بين الفدائي والفداوي

نشر في 11-07-2017
آخر تحديث 11-07-2017 | 00:16
 خالد حسين الشطي من الأمراض التي تعانيها الساحة السياسية، والعاهات التي تنزل بالمجتمعات وتُبتلى بها البلاد، والآفات التي تنخر أسس أنظمة الحكم وتتهدد بُنى وكيانات الدول... ظاهرة المزايدين. وهم نوعيات خاصة من المنافقين. ولا أقصد من المزايدة أصل الأداء السياسي المتقلِّب، الذي قد يقتضي ظاهراً وتكتيكاً معيناً هنا، ثم آخر يعاكسه هناك، بل أقصد نوعية لا تتبنى مشروعاً ولا تطرح هدفاً، ولا تحمل فكراً ولا تنتسب إلى مدرسة، ولا تتقيد بمنهج ولا تلتزم طريقة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من جذر ولا قرار، ما هي إلا محض المصلحة الشخصية والهدف الخاص.

المزايدون، هم المتبجحون بهتافات لا تعني لهم أكثر من إثارة الصخب ولفت النظر، والناعقون بشعارات لا يريدون منها إلا الجلبة والظهور في الحلبة! ملكيون أكثر من الملك، ومنادون بالوطنية أكثر مما تريد مصلحة الوطن، ومطالبون بمحاسبة الفساد بما يغطي عليه ويداري الخفي الأعظم... ومتباكون على الطائفة بإفراط ينقلب ضدها! وصوليون يعيشون أهدافهم، مال أو مقام أو شهرة، ودائماً سلطة، يمارسون في سبيل ذلك أي عمل ويلجأون لأية وسيلة، لا يبالون بشيء إلا مصلحتهم الشخصية الخاصة، في دونية ووضاعة قلَّ لها النظير، وخيانة تتنكر حتى للأيدي التي أطعمتها، وتركل الوعاء الذي تناولت منه وتلقت ما ملأ أرصدتها، وأدخلها في الملّاك بالمصايف والمنتجعات.

ينفعل أحدهم ويعلو صراخه ويبح صوته على أمر، وبعد لحظات، بل في نفس الوقت تراه يبتسم في داخله ويضحك، وإن لم يفعل ذلك، فإنه القلق على حاله والاضطراب من نجاح أو فشل خطابه، لا من مادة صراخه وموضوع صياحه! يغضب ويهيج، فيرعد ويزبد، وهو يتناول قضية ما، فتخال أن الضمير والوجدان والغيرة والشرف والإخلاص والنزاهة، وعدد ما شئت من قيم وكمالات، كلها انصبت فيه، واحتواها حتى صارت حكراً عليه، وهو يعيش في واقعه انعدام الإحساس وموت الضمير، وبرودة الجليد، وجمود صدام أمام بكاء الثكالى والأيتام! لا يبالي بشيء ولا يكترث بقيمة، لا وطنية ولا دينية ولا اجتماعية، إلا بمقدار ما تخدم وصوله وتأخذ بيده في سلم المجد الذي يتهالك عليه، وقد نزع في أوله كل عفته وتخلى عن تمام كرامته. يلعق الأحذية في الخفاء ويقبل الأرض بين يدي الأسياد، ثم يخرج في العلن يهاجمهم ويعبئ الجماهير ضدهم، فيرسم لنفسه صورة الأبطال المعارضين، والفرسان المقاومين، والشجعان المصلحين! فإذا نجح في استدراج السذج، وألقاهم في التهلكة، وقف مع المتفرجين، بل اندس في جحره وغاب كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد.

كثيرة هي الأمثلة، سواء الشعبية أو الواردة في تراثنا الأدبي وتاريخنا الإسلامي، التي تحكي الحقيقة التي أريد، والتي تضرب في المقام لبيان الحالة التي أعالج في هذا المقال وكيفية كشف هؤلاء وتشخيصهم... منها حكاية أم الرضيع التي تنازلت عن حقها في فلذة كبدها حين تساوت أدلتها وحجتها مع الأخرى المدعية المفترية، فأمر القاضي بشق الطفل نصفين، فآثرت حياة ابنها في أحضان غيرها على موته ونهايته. ومنها القول الشهير: ليست الثكلى كـ»النائحة» المستأجرة، وقول الشاعر: إذا اشتبهت دموع في خدود، تبين من بكى ممن تباكى.

قد يسهل عليك ويصح تطبيق العنوان وحمل المقصود من المقال على شخص محدد أو قضية بعينها... مزايد وصولي مبتذل، غامر في اصطفاف سياسي خطير، ودخل في نزاع الأسرة والمشروع الخليجي، فخسر الرهان، ليجد نفسه مفلساً صفر اليدين، ليس في جعبته إلا وريقات هم أعوانه من بقايا زمن العز والسطوة، ما زال يمنِّيهم ويخدعهم، يريد اللعب بهم وحرقهم، ليأخذ نواب الشيعة إلى صفوف المعارضة ويقحمهم في صراعه الخاسر، لا لشيء إلا ليعمهم ما نزل به، ويلحقهم ما مُني به، فيكون الجميع في الهزيمة سواء! وكانت مساهماته السابقة في التعيينات التي وفرها لبعضهم خدمته في أمرين: خلق حاشية يخوض بها مغامراته، ثم الموقع الذي مكّنه من أداء دوره في تنسيق وتدبير أزمة التأبين والبلاء الذي حل بتيار شيعي عريض. وها هو الآن يتحرى كارثة جديدة ينزلها بالطائفة، وهو يتقمص موقف مدام دي بومبادور عشيقة لويس الرابع عشر في ندائها الشهير: من بعدي الطوفان!...

قد يصدق هذا التطبيق والتحديد، ولكني أريد الحالة وأقصد الفكرة وأحارب الظاهرة، فهذا الشخص لا يلبث أن يزول ويختفي، وقضيته لن تطول حتى تتراجع وتنتهي، لكن الحالة التي علينا التنبه لها، والظاهرة التي يجب أن نقضي عليها، هو ما يخلص ساحتنا وينجي مجتمعنا ويحصِّن بلدنا، فكلما تراجعت ظاهرة النفاق في أمة، زاد فلاحها ونجاحها، وكلما تقدم المزايدون ونمت سطوتهم وخافهم الناس وراقبوهم، وارتزقوا من فتات موائدهم، دل ذلك وأشار إلى الفساد والانحطاط، ودق ناقوس الخطر على القادم من بلاء.

علينا أن نذكي في المجتمع حس كشف هؤلاء، ونسلط الأضواء على النماذج والشواهد ليتعرف عليهم الناس، ومن ثم يتعرفون على أساليبهم وطريقتهم، فتحوم الشكوك على كل من يسلك ذاك السبيل، وتقطع عليه وعلى مشاريعه الكارثية الطريق. علينا أن نميز العامل للمذهب وللطائفة من العامل لنفسه وتجارته، والفدائي الذي يفدي أهله ووطنه من «الفداوي» الذي يفدي سيده وعمّه، ومن يحمل صوت الشعب وصرخة الكويت، ممن يتوجع من إفلاسه ويتأوَّه لخسارته.

*عضو مجلس الأمة

back to top