روح المكان الملهم

نشر في 04-08-2017
آخر تحديث 04-08-2017 | 00:07
يمزق الكاتب الورقة تلو الأخرى مراتٍ كثيرة، ويفعل هذا الموسيقار حين يكتب لحناً في «نوتة»، ويصل الأمر إلى أن نجد الرسام يمزق لوحته التي لم تقبل كل محاولاته للوصول إلى مراده منها، ويلقي الألوان من يديه ويصمت صاغراً أمام جبروت الحس العالي الذي يأبى أن يتشكل في اللحظة.
 عبدالهادي شلا يحتاج المبدع في كثير من حالاته المتقلبة التي لا تنتهي بحثاً عن موضوع يضيفه لرصيده ويعلي من شأنه عند المتلقي إلى بحث قد يكون مضنياً في أغلب حالاته.

قلق المبدع، ونحن هنا نستخدم كلمة "مبدع"، لتشمل كل أنواع العطاء من كتابة وفنون وأسلوب حياة مبتكر بشكل عام قد يستمر أياماً أو يقصر ساعات لا يستغني فيها عن استحضار إبداعات من سبقوه تفادياً للتقليد أو الإعادة التي لا تثري عمله.

في كثير من الأحيان، تستعصي الفكرة التي تلح في داخل المبدع على الخروج بالشكل الذي يريد، فيضطر مرات عديدة إلى إعادة الصياغة لاهثاً وراءها ينشد ابتكاراً غير مألوف أو مقتبس.

يمزق الكاتب الورقة تلو الأخرى مراتٍ كثيرة، ويفعل هذا الموسيقار حين يكتب لحنا في "نوتة"، ويصل الأمر إلى أكثر من هذا لنجد الرسام يمزق لوحته التي لم تقبل كل محاولاته في الوصول إلى قناعته التي تلبي مراده منها، ويلقي الألوان من يديه ويصمت صاغراً أمام جبروت الحس العالي الذي يأبى أن يتشكل في اللحظة.

مواقف لا يشعر بجبروتها سوى المبدعين الذين يبحثون عن القيم السامية، وقلما نجدها عند العابرين دروب الإبداع مصادفة يلاحقون وهماً زرعته أوهام شيطانية في مناخ ملائم!

قرأنا الكثير عن طريقة البحث عند كبار المبدعين وكان لبعضهم مكان يذهب إليه يستريح فيه بحثاً عن الحلول والإجابات عن الأسئلة التي لا تهدأ إلى أن تثيره حركة أو يسمع كلمة من أحد المارة أو الجالسين بجواره تكون كلمة السر التي تفتح له الأبواب المغلقة.

صار الدخول إلى عالم محرك البحث الإلكتروني طريقة حديثة أصبح الجميع يتقنها، بما توفره من وقت كان المبدع قبل ذلك يقضيه بحثاً عما يفيده في الكتب والمقالات وغيرها، مما كان يتناقله الناس، وقد لا يوفق في الوصول إلى ما يريد، فوجد ما يفيده في هذا الاختراع الحديث، وبأقل وقت، حيث يمكنه التنقل بين العديد من الأماكن ليتخير الأنسب.

كما أن المبدع يجدّ في البحث فيتخير المكان الذي يرتاح إليه ليفرغ ما في جعبته، فقصة "الشيخ والبحر" للكاتب الأميركي إرنست همنغوي كتبها في مدينة هافانا الكوبية عام 1951 إلى جانب "وداعاً للسلاح" و"ثلوج كلمنجارو" على سبيل المثال، والكاتب المصري الحائز جائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ حينما كتب الثلاثية الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" كان لمقهى الفيشاوي بحي خان الخليلي نصيب منها، حيث شهد هذا المقهى الكثير من المسودات الأولى لرواياته، وكان بمثابة فضاء حي يلتقي فيه أصدقاءه ومحبيه من الكتاب والفنانين وبسطاء الناس.

ويحكى أن أمير الشعراء أحمد شوقي كتب أبياتاً من الشعر وهو راكب في "الحنطور" على علبة سجائره حين جاءه الإلهام. الفنان "بول جوجان" ترك باريس وأسرته وهاجر إلى تاهيتي بحثاً عن جديد يرسمه، فكانت تلك الأعمال الخالدة التي تنافست عليها متاحف العالم وأصحاب الذوق الرفيع وبلغ ثمنها أرقاما خيالية.

في لوحة "الجرنيكا" التي رسمها بابلو بيكاسو، تجد تصويراً قاسياً لويلات الحرب ونتائجها وهي حالة إنسانية تتكرر على مر الزمان، ومن هنا جاءت قيمتها وأصبحت نموذجاً للتعبير عن بشاعة الحروب ونتائجها، وقد احتفظت الذاكرة بأعمال أخرى للفنان أوجين ديلاكروا الذي صور الحرب الأهلية الإسبانية في مرحلتها السوداء، وغيرهم الكثير من الأدباء الذين كتبوا الروايات والقصص المهمة.

وفيما وصلنا من الشعراء الكثير جداً مما حمل قيماً رفيعة صارت حِكماً مازالت تتردد بين الناس ومن أكثر من لغة.

ليس للإبداع مكان ولا زمان، فهو مثل الريح المرسلة تهب ولا تهدأ حتى تتفتح صورها الجميلة، والذي تحتفظ به ذاكرة المجتمع، فهو العمل الإنساني الشامل الأقدر على الصمود.

back to top