الكتابة المستحيلة

نشر في 26-07-2017
آخر تحديث 26-07-2017 | 00:00
 طالب الرفاعي يُقال في العربية "السهل الممتنع"، في إشارة إلى ما يبدو في الظاهر بأنه سهل سلسل مقدور عليه، لكن اقترابا فاحصا منه يظهر صعوبته، وربما استحالة مقاربته. ومؤكد أن هذه المقولة متحققة في عالم الكتابة عامة، والكتابة الإبداعية تحديدا. وربما هذا ما يغري البعض بإمكانية تدبيج قصة قصيرة أو قصيدة أو رواية، متوهمين القدرة على كتابة لافتة، ومندفعين لنشر ما يكتبون، خلافا لحقيقة الأمر، حيث يُكشف أن تلك الكتابات تفتقر إلى العناصر الفنية الأساسية للجنس الأدبي من جهة، وتفضح عوز موهبة صاحبها من جهة ثانية.

الأعمال الأعظم في تاريخ الأدب، تلك التي ارتادت مغامرة الجديد، وقدمت واقعها الفني الباهر متوازيا ومتقاطعا مع عالم الإنسان والواقع، وبجراءة قل مثيلها. تلك الأعمال لم تأتِ كضربة حظ، ولا مغامرة عابرة، بل إنها كانت تركن لموهبة كبيرة وفهم حقيقي لوظيفة الأدب الاجتماعية، وأخيرا قراءات موسعة لكاتبها في عموم الأجناس الأدبية من جهة، وتعمق مدروس في الجنس الأدبي الذي يكتب فيه من جهة أخرى.

تصلني بين الفينة والأخرى كتابات لبعض الأصدقاء من فئة الشباب، من باب الوقوف على رأيي الشخصي فيها. بعض تلك الكتابات مفرح، ويشير بشكل واضح إلى موهبة مؤمّلة، ولو أنها تحمل هنّات البدايات، لكن البعض الآخر يبدو فقيراً لأبسط قواعد الكتابة الإبداعية، وهنا أجد نفسي مدفوعا بصدق النصيحة إلى مصارحة الكاتب بضعف مستوى تلك الكتابات، وضرورة أن يراجع نفسه في محاولة لتجويدها.

وفي حين أن البعض يتسع صدره للمصارحة، ويدور نقاش أدبي معمّق حول تقديم تلك الكتابة بحالها الأفضل، فإن بعضاً آخر ينزعج من تلك الملاحظات، وحتى بعضهم يعتبر ذلك وكأنه موقف شخصي عدائي منه، ويبدو الوضع غريبا بائسا حين ينصرف البعض وقد قطع حبل علاقته بك، لا لشيء، إلا لأنك لم تمدح كتابته المشوهة.

الكتابة الإبداعية مثلها مثل أي ممارسة ومهارة. فلا يمكن لمهارة أن تمنح نفسها لأحد دونما ثمن وجهد، ومعاهد وجامعات الغرب وأوروبا ومنذ ما يربو على نصف قرن تدرّس مناهج الكتابة الإبداعية بوصفها مادة علمية، مادة لها أصولها التي تنتح من الواقع من جهة، وتأخذ من الدرس العلمي أصوله. فلا يمكن لشاب أن يكون شاعرا دون أن يدرس بحور الشعر، ومدارسه، على المستوى المحلي والعربي والعالمي. والشأن نفسه بالنسبة للروائي والقاص والمسرحي.

ما عاد سراً أن الكتابة الإبداعية لها منهجها الخاص، ولها دروسها، وبالتالي يلزم أي كاتب أن يلمّ بالعلم الذي يخوض فيه، ويتدرب على كتابة تنهض على الأصول الفنية اللازمة لها. فقد بات معروفا أن الموهبة وحدها عاجزة عن خلق وتقديم كاتب ناجح. وكم يبدو الوضع فاضحا حين يجلس كاتب شاب خلف منصة ليقول كلمة في كتاباته، فتنكشف ضحالته وافتقاره لأي وصل مع المتلقي في الجنس الأدبي الذي يكتب به.

الكتابة الإبداعية هي كتابة مستحيلة إن جاء لها الكاتب من استعداد مغرٍ وماكر ومضلل، بأنه يمتلك أدواته في الكتابة، وليست الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، وإطراءات الأصدقاء بمقياس صادق تجاه الكتابة عامة، والكتابة الإبداعية خاصة، بل إن صدق الكاتب مع نفسه، بوقوفه على أساسيات الفن الذي يعمل عليه، وكذلك صدقه مع القارئ في تقديم نص ينهض على قراءات معمّقة في الجنس الأدبي، ويعتمد على مراجعات كثيرة وضرورية، لضمان تقديم الأجود.

كتابة قصة واحدة لا تصنع كاتب قصة، ونشر رواية واحدة لافتة لا تشير إلى روائي متمكن. لكن، كتابة عمل إبداعي مهم تتطلب بالضرروة المزيد من الجهد والقراءة وتحدي النفس لتجاوز العمل السابق.

الكتابة الإبداعية تكاد تكون مستحيلة، وهي كذلك بالنسبة للجميع، بما في ذلك الكاتب المتمكن نفسه، فتجاوز الذات صعب، وصعب جداً لمن أراد البقاء حاضراً في قلوب القراء.

back to top