حبر و ورق ....

نشر في 15-07-2017
آخر تحديث 15-07-2017 | 00:02
No Image Caption
كنت أغني

صباح الحياة، وإن لم تكن منصفة أحياناً. بالرغم من أنني دائماً من المنصتين إلى المتفائلين ومن المصدقين بأن مقومات الحياة تزدهر وتتبرعم أزهارها كلما زاد التفاؤل، إلا أن يأسي بلغ ذروته اليوم. غداً، الأول من تشرين وهو يومي الأول في عملي الجديد في دار رعاية مرضى الزهايمر، قد يكون التفكير بهذه الوظيفة وحده كافياً ليصل بمؤشر الإحباط إلى أعلى مستوياته، وقد يكون الخوف من كيفية التعامل مع المرضى هو السبب، وربما يكون تفكيري بأن هذا العمل سيأخذ زهرة سنين شبابـي هو السبب الأهم.

عندما تقرئين رسالتي أكثري من الدعاء لي بقدر حبك لي، وحاولي أن تكوني قريبةً مني روحياً على الأقل، إنني أطبع الآن أوراقي وبعض الصور الخاصة بـي. أمممم أرجو ألا أكون قد نسيت شيئاً. أحبك.

علياء..

لقد أُرسلت هذه الرسالة إلى بتول بسرعة قياسية، قد تكون سبباً لحملي على الابتسام، فهي أُرسلت بسرعة بخلاف الرسائل الأخرى التي عادة ما تصل متأخرة.

الخالة بسمة.. حبيبة أمي التي توفيت منذ عامين، إنني أرى فيها صوت أمي وضحكتها وقلبها. سأحمل معطفي وبعض أزهار النعناع، وأذهب إليها لأشحن نفسي بحب الحياة في صباح هذا اليوم التشريني: «خالتي، لقد أتيت لتناول الفطور تحت تلك التوليبة، ولأتنفس عبق رائحة مطر تشرين، ولأشحن ذاتي بالحياة لديك».

تبلغ الخالة بسمة من العمر شتاءً معتمراً أوراق بيلسان، وسماءً لا تكف غيومها عن الإمطار. حين أفتقد طاقة الحياة أربض تحت ذراعها لتتجدد طاقتي، فتندفع الحياة في كل العروق الميتة فيّ، آهٍ منك يا خالة.

لقد تأخرت يا خالة، سآتي إليك في نهاية النهار حاملة الزهر، وسأقبل وجنتيك. سامحيني فأنا مضطرة إلى الذهاب، لم يعد لديّ متسع من الوقت للجلوس معك أكثر. ادعي لي كثيراً ليكون يومي جميلاً.

إلى اللقاء صغيرتي.

كلما أقصد سريري وأتوسد مخدتي ترفل كلمات أمي في رأسي: “أطفئي القنديل يا علياء، والبسي صوفاً، ونامي على حب، وعندما تستيقظين صباحاً ابحثي يا ابنتي عن الحياة”. تلك كانت جملة أمي الأثيرة، رحمك الله يا أحن الأمهات يا أمي حصة. تصبحين على جنة يا جنتي، جنة عرضها السماوات والأرض.

إن برودة تشرين تصنع هنا هالة من الخوف، لا يفهمه إلا سكان هذه القرية الصغيرة. وبالرغم من حبـي الكبير لمطر تشرين، إلا أن انعدام الطرق هنا، يجعلنا، كلما تمطر، ندفع ضريبة صلاة الاستسقاء التي نطلب فيها من العلي القدير رذاذ مطر.

يا رب فليكن دربـي مفتوحاً، ولتتدفق الخيرات في وجهي كتدفق المطر في الدروب، وليكن لي من الحب الموفور ما يكفيني أياماً.

منذ آخر مرة قبّلت فيها يد أمي ونسيت بعدها من هي تلك المرأة التي قبّلت يدها، لم أعد أحلم. لقد ماتت أحلامي. أول عبارة قرأتها وأنا في طريقي «اللهم ليكن الخلاص من كل شيء إلا الأحلام»، لقد زادت هذه العبارة من بؤسي ويأسي من الحياة. تخيلي يا بتول، لم يعودوا يحلمون، اللهم إليك الدعاء وأنت المجيب، ليكن الخلاص من كل شيء إلا الأحلام.

ها أنا أخطو إلى دار العناية بكامل أناقتي، وقناع من الابتسامات الزائفة يغطي ثغري، بالإضافة إلى بعض العبارات المتفائلة التي حفظتها من بتول، علها تزيد من رغبتي في الحياة.

- أنا الدكتورة علياء.

- تفضلي دكتورة علياء، مدير الدار وبعض الزملاء بانتظارك لتبدئي مشوارك هنا.

- مرحباً دكتور عمر، أنا علياء، لقد تبادلنا الرسائل قبل أيام.

- صحيح، أهلاً بك. كلنا بانتظارك، إنها علياء التي حدثتكم عنها قبل ساعات. إنها في غاية اللطف، وستجيد التعامل مع مرضانا.

بثت كلمات الدكتور عمر فيّ الوجل. فعلى أي أساس يصفني باللطيفة ويؤكد أنني سأجيد التعامل مع المرضى؟!

لقد ألقت كلماته البسيطة حملاً ثقيلاً على كاهلي يا بتول، وزادت من بؤسي، أيُعقل أن أكون لطيفة إلى هذا الحدّ وأنا لا أدري؟!

- دكتورة، يقع مكتبك خلف تلة الملفات هذه وستجدين كتباً تفيدك عن مرض الزهايمر.

قاطعت الدكتور عمر

- كتب وملفات؟

- لا تقلقي. قليل من السير الذاتية عن المرضى، ولا شك في أنك ستحتاجين إليها.

تنهدت يا بتول على غير عادتي بصوت مرتفع، ليقاطع تنهيدتي صُوت عجوز مسنة تبكي بصُوت خفيف كالمطر. كنت تسألينني يا بتول دائماً كيف أُشبه البكاء بالمطر، ودائماً ما كنت أقول لك إنه بكاء الحب يا بتول. لنعد إلى العجوز، اسمها فردوس.

ابنها حالة خاصة يا بتول. تخيلي أنه في السابعة والعشرين من العمر، ومريض الزهايمر، لا يحفظ شيئاً مما تكرره له يومياً سوى أنها عجوز، فذاكرته لا تقدر على حفظ أكثر من ذلك.

حينها قصدت الحديقة في الفناء الخلفي للدار، وأجهشت بالبكاء. كانت دموعي سوداء وبكائي أسود، كيف لمثل هذا المرض أن يفتك بذاكرة شاب كهذا، تاركاً عجوزاً تتألم إلى هذا النحو؟! يا الله لا اعتراض على قضائك وقدرك. وتحت المطر ومن بين الدموع السوداء بكيت وتضرعت إلى الله أن يعيد للشاب بعضاً من ذاكرته حتى يشفي غليل تلك الأم الرؤوم المهيضة الجناح.

صباح الخير يا بتول.

إنني أحيا الآن يا بتول في بؤس، أتتصورين أن شاباً في السابعة والعشرين من العمر، لا يتذكر أي شيء بعدما التهم الزهايمر ذاكرته. وكما تعرفينني يا بتول فأنا لا أتقبل الأشياء الكبيرة على عواهنها، لذا لم أجد غضاضة في فتح حاسوبـي وإجراء بحثٍ عن الزهايمر الذي يهاجم ذاكرة الشباب، وكم تمنيت لو أظفر بأجوبة تشفي غليل تلك العجوز. ولكن التقرير الذي قرأته جعلني عقيماً من الأمل وتهيبت مما قد يصادفني:

“ذكر باحثون أميركيون أن بصمات مرض الزهايمر الذي يصيب الأشخاص في مرحلة الشيخوخة، تبدأ أولى علاماته بالتشكل عند الشباب في سن العشرين، على عكس ما كان يتصوره العلماء من أن المرض يتشكل في مراحل متأخرة من العمر...».

الصدمة دفعتني إلى إغلاق الجهاز، فزعة وجلة مما قد يذكره التقرير فيما لو تابعت القراءة (ومرة أخرى، اللهم لا اعتراض).

سأجمع شمل قوتي المبعثرة، لأواجه هذا العالم متسلحة بإيماني. كوني دائماً بقربـي يا بتول. استودعك الله وإلى لقاء قريب.

* * *

إنه فهد، أسمر فارع الطول، تعلو شفتيه ابتسامة كزيزفون الشتاء، أما عيناه، وهما قصة أخرى، فأشبه بحبات لوز الربيع، آهٍ من عينيه. في اللقاء الأول أحببت تفاؤله، كان يتأبط جرائد قديمة، ويعيد قراءتها كل ليلة. ومن نافلة القول إنه لا يجد غضاضة في ذلك لأنه كل يوم ينسى ما قرأه في الليلة السابقة. لا أظن، أعلم أني لا أريد أن أظن غير ذلك..

إنه يا بتول يحب المطر والشتاء وتشرين مثلي تماماً، هذا ما أخبرتني به والدته، وأردفت تقول إنها الأشياء الوحيدة التي لا تزال من فهد قبل المرض. فسبحان الله يا بتول هناك أشياء حتى فقدان الذاكرة لا يمكن أن يمحيها ولا يمحي حبها.

لسوء حظي أو لحسنه أصبحت طبيبته الخاصة، هذه التناقضات بين حسن الحظ وسوئه تأخذ من عمري تفكيراً طويلاً قبل أن أقرر أي شاطئ سأرسو عليه ويكون فيه الخير. تذكرين حين كنا في الريف تحت ظل شجرة الزيتون، حين قلت لك إنني لا أحب الأمانات مطلقاً. إنني أخاف ألا أكون شخصاً مناسباً يستطيع تحمل أمانات أحد. قد يكون فهد أمانة من الله يا بتول. ربما يكون عقاباً من الله أو اختباراً، حين قالت لي إن ابنها أمانة معي، وحين دعتني لأكون صبورة، فهو كل يوم في حال.

- كيف يا خالة؟

- إنه اليوم سعيد ولكنه قد يكون باكياً في الغد ضجراً، وغالباً ما ينام عندما يصغي لحديث طويل.

- لا تهتمي يا خالة إنني أعلم جيداً كيف أتعامل معه، نامي قريرة العين. لا تهتمي؟!

لقد رددت عبارة «لا تهتمي» كثيراً بيني وبين نفسي. هذه العبارة بحد ذاتها أمانة كبيرة من الله. تسألينني عن انطباعي بشأن فهد؟

كان يلعب تحت المطر، ويقبّل أزهار الرمان، ثم رأيته من بعيد ينظر إلى والدته، وبعد أن ودعها أخذوه إلى فراشه، وسرعان ما غطّ في النوم كالأطفال. لقد كان يومي شاقاً ليس بالمعنى الجسدي بل بقدر ما فكرت بتلك الأم المسكينة.

إنها الثامنة والنصف وها أنا انتهيت من عملي، وأقصد بيت الخالة بسمة لأجمع شتات قوتي وأشحن نفسي بالقوة تحت ذراعيها، وأشرب الهدوء من أزهار النعناع لأسكن جسدي الذي يضج بدوامات من الحياة.

عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر أحضرت لي أمي هذه القلادة التي تتدلى من عنقي وتستلقي أعلى صدري وقد دون على حافتها (كلما كبرت سنة ستواجهين الحياة أكثر يا علياء). وللصدق والأمانة يا أمي لم أفهم وأعِ معنى المواجهة قبل اليوم. لقد واجهت الحياة اليوم يا أمي بشكل مريب، كنت أسأل نفسي ثلاثمئة سؤال في الدقيقة عن هذا المرض المخيف يا أمي! كيف يُصاب شاب كفهد بهذا المرض مع أن إصابة شاب مثله نادرة. والله والله يا أمي، ما شاهدته منه ومن أمه أعجز عن تدوينه على ورقة، وتعجز ذاكرتي عن نسيانه، ويعجر البكاء عن غسل مرارته. لا أزال على ما يرام، ولكن قلب أم فهد ليس على ما يرام، كان الله بعون فؤادها المسكين. ها أنا عند عتبة بيت خالتي بسمة

- أتعلمين يا خالة أن لكل شخص من اسمه نصيباً إلا أنت يا خالة.

- كيف يا علياء؟

- اسمك نصيبـي، فكلما خارت قواي أتعكّز على ابتسامتك التي تبث فيّ تياراً لا ينضب من القوة، وتتفتح في روحي أزهار التفاؤل باقاتٍ باقات.

- كم تشبهين أمك يا علياء، حتى وأنتِ تغدقين عليّ أوصافك الحنون هذه.

- لقد دأبت أمي قبل رحيلها بأشهر ثلاثة على قول: خذي بسمة حياة لك يا علياء. فليرحمك الله يا خالتي بسمة وليرحم وليرأف بحال أم فهد.

- أم فهد؟

- لا تهتمي يا خالة، سأخبرك القصة بتفاصيلها لاحقاً، ولكن يجب عليّ الآن العودة إلى البيت، فلدي بعض الأوراق التي يجب أن أعمل عليها وأنهيها بأسرع وقت.

- إلى اللقاء، وهذه قبلة على جبينك.

الملكة المغدورة

عبثٌ ينخر المدينة، ويجوس خلال شوارعها، ويحاصرها من كل الجهات، ويتحكم بكل شيء فيها، وينتشر في كل مكان.

وكانت هي هناك مذبوحة من الوريد إلى الوريد بين يديّ، مدفونة دون ضريح ودون قبّة، ترفع دمها النازف، وترقص عاريةً في تابوت شفيف تقبع تحت ثقله المدمّر. سحبت خطوات حزينة، مثقلة متحجّرة، نحو “مقهى الشهداء” في مركز المدينة، المهبط اليومي لزميليّ في الصف: عدنان وشكيب، ولي أيضاً.

لم أتخيّل قط قبل ذلك أن يأتي يوم أسحب فيه خطاي مثل محكوم بالأشغال الشاقة، نحو مقهى الشهداء وبيدي شهيد حقيقي في جوف كيس صغير من البلاستيك، شهيد بقرت أحشاؤه. تتزاحم في رأسي المغموم طوال الطريق الخواطر السوداء الحزينة، باستثناء خاطرة يتيمة بدت بالأحرى تافهة وفي غاية التمرد، بنت هذه المصادفة المحضة (التي لم تحمل في أحسن الحالات سوى توكيد إلى أي مدى يستحق هذا المقهى اسمه). كشفت هذه الخاطرة اليتيمة سرائرها عبر آهٍ سريعة تنطلق من الخياشيم أمام «مقهى الشهداء» وقد جرّد الغبار اللوحة التي تحمل اسمه من بعض الحروف، ونخر جسدها ثقبان مائلان أجهل سبب حدوثهـما، وإن ظلت اللوحة مكتوبةً بخط جميل فوق لافتة واسعة في الوسط، مرصّعة بعشرين صورة فوتوغرافية لشهداء الثورة، يقيدها عشرون شهيداً من المصابيح الكهربائية. وكان التوتر واضحاً على وجهي، حين سلّمت الكيس البلاستيكي حيث يرقد الشطرنج الخاص بشكيب الذي كان ينتظرنا، أنا والشطرنج، بالقرب من باب المقهى. مزّقني الندم والخجل حين رأى شكيب إحدى ملكتي الشطرنج مقطوعة تماماً إلى نصفين ملصقين بسبعة أشرطة لاصقة. ومع ذلك كانت هذه الملكة قبل يومين فقط، حين استعرت منه هذا الشطرنج، صلبةً كصخرة، جميلة كعروسة النيل.

كانت من الصلابة بحيث لا يستطيع إلا حسام باتر أن يبقر أحشاءها ببضع ضربات باترة.

توقفت حركة الزمن خلال ثوان بليدة يصعب وصفها، قبل أن يطلق في صرخة قصيرة سؤاله الذي لا ينسى: «يا الله! ما الذي حدث؟ ما الذي حلّ بسيدة الشطرنج؟». أتذكر جوابي عن سؤاله. لك أن تسمّيه ما شئت ما عدا أن يكون جواباً. فقد تلعثمت في ألم بكلمات لا رابط بينها من إجابة معدّة سلفاً ولكنها قليلة الخيال. قلت أي شيء غير الحقيقة. كلمات قد تكون: “سقطت... تحت قائمة سريري... لا... نعم...”، ثم انعقد لساني بشكل واضح وتصلّب في شكل مشنقة تخنق الكلمات الهاربة.

وخلال هذا الزمن المتحجّر استولت علي مأساة ليلة البارحة حين سالت دموعي وأنا أشاهد فأساً صدئة تستعد في حماسة لتهشيم قلب الملكة. وكان القاتل رجلاً لا ترقّ له قناة أمام دموعي... تتدفق قطرات عرق غزير من وجهه مما جعل من الصعب التعرف إليه، وهو يرتعش وقد خرج عن طبيعته، فقيّد قدميها البريئتين وثبّتها إلى الجدار، ووجّه بضع ضربات خاطفة شرسة أصابتني بالرعب وأخرستني. وفي الضربة الرابعة بقر بطن الملكة التي تجندلت، وقد خارت قواها، كشجرة قطعت، عيناها مثبتتان على العدم كعيني خروف ذبح أضحيةً في العيد.

صرختُ بكل ما في قلبي الجريح من قوة:

-هذا الشطرنج ليس ملكي. يجب أن أعيده لصاحبه غداً.

لم أجرؤ قط في تلك اللحظات على أن أنظر في عيني شكيب، ولا أعرف أية موجة غضب عصفت بوجهه، وأية أسئلة حامت حول عينيه قبل أن أسمعه يقترح فجأةً، بلهجة هادئة منضبطة، أن نلعب الشطرنج! ولم تكن لدي أية رغبة في أن أثبّت نظري على رقعة الشطرنج، ولا بالأحرى أن ألمس جثةً سبق أن شاهدت في رعب قطع عنقها. قال لي:

-سأدع لك القطع البيض. إلا أن عليك أن تلعب من دون ملكة.

وأضاف بدهاء لطيف: إذا لم يضعفك هذا كثيراً بالتأكيد.

ربما بدا هذا الاقتراح لأول وهلة مبرراً، إذ كان يهدف من وراء إقصاء ملكتي منذ البداية تحقيق التعادل بين قوانا، ويمكن تجاوز هذا العائق منطقياً بخبرتي في لعب الشطرنج، التي كانت أطول من خبرته. لكن، في العمق عندما رأى شكيب الهوة السوداء التي ابتلعتني بعد صرخته القوية جداً حاول بكثيرٍ من نباهة ظلت تؤجّج عرفاني له بالجميل، أن يهدّئني باستمرار، وهو الذي لم يكن في العادة رمزاً للرقة واللطف. فقد أخفى، أولاً، حزنه وراء حركة من رأسه تعني أن أؤجل شرح هذا اللغز إلى أيام أفضل، قبل أن يطرح في دهاء اقتراحه “الوقور” وغير المنتظر بأية حال، ليجنّبني الاعتراف بحقيقة يغشاني الخجل منها تماماً. كان هدفه في الأساس حلّ عقدة لساني، وأن يتوقف، قبل كل شيء، سيل العرق الذي يغرقني بفيضه... صحيح أن السيدة الوزيرة (بعضهـم، وأنا منهم، يسمّيها الملكة) مشطورةٌ نصفين، وملصقةٌ بسبعة أشرطة لاصقة قد تنطلق منها خلال اللعب رائحةُ مقرفة ومرعبة. كانت الساعة نحو الثالثة بعد الظهر، وكان يوم سبت من أيام شهر أكتوبر، شهر الثورات، كما علّمونا - في مطلع السبعينيات - حين أخذنا مكاناً في المقهى نفسه، في مركز الشيخ عثمان، وكانت هناك شهيدة بشحمها ولحمها تقبع في عمق المقهى، بجانب مباراة شطرنج باشرت المشاركة فيها من دون أدنى رغبة. كانت مضمّدة بضماد غريب في البطن ما زال يترك في نفسي حتى اليوم جرحاً قديماً لا يبرأ.

كان الجو حاراً، رطباً، مكهرباً في الواقع. وكانت التظاهرات التي دارت بالقرب من مباراتنا المضجرة سبب ذلك. ضجة صيحات صاخبة ملتهبة، راقصة تقضّ مضجع مدينة هادئة وادعة. وعلى نحو غير معتاد ينزل المتظاهرون الوالهون في «فرح ثوري» نحو عدن من جبال اليمن وحقولها في سيارات الحزب، يبدو عليهم المرح والنشوة وهـم يقومون بأول أطول رحلة إلى العاصمة. كانت الموجة الأولى قد وصلت هناك منذ أسبوع، حلوق ترعد بصيغ ذات رنين وقافية، تعلن في شعاراتها أن «حرق الشيذر واجب» (وكأن الطقس الملتهب بالحرارة لا يكفي!)، وأن تخفيض الرواتب واجب أيضاً، ويطلبون من «القادة التاريخيين الثلاثة» تقوية الخط «المعادي للرجعية»، يصرخون أن الشعب «كل الشعب» ماركسي (وهذا في الأساس لا يفتقد الغرابة والفاعلية والجاذبية، كما قال زميلنا عدنان)، ويتابعون في طرب:

ما نبا هبّي ولا شارلستون ما درينا هو صبي أو صبية

ما نبا خائن ولا خط رجعي والجماهير كلها ماركسية

خانت أفكاري عندئذٍ هذه المباراة التي أتجرّعها بمرارة وشردت نحو والدي. قلت لنفسي بمنطق حرفيّ صارم: إما أن قولهم «الجماهير كلها» غير صحيح وإما أن أبي على وشك أن يصبح ماركسياً.

back to top