Detroit... فصل مريع من تاريخ الولايات المتحدة

نشر في 15-08-2017
آخر تحديث 15-08-2017 | 00:04
مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
نحو بداية Detroit (ديترويت)، هذا الفيلم الجديد القوي، والمؤثر، والضروري بالكامل لكاثرين بيغلو، ونهايته، يرفع مغنٍّ شاب يعمل في شركة «موتاون» ويُدعى لاري ريد (يؤدي دوره ألجي سميث بتميّز) رأسه ويصدح بصوته نحو السماء بانطلاق ينشرح له القلب. يغني أولاً للحب على مسرح ضخم، وينشد أخيراً للسلام في كنيسة صغيرة. وفي المرتين، يحملك صوته عالياً ويقدّم لك لمحة نادرة عن البهجة في فيلم تطغى عليه البشاعة البشرية، وتدور أحداثه في عالم تشعر فيه بأن السلام والحب بعيدان بعد العدالة نفسها.
إذا شعرت بأن مشاهدة «ديترويت» أكثر صعوبة بوحشيته العنيفة المتقلبة، فربما يعود ذلك إلى أن ساحة الحرب الخاصة فيه تبدو قريبة منك كثيراً، وإن دارت أحداث الفيلم قبل 50 سنة. أو ربما يرجع شعورك هذا إلى أن كاثرين بيغلو وكاتب السيناريو مارك بوال، الذي اتسمت أفلامه الأكثر شهرة بنوع من البعد العقائدي، تخليا بوضوح عن أي حياد هنا. صحيح أنهما واجها بعض الادعاءات بالتحيز مع The Hurt Locker وكثيراً من الانتقاد الخاطئ لوصفهما التعذيب الحكومي في Zero Dark Thirty، ولكن مع «ديترويت» يقدّمان صورة يُعتبر صداها السياسي في عهد حركة «حياة السود مهمة» قوياً وجلياً.

صحيح أن عنوانه يوحي برؤية شاملة، إلا أن «ديترويت» لا يركّز على وصف فوضى حالة الشغب اليومية بل على تذكّر أحد فصولها الأكثر سوداوية: المواجهة العنيفة التي وقعت بين قوى الأمن ومدنيين عُزّل وحوّلت في ليل 25-26 يوليو مؤسسة محلية تُدعى «نزل Algiers» إلى موقع مجزرة.

قبل الفجر، كانت الشرطة قتلت ثلاثة مراهقين غير مسلحين، هم كارل كوبر، وأوبري بولارد، وفريد تيمبل، في موجة من الرعب والحيرة حاول جون هيرسي توضيحها بعد بحوث مطوّلة في كتابه The Algiers Motel Incident (حادثة نزل Algiers).

صحيح أن معدي «ديترويت» يقرون بمقدار معين من التدخّل الفني في تصوير الأحداث المعنية، إلا أن بوال أجرى مقابلاته الخاصة مع عشرات من المشاركين الناجين منها، ثم حوّلها إلى رواية صريحة مؤثرة بقوتها وخشونتها تحاول قدر المستطاع التمهيد لدخولنا إلى ذلك الجحيم.

تعرض بيغلو المشاهد على الأرض بإلحاح واضح، متنقلةً بسرعة بين لمحات من التغطية الإخبارية وإعادة ابتكارها التاريخية الدقيقة لمجتمعات مدينة ديترويت التي كانت ترزح تحت ثقل الفصل العنصري. فنرى اشتعال الشرارة في 23 يوليو عام 1967 حين تقتحم الشرطة حانة غير مشروعة ما زالت تعمل بعد الوقت المسموح به، وتطرد أصحابها السود إلى الشارع، ما يستقطب حشداً غاضباً ويطلق أولى موجات العنف.

حتى خلال إرسائها الإطار العام (خطوة تحققها بالاستعانة بمقدمة حيوية تفصّل عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الذي أبقى الأميركيين السود في المدن في حالة صراع دائمة)، تعرب بيغلو عن احترام غير اعتيادي لذكاء المشاهدين. فلا تشدِّد على مناورات مثيري الشغب أو منطقهم، وتسمح لمَشاهد الفيلم بالتحدث عن نفسها. ولا شك في أن تلك الصور المخيفة للدخان المتصاعد من المباني، واجهات المحال المحطمة، والشوارع المقفلة، والحشود المهتاجة الغاضبة تشكّل مذكراً بصرياً مناسباً بأن أعمال الشعب «لغة مَن لا يُسمع صوتهم»، وفق القس مارتن لوثر كينغ.

تتفاقم أعمال الشغب ويُستدعى الحرس الوطني، إلا أن الفيلم ينغمس في معمعة النشاط البشري المتواصل على الهامش، خصوصاً بين غير المشاركين الذين يجدون نفسهم عالقين في تداعيات أعمال الشغب.

يؤدي ويل بولتر دور شرطي شاب من ديترويت مقتبساً من شخصية حقيقة، إلا أن معدي الفيلم يبدلون اسمه إلى كروس. يقدّم بولتر هذه الشخصية بحدة عنيفة عنيدة تكاد تكون هزلية. كروس سادي بكل معنى الكلمة. إنه إنسان لا يعتبر أعمال الشغب أزمة بل يراها فرصةً وعذراً لمعاملة كل شخص أسود كمذنب حتى تثبت براءته. لكن الفيلم يحرص على التأكيد أن كروس وصديقيه الشرطيين الأقل عنفاً (بن أوتول وجاك رينور) لا يمثلون كامل مركز الشرطة. إلا أنه يوضح أيضاً ألا أهمية لهذه النقطة في نظام قائم على استخفاف تلقائي شامل بحياة السود.

يتضح أن هذا النظام أكثر قسوة في التعاطي مع مَن يحاولون نشر السلام أمثال مالفين ديسموكس (جون بويغا)، حارس أسود يحاول التخفيف من التوتر في الجانبين، فينتهي به المطاف إلى التعرّض للإساءة والاستغلال. تتقن بيغلو بمهارة تصوير التفاصيل البشرية العابرة: فيضاهي القلق الشديد البادي على وجه مالفين الرعب الذي يعلو وجه جولي والهدوء اللامبالي لجندي سابق شارك في حرب فيتنام (أنتوني ماكي)، يقيم في النزل، ويؤدي اهتمامه الجنسي المفترض بالنساء البيضاوات إلى تأجيج ميول رجال الشرطة العرقية الأكثر سوءاً.

من المستحيل ألا تشعر بموجة كبيرة من الراحة مع بلوغك الفصل الثالث وانتهاء كابوس نزل Algiers، بيد أن هذا الكابوس لا ينتهي. فقد تحسّ باستياء عارم من مجريات المحاكمة في الفيلم، فضلاً عن أسلوبه المنظم الفضفاض في إظهار أن التاريخ لا يتخلى مطلقاً عن نمطه اللامتناهي الذي يزيد الظلم ظلماً. صحيح أن التوتر في «ديترويت» يتراجع في تلك اللحظات الأخيرة، إلا أن التعاطف والغضب العارمين يستمران.

كاثرين بيغلو تتقن بمهارة تصوير التفاصيل البشرية العابرة
back to top