حبر و ورق ...

نشر في 29-07-2017
آخر تحديث 29-07-2017 | 00:02
No Image Caption
الأوليمبوس

الستارة تسدل بتأنٍّ شديد..

المسرح يغرق في بحرٍ من الدموع، الجمهور صاخباً:

لا. قفوا.

أعيدوا العرض مرّةً أخرى.

سندفع ثمن تذكرةٍ جديدة.

يهتفون معاً:

هيا، هيا، عودوا، عودوا.

يصمتون، ييأسون من تكرار العرض، يقفون مصفّقين مترقّبين خروج الممثلين تدريجياً بحسب الدور المؤدّى... ولكن من سيخرج أولاً؟ ومن سيخرج أخيراً؟

من كان البطل؟

يستمرون في التصفيق وإطلاق صافرات الإعجاب، لكن لا أحد!

أتراهم كانوا يحلمون؟ أم أن الممثلين أشباح أدَّوا أدوارهم وتلاشوا؟ عرضٌ كهذا لا يؤديه سوى أشباح.

بدأ القلق يتسلل إليهم منسلاًّ من فمٍ إلى أذن.

ارتجّ المسرح بشكلٍ مفاجئ، ذعروا، بلغت القلوب الحناجر، دخلوا في غيبوبةٍ مؤقتة، ربما دائمة!

عادت الموسيقى، كموجة بحرٍ متمردة على السكون، تُجاهد وتُجاهد لتحافظ على حياة البحر بين المد والجزر، تهادت نحو أسماعهم، دغدغتهم، استيقظوا تباعاً، صعدوا خشبة المسرح وبدأ الفصل الأخير.

تُرى كيف يستطيعون كتابة مثل هذه الروعة؟!

تساءل وهو يغلق الكتاب الذي حمله إلى نهايات الجمال، وبدايات الأحلام... اقترب، وضع أذنه فوق الغلاف، علّه يسمع صوتاً يفشي له هذا السر.

ينقص الكتاب الرائع خروج أبطاله إلى الحياة!

ترى من هو الأهم، الكاتب أم أبطاله الذين يُبدعهم خياله؟

سؤالٌ صعب، همس لنفسه باسماً.

هيا يا صديقي لنحاول، لو تحنو عليّ ولو مرّة. حدّث القلم وهو يخرجه من علبة الإلهام، كما يسميها.

وضعه أسفل فكّه وسهم باحثاً عن شيءٍ يخطه فوق الدفتر الذي يأمل أن يتحول... إلى شيءٍ يُقرأ. أغمض عينيه علّه يظفر بشحيح خيال، فلم يحظَ بنزر يسير منه، تنهّد، شهق وزفر، ثمّ أعاد القلم إلى علبة الأغلال كما يسميها حين يفشل في الكتابة.

أخرج حاسوبه المحمول من حقيبته، فتح صفحته على الفيسبوك، أطرق قليلاً محاولاً كتابة شيءٍ يحصد عدداً من الإعجابات والتعليقات، تعطيه دفعةً معنوية للحفاظ على أمله في تطوير كتابته لاحقاً.

منبّه الإشعارات يشير إلى وجود 15 إشعاراً: عشرة إعجابات بمنشورٍ قديم، طلبا صداقة، وثلاث رسائل. فتح صندوق الرسائل؛ بشرى، تسنيم، جميل. قرأ رسالة بشرى: «على فكرة صورة بروفايلك الشخصية الجديدة بتاخد العئل» رد على طريقة الكتّاب: «هذا بعضٌ من جمالٍ تصوّبه عيناك عليّ فأغدو جميلاً»، جاء الدور على تسنيم: «بوستك الأخير كتير عميق، قرأته عشرين مرة مش معئول قدرتك على التعبير فاتنة» رد على طريقة تعامل الكاتب مع معجبيه: «سيدتي فائقة الذوق، مثل هذه المنشورات لا تكتب إلا لكِ، مع تقديري»، جميل: «ولك وين ها لغيبة يا أرنب، مستنينك في القهوة بدنا نبدأ باللعب»، تعجّل كتابة منشور ليلتحق بأصدقائه، وبعد شدّ وجذب، خطّ..

(لا تتخلَّ عن حلمك مهما كان الثمن، إن لم تقاوم إغراءات الحياة فلن تنجح في الوصول).

أطفأ الجهاز وخرج.

مسرحية هُبَل

الفصل الأول

المشهد الأول

يجري إعداد المسرح للعرض التجريبي الأول، يثبّت جميل الستارة ويختبر كفاءتها، راجح يتكفّل بمفاتيح الإنارة وأجهزتها، عاصم ينبري للصوتيات، غادة تخطط الديكور، حلا تتمرّن على السيناريو الخاص بها.

نسيم (يدخل حاملاً وجبات الغداء، يعتلي المسرح، يصافح عاصماً، ينتزع أحد الميكروفونات وينادي بطريقته الساخرة كعادته): هيا يا أصدقاء ها قد أتى مُطعمكم، لا أعرف كيف ستبلون من دوني، هيا بسرعة وليحضر كل واحد منكم سبعة دنانير ثمن وجبته.

يعتلون المسرح تباعاً مبتسمين وكأنهم نالوا تكريماً على تعبهم.

جميل: تبّاً، سبعة دنانير ثمن وجبة غداء!

راجح (تفوح منه رائحة الكولونيا، يخرج هاتفه، يجري عملية حسابية): يا إلهي! أتصدقون أن مجموع ثمن الغداء يبلغ...

حلا (تسبقه): 42 ديناراً.

جميل: غدائي مع أسرتي وجيراني لا يكلّف 42 ديناراً.

راجح: يلزمنا أن نحيا بعلاً كي نقوى على الاستمرار.

جميل: ربما علينا إحضار ساندويتشات بيتيّة فذلك أوفر وصحّي أكثر.

غادة: هيا لنأكل، ما دمنا سندفع سندفع، فلنأكل.

نسيم (برقة واضحة): صحتين وعافية، أتمنى لو أستحيل طعاماً يستقرّ في قلبك، أقصد في معدتك.

يقهقه الجميع.

حلا (تزيل الأغلفة عن الأطباق، تتمتم): ليتَ اسمي غادة.

يتحلّقون حول الطعام وسط جوٍّ ضبابي المشاعر.

نسيم (يمسك قطعةً من البيتزا الخاصة به ويضعها في طبق غادة): هذه القطعة حقك، بقيَ لك في ذمتي نصف دينار، أعطيتني على ما أذكر سبعة دنانير ونصف.

غادة (تبتسم ووجنتاها تتوردان كجورية في فورة عطائها): الحقيقة دينار ونصف.

راجح (يمضغ قطعة من الدجاجة): هذا يعني أنه بقيَ لها قطعتان، ولي في ذمتها نصف دينار، أعطني قطعةً وأسامحها.

حلا (تزدرد قضمة من ساندويتش الفاهيتا تتبعها بشرب القليل من البيبسي): تفضّل، كلْ معي.

عاصم (يحدجها بنظرةٍ صارمة لا يراها أحد): علينا أن نكمل بسرعة فما زال ينتظرنا الكثير من العمل.

نسيم: يا رجل العمر يخلص والعمل لا يخلص.

حلا: تُرى كيف سيكون العرض الأول؟

جميل: كلما تذكرتُ أننا أخيراً سنقف على خشبة المسرح وأمام الجماهير، خفق قلبي بفرح غامر.

راجح: أتصدقون أننا أمضينا أكثر من عشرين سنة ونحن نستعد لهذه اللحظة؟!

غادة: ولكن، هل من الممكن أن تترك هذه المسرحية أثراً في مجتمعنا؟

نسيم: علينا أن نعمل ما بوسعنا، فأن نؤثّر بإنسان واحد خيرٌ من الجلوس على رصيف هامش الحياة.

عاصم (ينهي طعامه وينهض قافلاً إلى عمله): علينا أن نسرع فلم يتبقَّ على العرض سوى ثلاثة أيام.

راجح: بل يومان ونصف.

يضحكون

عاصم (يشعر بالحرج وكأنه تعرّض لسخريةٍ مشينة): هلموا نكمل بدلاً من الكلام الفارغ الذي تتفوّهون به.

يتجاهلون سخريته، يكملون طعامهم، يتمدد نسيم على ظهره، يقلّدونه، أصبحوا كأنهم قرص زهرة عباد الشمس، يحدقون إلى السقف.

جميل: يُهيأ لي أن المسرح يجب أن يكون بلا سقف.

راجح: حتى الأرض لها سقف، لا يمكن لشيء أن يكون بلا...

غادة: ولكن بعض الأشياء يجب ألاّ تكون لها أسقف.

حلا: مثل؟

جميل: مثلك.

حلا (تتململ بحركة تنم عن السرور): ماذا تقصد؟

راجح: يقصد أن الإنسان يجب ألاّ يضع لنفسه حدوداً يقف عندها، الإنسان يجب أن يكون بلا حدود.

نسيم: الإعلام والمسرح والكتب والروايات يجب أن تكون بلا أسقف.

راجح: إياك أن تتحدث أمام الغرباء بهذا الكلام وإلا...

غادة (تبتسم): وإلا ماذا؟

حلا: وإلا لن تُعرض المسرحية.

راجح (يتنهّد): ترى لِمَ يلصقون الأسقف برؤوسنا؟

نسيم: كي نبقى محنيي الظهر.

غادة: وما الذي يكسبونه من بقائنا مطأطئين؟

جميل: يظلون أعلى منا.

صوت آلات الصوت يمخر عباب المسرح.

نسيم: يبدو أن عاصماً يئس منا، فأصبح يستدعينا بواسطة أولاده.

يضحكون... يمسكون بعضهم بأيدي بعض وينهضون لممارسة أعمالهم.

ستار

الفصل الثاني

تتلجلج فكرة الكتابة في رأسه كبندول يتراقص بمكر، كيف يستطيع الكاتب الكتابة؟ هل الكتابة يسيرة لتلك الدرجة التي تخلّف ملايين الكتّاب؟ ولِمَ عليّ أن أكتب؟ حقيقة، في ظل وجود ملايين الكتّاب لماذا عليّ أن أفعل؟

يمشي وكلمات التحفيز تطرق أذنيه قادمةً من هاتفه: «الحياة إما مغامرة جريئة أو لا شيء. في كلمة القمة شيء يقول لك قم. الأماني بضاعة الضعفاء والعمل بضاعة الأقوياء»...

دخل المقهى، رحّب به العامل المصري: «إيه يابيه مبئتش تيجي ليه؟ دنتا وحشتنا»، «شكراً يا حسام، وأنا كمان اشتقت لكم، ولكنك تعرف المشاغل، كما يقولون الحياة تلاهٍ). أرشده إلى طاولة أصدقائه. سلّم وجلس.

طلبوا ورقاً للبدء باللعب.

شكّل نسيم فريقاً مع جميل، الفريق المقابل تكون من راجح وعاصم. اكتفى بالمشاهدة. (ستُمْنَوْن بخسارة فادحة كالمرة السابقة) (بل أنتم من سيُمنى بخسارة أفدح من الفادحة كالمرة قبل السابقة) (مثل ما يقول المثل: هذا الميدان يا حميدان) (طيب، وزّع يا سعدان).

حسام يمسك جهاز التحكم ويعبث بالقنوات باحثاً عن المباراة الرياضية. وجدها، رفع صوت التلفاز.

– مباراة الكلاسيكو الأردني.

– بل يا جميل هي مبارزة الكلاسيكو الأردني.

– الله وحدات والقدس عربيّة.

– ما هذه الكلمات يا راجح؟

– بعض من هتاف الجماهير، أنسيتم أنني كنتُ مدمناً على مشاهدة المباريات في الملعب؟ حتى مباريات الدرجة الثالثة لم تكن تفوتني.

– الحمد لله الذي شفاك.

– أخبرنا عن بعض الهتافات أيضاً.

– بصراحة لا أستطيع، أخشى من غضب نسيم.

– الحقيقة أن الهتافات في مباريات الوحدات والفيصلي تتحول تدريجياً إلى شتائم قاذعة، تصل حدّاً بعيداً جدّاً، فجماهير الوحدات من الأردنيين المنحدرين من أصول فلسطينية، أما جماهير الفيصلي فهم من أصول أردنية، والمشكلة أن المباريات الرياضية تحولت ليس في الأردن فقط، بل وفي العالم، إلى ساحةٍ للسياسة والاقتصاد والتربية.

– كلّ هذا؟!

– بل وأكثر من هذا أيضاً، اسأل أخاك الصغير حين تعود إلى البيت: من مثلك الأعلى؟ تعالَ والطمْني إن لم يكن خياره بين اثنين.

– من هما؟

– ميسي أو رونالدو.

تدخل حسام قاطعاً حوارهم، جاء يسألهم عمّا يودون احتساءه، طلبوا أرجيلتين وخمسة فناجين قهوة.

أنهوا لعب الورق، خرجوا من المقهى قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، عاد برفقة جميل، ذلك أن بيتيهما قريبان بعض الشيء. يسيران ببطء وسط صفاءٍ للجو وتألقٍ للنجوم وتبخترٍ للقمر، لفحتهما نسمةٌ رقيقة. عاودته تلك الفكرة.. ترى أيملك جميل قصةً تستحق الكتابة؟ ماذا لو كتبتُ قصة حياته في رواية من ستة فصول؛ الفصل الأول بعنوان.. «ميلاد البطل القادم من سواد الليل»، الفصل الثاني بعنوان.. «دخول البطل المدرسة»، الفصل الثالث بعنوان.. «عشق البطل لابنة الجيران»، الفصل الرابع بعنوان.. «خيانة ابنة الجيران للبطل»، الفصل الخامس بعنوان.. «دخول البطل الجامعة»، الفصل الأخير بعنوان.. «طرد البطل من الجامعة بسبب مشاجرة عشائرية».

رنا إلى وجه جميل، ابتسم بلؤم وهمس: (نقطةٌ في بحر الرحيل دون عنوان)، التفت جميل متعجباً من تمتمته: (أقلتَ شيئاً؟) (لا، ولكني أحاول أن أقول) (تتفلسف كعادتك) (أحاول أن أتفلسف) (وما الفرق؟) (كالفرق بين الكتابة وبين المحاولة) (أما زالت تلك الفكرة تراودك؟) (لن تصدق بماذا كنتُ أفكر قبل هنيهة) (بماذا؟) (كنتُ أتخيّل كتابة سيرة حياتك في رواية.. بعنوان، نقطة في بحر الرحيل دون عنوان)، قهقه وهرب، لحق به، عرقله، تعاركا.. بحب.

أنهيا عراكهما مغذّيين جذوة الصداقة بذكرى جديدة تشعلها عند الحاجة، سارا وابتساماتهما تغري السماء لتزداد تأنقاً يليق بالنقاء.. (أتعلم؟) (ماذا؟) (لِمَ لا تكتبنا؟) (أكتبكم! من تقصد؟) (أنا، أنت، نحن، المجتمع، الأردن)، أشعلت شرارة هذه الفكرة النار في رأسه، أطرق قليلاً.. (ولكن مجتمعنا فقير، طالما سمعتُ هذه العبارة، مجتمعنا لا يمكن كتابته) (ومن قال ذلك؟ لا تصدق، بل مجتمعنا يزخر بما يستحق الكتابة، ولكن ربما لم يوجد من هو قادرٌ على كتابته بطريقة ملائمة) (أعتقد أنك تبالغ، لقد سمعت في حفل توقيع رواية لكاتب مبتدئ من أحد النقاد هذه العبارة: «لا يوجد لدينا أدب»!) (هذا الناقد يعيش في عالم بعيد عن الواقع) (ولكن من أين لك كل هذه الإيجابية؟! يبدو أن فصلك من الجامعة قبل سنتين قبل إعادتك بواسطة كبيرة قد آتى أكله) (نعم أعترف لك أن تلك الواقعة قد فتحت عينيّ على أشياء لم أكن لأراها لولاها، فلكل منا رحمان يولد منهما: الأولى يولد منها الجميع، غير أن من يولدون حقاً يخرجون من الرحم الثانية، والتي قد تكون كلمة، أو مصيبة، أو إنجازاً.. أي شيء يستفز الرحم لتنفجر) (انتظر قليلاً) أخرج هاتفه وضغط مفتاح التسجيل... (هيا أعد ما قلته) كرر جميل الجملة التي قالها (هل ستكتب كلامي) (يبدو أنني سأفعل مرغماً).

ودّع جميل عند مفترق طرق!

سار والأفكار تطرق رأسه كطائر يدفع القشرة بكل قوّته، ليخرج من البيضة بعد فترة كافية من الحضانة.

جنّة الخفافيش

الجمعة 12 يونيو 2015 بدت في عينيّ جميلة وفاتنة، تشبه سلاسة وحلاوة اسمها في اللسان عند النطق. إنه انطباعٌ نبت في رأسي في المطار، ربما تخلّق من يد النسيم الرائق الذي أخذ يداعب وجهي، بمجرّد أن وضعتُ أول قدم على الأرض نزولاً من سلّم الفوكر الروسية ذات المروحتين ومفعماً بسلامة الوصول ولو بعد سنوات ومن دون استقبال من أحد، كأنّما القدر أراد لي العودة خلسة كما كانت الحال عند الخروج، شهقت قائلاً لنفسي مناجياً إيّاها:

-هذه مدينة واو، هذه واو إذاً!ّ

إنه اليوم الأول، لا يزال كل شيء غريباً، حتى إن صورة منزلنا القديم المهترئ الذي أحمله في جيبي، تبدو بلا فائدة لأنّ المباني الحديثة نهضت في كل اتّجاه، وأزاحت تلك التي أحملها في رأسي من سنوات بعيدة: ذكرى السنوات الخمس أو الستّ يوم خرجنا، أمي وإخوتي وأنا، من دون أن نلتفت إلى الوراء بأنظارنا، كنّا في عدو إلى الأمام، كأنّنا لم نترك خلفنا شيئاً على الإطلاق.

لكن ذلك لم يكن صحيحاً أبداً، إذ إنه كلما ارتفع نظر أحدنا إلى الحائط وقعت عينه على شيء آخر فصورة أبي المعلقة بين وردٍ صناعي يُجدَّد في كلّ عيد، تبدو هنالك كأنّها عٌلقت لتذكّر بأن لدينا ما يستحق الالتفات إلى الوراء بل والعودة أيضاً.

جرت سنوات الطفولة وجرفت البراءة معها، فتبيّن أن عودته ليست مسألة وقت فقط كما كنا نُخبر وصدّقنا، لأنّ أغراضه كانت على الدوام مرتّبة كأنّه سيدخل في أيّة لحظة من اليوم، وعلى سرير أمّي المرتفع الذي يحتلّ جلّ مساحة غرفتها، وضعت وسادة أخرى تنتظر عودته، وكنّا عندما ندخل الغرفة في الأيّام التي تكون فيها عاجزة عن النهوض من الفراش، في المرّات النادرة جداً التي تمرض، نلاحظ حرصها الدائم على ترك جانب من الفراش مرتّباً، كأن شبحاً ما سوف يأتي ليرقد إلى جانبها. إذاً كنا ننتظر في أيّة لحظة خروجه من الإطارات الفضية لتلك اللقطة المسروقة، حسب لغة الفوتوغرافيين عندما يصفون صورة التقطت من دون انتباه الهدف.

لم يكن النسيم وحده ما قابلني عندما وصلت نهار أمس. خارج المطار رأيت آثار حرب انخمدت: طائرة ميغ كتب على جانبها بالعربية «النصر لنا» لكنّها ترقد على الأرض محطمة. يمرّ الناس من جانبها من دون أن يلقوا النظر عليها، لكن مجموعة من الصبيان كانوا يلعبون داخلها، قال لي السائق وقد وجد في انتباهي الشديد لها مناسبة للدردشة وكسر جدار الصمت بيننا:

-– تلك حرب ذهبت، قتلت من قتلت ونجا من نجا ليحاول النجاة في حرب لعينة أخرى بدأت تأكل الأخضر في أطراف المدينة.

لم يحتج الرجل في الواقع إلى الكثير من الكلمات ليشرح لي أن الحرب تزحف إلى هنا أيضاً، حيث توقفت العربة بغتة وبضع دقائق أمام نقطة تفتيش مرتجلة، ألقى خلالها جندي يبدو القلق والإرهاق جلياً على ملامحه نظرة عجلى علينا قبل أن يأمرنا بالتحرّك ومتابعة السير بإشارة من يديه.

زال التوتّر الذي تسرّب إلي طوال الطريق نتيجة لمشاهد الجنود المتجوّلين بأسلحة مدججة في كل الشوارع تقريباً، وشعرت بالنشاط وبرغبة في الخروج من الفندق حتى أرى كل شيء سمعت أنه هنا أو شاهدته في صورة ما. كانت مشاعر مختلطة تمور في راسي لأنني وصلت أخيراً، بعدما كدت أفقد الأمل جراء أكثر من محاولة فاشلة.

كل تلك المشاعر ترجمت نفسها في صورة ابن ضال يعود إلى حيث لا أحد متحمّسٌ لاستقباله، ويبدو هو نفسه متردّداً في الرجوع، تنتابه الهواجس رغم أن هذا خياره الأخير من أجل راحة ينشدها لضميره بعد أن جرّب غيرها من بيوت ومدن.

الابن الضال أفضل حالاً! هكذا فكّرتُ إزاء تلك المقارنة التي برقت في رأسي من حيث لا أدري، فهو، الابن الضال، على الأقلّ يعود إلى مكان ينتظره فيه أحد، كما أن لديه حكاية تُقصّ وذكرى تُروى، لا نكرة ولا صفر على الشمال مثلي أنا، وربما الذين غضبوا يوم خروجه يستعدون لاستقباله بعجل مسمّن سوف يُنحر إكراماً له، وبينهم أبوه يأمر وينهى من أجل راحته.

أما أنا فهنا من أجل البحث عن أبي، لتجد نفسي راحة مفقودة، ذلك أنه عندما يناديني الناس دكتور أركانجلو أشعر بالراحة تغمرني، لأنني أعرف أن المقصود بالنداء هو أنا ولا أحد آخر غيري، عكس شعوري عندما أسمع أحدهم يقول: «أركانجلو مرجان»... حيث أتوجّس وأرتاب وأكون في شكّ من أمري، لأنني لا أعرف من يكون هذا الشبح الذي يلتصق باسمي، شاحباً مثل صورته الباهتة التي تعود إلى الستينيات، حيث تظهر جميع المناظر بالأبيض والأسود مثل جميع صور تلك الفترة وما وراءها، وهو الأثر الذي رسّخ ملامح وقسمات وجهه الفاترة في مخيّلتنا، وها أنا أعود بحثاً عنه في مدينة لا أعرفها سوى من ذكريات في أحاديث عائليّة مبعثرة المشاهد ومبتورة التفاصيل.

إنها ذاكرة ممزقة لا تستطيع وحدها أن تمنح الثقة، إنها أذرع حكايات ومشاهد تسرّبت إلى رأسي وعلقت به من كومة الصور التي تُسمى ألبوم العائلة، وتفوح منها رائحة الفطر جراء الاحتفاظ بها بعيداً في ركن قصيّ داخل غرفة أمي، كأنه كنز قيّم، ورسّخت ذلك الانطباع الطريقة التي كان يجري بها التعامل معه؛ كان يتمّ إخراجه بحرص شديد وحذرٍ مفرط إلى صالون المنزل في موسم الأعياد فقط.

وهكذا كانت تقع تلك الصور بين أيدينا نحن الصغار المكلفين بطريقة غير علنيّة تزجية فراغ الضيوف، ريثما ينتهي الكبار من مشاغلهم ويأتون من أجل إلقاء التحيّة وإبداء المجاملة.

في ذلك الزمان لم تكن الأطباق اللاقطة قد نبتت على أسطح المنازل، وكانت الصور هي الأداة الوحيدة لتسلية الضيوف: كانت توضع إلى جانب قطع الحلوى وكعك العيد والبلح الملوّن، ودرجت العادة على أن يكون شخص ما في المكان من أجل أن يقدّم بعض الشروح الضرورية حولها؛ المناسبات والملابسات والحكايات التي تعيش داخلها.

back to top