إي في» التي تدافع عن تحسين التوصيات الخاصة باللاجئين في «هامبورغ». يميل معظم اللاجئين الذين يحتاجون إلى استشارة نفسية إلى الإصابة بالاكتئاب والقلق لكنهم ليسوا عدائيين. حين يصبح الشخص متطرفاً، تقول ريهير إنه يفقد اهتمامه بالعلاج. في تلك المرحلة، يفوت الأوان على التدخل.

منحى قاتل

إرهابي أم قاتل مريض نفسياً أم الاثنان معاً؟ أدت الاعتداءات في «أنسبش» و«فورتسبورغ» و«ميونيخ» في السنة الماضية إلى انتشار أسئلة حول طريقة تفاعل المجتمع مع هذا النوع من المجرمين. اكتشف خبير الوقاية في برلين، أحمد منصور، خلال عمله مع شبان وشابات متطرفين أن الأزمات النفسية تزيد ميلهم إلى تقبّل الأفكار الإسلامية المتطرفة.

يتحدث منصور عن وجود جوانب استثنائية في الاستشارة النفسية للاجئين الذين يواجهون صدمات الحرب ويهربون من مناطق غارقة في الحروب ويشعرون بالاضطراب في مكان بعيد عن وطنهم حيث يسمعون لغة أجنبية ويضطرون إلى العيش وسط حشود هائلة في مخيمات اللاجئين. ربما تكون هذه المعطيات كلها كفيلة بنشر التطرف لدى نسبة صغيرة من اللاجئين.

سيقيّم خبير نفسي على الأرجح درجة الاضطراب النفسي لدى أحمد كجزءٍ من محاكمة جنائية. بعد اعتقاله، تردّد مكتب المدعي العام الاتحادي في البداية في استلام القضية. لم تتضح مدى الحاجة إلى إصدار مذكرة توقيف في حق المعتدي أو ضرورة إدخاله إلى القسم الجنائي في مستشفى للأمراض النفسية.

صحيح أن الموظفين في «مكتب تسجيل الأجانب» لاحظوا أن أحمد كان متوتراً لكنهم شعروا بأنه بقي مهذباً ومتعاوناً حتى الفترة الأخيرة، وفوجئوا حين علموا أنه قال إنه سيعود إلى غزة طوعاً بعد رفض طلب اللجوء الذي قدّمه. تكلم مع والدته عبر الهاتف قبل يوم من الاعتداء، وهي قالت لصحيفة «دير شبيغل»: «أراد أحمد أن يعود!».

يكون احتمال ترحيل الفلسطينيين من دون جوازات سفر بالقوة ضئيلاً غالباً. لم يُطبَّق هذا الإجراء ولو مرة هذه السنة، أو في السنة السابقة. كان مفاجئاً أيضاً أن يقول أحمد أ. إنه كان يتواصل أصلاً مع البعثة الدبلوماسية الفلسطينية. بعد فترة قصيرة، سافر إلى برلين وجلب الصور من أجل وثائق استبدال جواز سفره. اتصل به الفلسطينيون لاحقاً كي يخبروه بأن الأمور كافة بخير، لكن لم يكن حجم الصور صحيحاً. سافر بعد ذلك إلى برلين للمرة الثانية لتسليم الصور الجديدة، وأخبره الفلسطينيون لاحقاً أن وثائقه ستكون جاهزة بحلول هذا الصيف.

هذا ما يبرر عدم إقدام أحد في «هامبورغ» على المطالبة بترحيل أحمد. في ظل هذه الظروف، ما كان أي قاضٍ ليوافق على طلب مماثل. لذا اعتُبِرت قضيته مغلقة. بالنسبة إلى المسؤولين المشاركين في القضية، كان هذا اللاجئ يوشك على العودة إلى غزة.

حصل أحمد على موعد مع مكتب تسجيل الأجانب. أراد أن يسأل عن مسار قضيته. قال إنه كان ليطلب من والده أن يرسل له جواز سفره إذا واجه مشاكل في أوراقه. بدا هادئاً حينها. في الساعة الثالثة وعشر دقائق من بعد الظهر، أخذ سكين مطبخ من أحد الرفوف في متجر «إيديكا» في «هامبورغ» ومزّق الغلاف. كان أحد المتدربين يرتّب أكياس الأرز حين سمع ضجة صاخبة في الممر المجاور، فظن أن العملاء يتشاجرون وركض إلى هناك لحل المشكلة.

حين وصل المتدرب إلى الممر المجاور، شاهد رجلاً نظراته جنونية يحمل سكيناً بيده على بُعد مترين منه، فاستدار وهرب واختبأ في حمّام الموظفين. شاهد موظف آخر يعمل في قسم بيع اللحوم أحمد وهو يقترب من عميل آخر ويطعنه في صدره بلا تردد. سقط الرجل البالغ من العمر خمسين عاماً على الأرض فوراً، ولم يمت في البداية لكنه عاد وتوفي متأثراً بجروحه البالغة. هرب أحمد إلى الخارج وكان يصرخ وبدا حانقاً. راح يطعن المارّة خارج المتجر إلى أن نجح شبّان في إيقافه مستعملين الكراسي والأحجار والعصي. مثله، كان معظمهم المهاجرين، وباتوا يُعرَفون اليوم بـ«أبطال بارمبيك».

قال أحمد عند استجوابه إنه أراد أن يموت «شهيداً». لم يتمكّن المحققون من التأكد من تواصله مع «الدولة الإسلامية» أو أية منظمة إرهابية أخرى، ولم تعلن «الدولة الإسلامية» مسؤوليتها عن الهجوم كما تفعل في ظروف مماثلة. لكن أصرّ أحمد خلال جلسة الاستجواب على أنه إرهابي. حين فتّش المحققون غرفته في مخيم اللاجئين، وجدوا في خزانته صورة رسمها لنفسه وعليها ختم النبي بما يشبه الصور التي تستعملها «الدولة الإسلامية». وجدوا أيضاً آثاراً للحشيش المخدِّر في دمه.

قال عند استجوابه إنه أراد أن يموت «شهيداً»

المحققون وجدوا آثاراً للحشيش المخدِّر في دمه
back to top