ملحمة شعب عظيم... وقضية أعظم

نشر في 30-07-2017
آخر تحديث 30-07-2017 | 00:08
الخميس الماضي بعد صلاة العشاء في الأقصى، التقينا بطفل لم يتجاوز عمره تسعة أعوام، اعتقله الإسرائيليون منذ ساعات الصباح حتى المساء، بتهمة رشق الحجارة، لم أره خائفاً أو وجلاً، بل كان يبتسم وفي عينه بريق الفخر، ومن حقه، ومن حق أهل القدس، ومن حقنا أن نفتخر؛ فما قُدِّم في هذه الأيام الأربعة عشر غدا نموذجاً يحتذى في المقاومة الشعبية.
 مصطفى البرغوثي ما عشناه يوم الخميس الماضي في القدس والمسجد الأقصى ومحيطه، كان ملحمة إنسانية، دينية، وطنية وتاريخية. رأينا الإرادة الشعبية التي صنعت انتصار الأقصى في أبهى صورها، ورأينا المقاومة الشعبية تُمارَس، وتكافِح، وتنتصر، بأسلوب نموذجي يحتذى به.

فبعد أربعة عشر يوما من انتفاضة القدس الشعبية كُسِر نتنياهو وحكومته أمام إرادة المقدسيين واضطر أن يسحب ويزيل بواباته الإلكترونية وكاميراته، وممراته الحديدية، وأقواسه التجسسية.

وعندما أعلنت المرجعيات الدينية والوطنية دخول الأقصى في موعد صلاة العصر، قام الاحتلال بمناورته الأخيرة بإغلاق باب حطة، فهب الآلاف رافضين الدخول حتى يفتح الباب، وقبل موعد الصلاة بدقيقتين اضطر الاحتلال تحت الضغط الشعبي إلى فتح الباب.

ومع ذلك، وأثناء دخولنا إلى الأقصى عبر ممر باب حطة بدأ الجيش بإلقاء القنابل الصوتية بكثافة، وأطلق جنوده الرصاص المعدني فجرح كثيرون ولكننا وصلنا، وأقيمت الصلاة في الأقصى لأول مرة منذ أربعة عشر يوما.

وبعد صلاة العصر عاد جنود الاحتلال إلى محاولة تدنيس المسجد الأقصى ونزع علم فلسطين فاشتبك معهم المصلون، وانتهى الأمر بأكثر من مئة جريح ومصاب.

ومع ذلك بقينا في الأقصى، وأقيمت صلاة المغرب وصلاة العشاء بحضور عشرات الآلاف، واعتصم آلاف الشبان والشابات ممن مُنِعوا من الدخول، مرة أخرى، وتحدوا قوات الاحتلال في باب الأسباط وباب حطة.

رأيت في عيادة المسجد الأقصى شباناً مقدسيين بواسل مصابين بكسور وجروح، وعالجنا شبابا من الضفة الغربية تسلقوا الأسوار وتدلوا بالحبال حتى يصلوا إلى الأقصى، وجاءوا بجروح عميقة في كفوف أيديهم نتيجة استعمال الحبال في التسلق والهبوط، شاهدنا شيوخا يبكون فرحا بالعودة إلى الأقصى، ونساء باسلات وقفن في وجه جنود الاحتلال، وأطفالاً شاركوا أهلهم رحلة الوصول إلى الأقصى.

وفي آخر الليل، بعد صلاة العشاء، التقينا بطفل لم يتجاوز عمره التسعة أعوام اعتقله الإسرائيليون منذ ساعات الصباح حتى المساء، بتهمة رشق الحجارة، لم أره خائفاً أو وجلاً، بل كان يبتسم وفي عينه بريق الفخر، ومن حقه، ومن حق أهل القدس، ومن حقنا أن نفتخر؛ فما قدم في هذه الأيام الأربعة عشر غدا نموذجاً يحتذى في المقاومة الشعبية.

وما حققه المصلون والمتظاهرون من وحدة ميدانية، ووحدة في القرار والإرادة، كان نموذجاً يجب أن يستفيد منه كل من يحرص على إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، وما صنعه الفلسطينيون من تضامن فاق كل خيال؛ لم تخل ساحات الصلاة والاعتصام لحظة من المتبرعين بزجاجات المياه، وحاملي الطعام للمعتصمين، وموزعي الحلوى من كل صنف، وكله من أهل المدينة الذين لم ينتظروا تبرعاً أو تمويلاً من أحد، بل أصابوا جنود الاحتلال بالذهول من حجم تكاتفهم وتضامنهم وكرمهم، كما لم ينتظروا قرارات أو إرشادات لما يجب أن يعملوه، بل انتزعوا زمام المبادرة بأيديهم وطبقوا المثل الشعبي "ما حك جلدك مثل ظفرك".

وعندما لجأ المحتلون في صلاة الجمعة إلى محاولة تجزئة المصلين بمنع الشباب المقدسيين، وعدد منا، من الدخول إلى الأقصى اتسع المسجد ليشمل كل مدينة القدس وتحولت شوارع القدس ومحيط الأقصى مرة أخرى إلى ميادين كفاح تعج بآلاف المصلين الذين أصروا، بنظام وانضباط مذهل، على إبقاء زمام المبادرة بأيديهم وأفشلوا استفزازات الاحتلال المتعطش للدم بعد هزيمته. وما إن اقترب المغرب حتى أجبر على فتح بوابات الأقصى ليدخل الجميع مهللين مكبرين. عندما طلب مني إلقاء كلمة في المسجد الأقصى بعد صلاة المغرب يوم الخميس، قلت، بعد شكر الله تعالى، الشكر أولاً للمقدسيين والمقدسيات الذين قبضوا على الجمر وصمدوا وانتصروا، ولم ينتظروا أحدا، بل اندفعوا إلى المواجهة بكل قوة.

والشكر ثانياً لرجال الدين المسلمين الأفاضل الذين قدموا مرجعية وطنية ودينية، فحققوا وحدة العمل والكفاح، وكانوا قدوة في تقدم الصفوف، ويشمل ذلك رجال الدين المسيحيين الذين وقفوا إلى جانب إخوتهم المسلمين في السراء والضراء.

والشكر لأهلنا وأبناء شعبنا في الداخل الذين هبوا لمساندة الأقصى والقدس، ولكل من استطاع من أهل الضفة اجتياز الحواجز، والجدران، ووصل إلى نصرة القدس والأقصى، ولكل أبناء الشعب الفلسطيني الذين انتفضوا في الضفة وغزة، فواجهوا المحتلين مقدمين الإسناد إلى أهلهم في القدس، وللصحافيين والإعلاميين الذين استبسلوا في نقل ملحمة النضال الشعبي إلى العالم، وأصيب العديد منهم بالرصاص والقنابل الصوتية والضرب، وللأطباء والمسعفين البواسل الذين خاطروا بحياتهم وهم يسعفون الجرحى والمصابين.

والخلاصة أن نموذج الأقصى والقدس كان خير تجسيد للمقاومة الشعبية التي طالما سعينا إليها، وأظهر قوة الشعب عندما تفعل.

ولعل ذلك يقنع الجميع بضرورة تبني استراتيجية ونهج جديد يبتعد عن تكرار ما فشل، ويركز على تغيير ميزان القوى بالمقاومة والكفاح الشعبي، وبالمقاطعة وفرض العقوبات، وبالوحدة ودرء الانقسامات، وبتعزيز صمود الفلسطينيين على أرض وطنهم، وإعادة بناء التكامل بين مكونات الشعب الفلسطيني.

لكن انتصار القدس والأقصى هو فصل مجيد، في معركة أكبر، مازالت مستمرة للخلاص من الاحتلال كله، وللتحرر من منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري، ولتحقيق الحرية المنشودة لكل الفلسطينيين... هذه ملحمة القدس وتلك رسالتها.

* الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية

back to top