حبر و ورق

نشر في 08-07-2017
آخر تحديث 08-07-2017 | 00:02
No Image Caption
ذاكرة التلاشي

مثل بقرةٍ مذبوحةٍ أخورُ فيخرج صوتي من رقبتي شخيراً مبلّلا بالألم والندم والخوف...

الخوف من الماضي والمقبل والمجهول، من هذه الكرةِ المتهرّئةِ التي ينخرُها العثُّ ويعيثُ فيها الطاعون والجرذانُ والخيانة.

لماذا أتذكرُ كلّ ذلك وأحشرُ الآخرين في جنوني وغرابةِ أطواري؟

أو لماذا أحتفظُ بأسراري في قلبي المُنهك؟

فأية أسرارٍ هذه التي أمنعُ الآخرين من معرفتِها؟ وليس بيني وبين العالمِ كلِّه سرٌّ... فلا حاجةَ لأن نكتمَ عن بعضٍ أسراراً أو خفايا، لعلها تُعرف من غيرِنا بعد حين.

هذا هو العالم جميل زاهي الألوان... لكنّ قلبَه من حجر، إن كان يمتلكُ واحداً.

قوسُ قُزَح يتستّرُ بهِ شيطان. ما الذي يمكنني صنعه معه؟ عالم بلا قلب كيف أخاطبهُ؟ أو كيف يفهمني إذا خاطبتُه؟

فما بيني وبينكم من سرٍّ... أنا ذلك الشريد الذي لا يعرف كيف يُعبّر عن تشرّدهِ ولا يعرف كيف يُفسّر هروبَه من واقعٍ قذر قبيح، ولا كرهَه لعالم قلبه من حجر؟

نفسي مُتخمةٌ بالمرارةِ والأسى حدّ الغثيان، فأريدُ أن أتقيأ... أن اقذفَ كل ما في جوفي... أريد أن أتخلصَ من كلِّ ما يُثقلني. أقيءُ كلَّ شيء حتى أحشائي.. كلّها.. لا أحتاجُ إليها.. سألفظُ قلبي أيضا فأستريح منه.

راحةٌ وخلاص أن يتقيأ المرءُ قلبه قبل أن يُنتزع منه عنوةً ويراه دامياً ذليلاً بين أيديهم يتقاذفونه عبثاً ولهواً: هذا قلبُه.. هذا هو.. فلنشاهدْ ما به.. لنمزقْهُ ونعرف كلَّ أسرارهِ. سأقذفهُ وأضع بدلا منه قلبَ حمار.. قلباً كبيراً وقوياً، ينبض في عالم آخر، يعزف لحناً لا أعرفه لأنني لم أُصبح حمارًا بعدُ، ولو أردت ذلك فالمسألة ليست بإبدال القلب.

وحيد أنا.. فلا الأرضُ ولا الإنسان.. ولا البهائم بقادرةٍ على إخراجي من غربتي القاحلة القاتلة. أريد شيئاً فأفعل غيره، أريدُ أن أُصرّحَ بأمرٍ فيتعذر عليَّ، لأن لغتي غريبة، أريد أن أغني فيخرج صوتي مثلَ خوارِ بقرة مذبوحة.. أُذبَح كلَّ يوم قرباناً.. ولدتُ في غير الزمان والمكان الملائمَين لي.. ميْتٌ أنا.. أعالجُ موتي كي لا يُحسَّ الآخرون به.. الآخرون الذين لا يفقهون معنى أن يكون الإنسانُ ميتاً وهو بينهم، يعمل معهم ويحادثُهم.

فقد سمعت الهذيانَ طويلاً.. طائعاً.. طفلاً يسمع إرشاداً.. راضياً.. أو متظاهراً بالرضا.. فلا ضيرَ أن أهذي:

الخريفُ آتٍ ربيعاً مُعتّقاً.. شيخاً يحاولُ إبطاءَ الزمنِ المسرع، يريدُ أن يوقفَه فلا يستطيع.. والخريف نهارٌ نحاسيٌّ مصهور يريدُ أن يُعيدَ صلابتَه وقوتَه من جديد.. الخريف لا يتوقف ولا يتأخر فأنصتوا:

لا رغبةَ لي في أغانيكم.. أريد أن أُصغي إلى ذاتي نصفِ المسلوبة لأسمعَ ذاك الغناءَ الذي أحبُّ.. أريد أن أسمعَ قلبي وهو يخفقُ مثل طبلٍ مخروق.. أريد أن أُصغي لصوتِ الصقيعِ يتساقط داخلي خجولاً.. بطيئاً.. كسولاً مثلما يريد، ذلك التناغم السحري دعوه يُفصح عن نفسهِ.. اتركوه ليعلنَ هيئتهِ، ودعوني مع نفسي استمع إليها تُردّد أغاني الغجر الحزينة، وهم يستعدون للرحيل.. كل يوم أرحلُ.. كلَّ يوم أُنشدُ أصواتَ الرحيل الحزينة، لكن أحداً لم يسمعني، أو لم يرغب أحدٌ بسماع أغنيّاتي.

قضيتُ أكثر من نصفِ عمري أسمعكم ولا أفهمُ شيئاً مما تقولون، ومما تتغنّون به وتفخرون وتُراؤون.. فإذا غنيتُ لكم تسمعون خوارَ بقرةٍ مذبوحة أو حماراً ينهقُ فجراً.

فهل تفهمون ما أقول: أنا لست منكم، لا أمتُّ إليكم بصلة إلا أنني أشبهكم في التكوين الظاهر، ليس غير هذا، وهذا ما لي فيه قدرة.

لا أفهم ما تفهمون.. لا أريدُ ما تريدون.. لا أحبُّ ما تحبون.. لا أكره ما تكرهون.. لا أُحرّمُ ما تُحرمون.. فما الصلةُ بيني وبينكم؟ اتركوني، انسَوا شخصاً وُلد بينكم يحملُ في داخلِه حيواناً خرافياً أو عبداً لألهٍ أسطوري لا تعرفونه.

ألا يولد بينكم شاذّون في الشكل أو حتى في طرائقِ التعبير؟ ألا يُولد بينكم ميتٌ تدفنونهُ بعد ولادتهِ مباشرةً؟

ادفنوني إذن. أنا أُعلنُ موتي منذ زمنٍ.. أنا ابحث عمّن يدفنُني حياً أو ميتاً مثل من تدفنون. ثم انسوني، وأمروا تاريخَكم المُصاب بمرضِ بالنسيان أن ينساني، وهو رغماً عني وعنكم سيفعلُ ذلك، أيضر أحداً هذا؟

إذا صعب عليكم دفنُ حيٍّ إذن فاستمعوا إلى نبضاتِ قلبه، ولآهة شكواه، ولآيةِ بلواه لعله يؤمن بكم: لعله يعود إلى حظيرتكم فيمارس حياته بهدوء ووداعة، دونما إيذاءٍ لأحد، ولا إزعاج، وسيدعُ لكم الصراعَ على حبةِ قمحٍ أو ملعقةِ سكّر أو بيضة، تصارعوا واقتلوا بعضَكم من أجل بطونكم، اسحقوا الضعيف، بل كلوه لتشبعوا.

فكيف تفهمون أغنياتي؟

أغنيات الغروب، والرحيل الحزينة..؟

ضائعٌ أنا...

غدي أجهله، وأمسي، سنين من الترقب والتحفظ والخوف ومعاناة العجز.. يا ويلتي من العجز.. أن ترى من تحبُّ يموت، يغرق وليس بوسعِك أن تنقذَه، ترى من تحبّ يرحلُ بعيداً من دون أن تفعل شيئاً، إلا دمعةً تذرفها – وربما لا تتمكن – عليه حزناً، سيأتي حزنٌ آخرُ فيمحوه.. أن ترى أوصالك تتقطّع واحداً تلو الآخر وأحشاءك تُنتزَع واحداً بعد واحد وأنت عاجز تماماً.

أنحن لعبة في يد الدنيا تسحقها متى ما ملّت منها أم أيدي أصحاب الدنيا؟

كيف نعيشُ غرباء دوماً نوغلُ في الغربة.. كلما طال الزمان بنا، لا نصير ولا أهل ولا وطن، لا نجد من نكلمه وإذا وجدناه فلن يفهمَ ما نقول.. أو يُفهمنا بما تبيحُ أو تسمحُ له به ثقافتُه وتتيح له نفسُه؟ كيف نعيش في «بيت العنكبوت» هذا؟

وها أنا لا أجد من يفهمني إلا نفسي، ولا من أكلّمُه إلا إياها. أفقد دوماً مثل شجرةٍ حاصرَها الخريف... سأنتهي عما قريبٍ لأنني افتقدت جلَّ ما عندي، ولم يبقَ إلا هذا الجسدُ الذي تملكهُ بل تملك خيراً منه معظمُ البهائم.. ولربما صرتُ أحسدُ كثيراً من البهائم لأنها لا تزال تحتفظ بكثيرٍ مما خُلقت به أو اكتسبته فتسرح وتمرح لتعيشَ وتتكاثر، ولأنها – بعدُ – بهائم.

كيف لي أن أعيش في عالم يتصارع أهلُه على بيضة.. يقتلون بعضَهم من أجل أن يصعدوا في سيارة.. من أجلِ أن يفوز أحدهم بنظرةٍ أو كلمة غزَل من امرأةٍ جميلة يتنافسون في لفتِ انتباهها (قُتلَ شاب طعناً بالسكاكين، وبعدما تدخلت الشرطةُ وطاردت القتلة وقبضَت على أحدِهم.. اعترفَ بأنّهم لا يعرفون الشاب وليس بينهم وبينه ثأرٌ، إنما قتلوه ليسرقوا سترته الجلدية)... لا أريد أن أعيش بينهم.. لا أريد السيارات ولا البيض ولا كل الطعام ولا الستر الجلدية التي ثمنها الدم.. أريد أن أحيا مثلما خلقني ربي وأراد لي.

هل خُلقت ضالاً لا أعرف أين أضعُ قدمي؟

هل كُتب علي التشرّد والتسكع في دنيا ليس لي فيها أن أضعَ رأسي مستريحاً مثلما يفعلُ الناسُ ويحلمون بالخير والشر.. وأنا إن وضعتُ رأسي فلا أحلم إلاّ بالشر.. بالحرائق التي تُدمّر وتلتهم كلّ شيءٍ، وتحيط بكلِّ شيء ولا أحلم إلاّ بأني مُطارَدٌ مطلوب لو أُمسك بي سأُعلّقُ مثل شاةٍ مذبوحة في دكان القصاب.

وذلك لأن هذه الدنيا بغيٌّ لا ترحم.. لا تحبّ ولا تكره، بل هي مَطيّةٌ للذين يعرفون كيف تُركبُ المطايا والبغايا، فتهبُهم كلَّ زينتِها وفتنتِها.

ولأنني لست كذلك، أحلمُ بقلبٍ يخفقُ بحبي وعينين كحيلتين تعبثان بي وصدرٍ دافئ في الشتاء، ونسمةٍ عذبةٍ في الصيف.. أحلم بالحبّ والجمال سيدين بين الناس. ولأني لا أجيد ركوب البغايا، فقد تركتني جثةً فيها ثمالة إحساسٍ بالتعاسةِ والألم.. جثة تتخبّط في خواءٍ وظلامٍ لا أوّل له ولا آخر.. إني كطيرٍ أدركَه أجلُه.. يستعيد عمره الضائع وهو يُحتضر.

نعم.. جعلتني كائنا مشدوداً إلى ما لا يريد من صوَرِ الحياة.. مربوطاً بالقوة إلى ناعور، أو أنا هو الناعور الذي يدور ويدورُ من دون أن يعرفَ لماذا يفعل ذلك.. مثله تماماً سُلِبت إرادتي وسُلبت أشياء أخرى عزيزةٌ علي أفقد دوماً مثلما طائرٍ يُنتفُ ريشُه حتى يغدو مخلوقاً لا يُشبهُ أيّ طائر.. فكيف أحمي ريشي من أن يتطاير أو أن يُنتزع.. وكيف أظلُّ حيّاً مثلما أريد، لا مثلما تريد لي شهواتُ أناسٍ لا أحترمهم.. بل احتقرُهم.. أتقزّزُ لسماعِ أصواتِهم.

لذلك كلِّه.. نفسي مُتخمة بالمرارة والأسى حد الغثيان.

ولذلك كلِّه أريد أن أتقيّأ كل شيءٍ.

متى انقرض العالم وتحوّل إلى يبابٍ أو متى سينهار (لقد رأيتُ بعيني الماءَ يغمرُ هذه الأرض، يصعدُ من الأسفل فيُغطّي المدنَ والجبالَ والسهول.. ينهارُ كلُّ ما أمامه، حتى وصل إليَّ، امتلأت الغرفةُ.. وصل الماءُ إلى رقبتيي ثم خياشيمي.. نفَسي يخذلني).. اختلطت عليَّ الأشياء.

لعلّ الأمر ليس بيدي فالصورُ والأحداث تنهالُ عليَّ.. تتسابقُ حولي بسرعة وأحياناً تصفعُ وجهي مثل الأسماك الطائرة.

لكنني سأبوحُ بكلِّ شيءٍ رغم خوفي وصوتي الذي يخرج من حنجرتي المثقوبة حشرجةً غير مفهومة مثل صوت الجرّار (أذكر أن لدينا واحداً جديداً أحمرَ اللون لكن السائق كان سكراناً – وهو الوحيد الذي يعتلي صهوتَه بفخرٍ كفارسٍ من القرون الوسطى – فأسقطَهُ في النهر، حينذاك لا أفهمُ أن يكونَ الإنسانُ سكراناً وكيف يرى الأشياء. وبعدها لم يشتغلْ إلا بعدَما جاء رجلٌ من المدينة وفتح وأغلق أشياء فيه لا يعرفُها غيرُه، وهما صامتان.. الرجلُ والماكنة.. بعد ذلك عادت الحياة إلى التراكتور «الجرّار»).

أبواب الفجر

ها هي الأرض التي وعدني بها الشيخ الجليل العارفُ بالله. ستُكتبُ لك بها، قال، حياة أخرى، فلا تكن من المفسدين!

أوصى بها جدّي القطبُ والدي، رحمهما الله. وورثتُ مصيرها بعدهما. كانت مرصودة لك في اللوح، فخذ بيمينك، وأطع الله، وأصلح، إن الله يحب المصلحين.

وقفنا على قمّة التلّ وقد اقترب المساء. تخضّر الأرض عند السفح، وينبسط السهل مترامي الأطراف إلى أن يعانق زرقة البحر في الأفق البعيد. ليست رحبة مثل تلك التي تركت خلفك. أرض جدك وأبيك. ستظل ذكراها تعذّبك وتحنّ إليها ما نبض فيك عرق ومازجت بدنك الروح.

خرجتُ من أرضي مدحوراً، تائهاً، لا أتوقّع من مقبل الأيام سوى الذُّل والعذاب. كيف يعيش من لا أرض ولا ظهر له! أيمكن للإنسان أن يبدأ من جديد؟ أن يبني حياتين في حياة واحدة؟

سننزل الليلة هنا فوق التلّ، وغداً ندخل أرضنا الجديدة بإذن الله.

تركهم ينزلون الرّحل عن ظهور البهائم، وقد بدا عليهم التعب من طول الطريق ووعورته، وأكمل الصعود وحده إلى قمة التلّ.

اختار صخرة كبيرة بدت منعزلة في كبرياء، عن بقية الصخور والحجارة، وجلس فوقها متكئاً بيمناه على عصاه، وأرسل نظره نحو مغرب الشمس. تتوالى سلاسل الجبال عنيدة مرهقة. لا يصدق أنه قطع بأهله كلّ تلك الأهوال.

تذكّر كيف وقف هناك، في عالم آخر، يتأمل، مودِّعاً، أطيافَ آخر السهول الخضراء، ثم أخذت الأرض في الصعود، وكلما صعدت كثرت الحجارة والصخور، واختفت التربة الغنية الناعمة، كأنما الأرض، وهي تفارق تلك الجنان الواسعة الفيحاء، ينقبض قلبها ويتحجّر، فيطفو حزنها على السطح.

هل كنت تتصور يوماً تضيق فيه بكَ أرضك فتُبتر منها وتَرحل؟

إلى أين؟ لست تدري!

هل سيرسو بك المقام يوماً أم ستظلّ هائماً على وجهك طوال الدهر؟ أتبحث عن جنة أخرى وتبدأ فيها من جديد أم سيذهب عمرك حسرات على أرض أجدادك التي بعتها بأبخس ثمن وهربت؟

لم أهرب! إنما كنتُ أحمي أبنائي، نسْلي، من الفناء. لو هلكتُ مثل أخي، من كان سيحمي هؤلاء؟ لا حول لهم ولا قوة! لا يزالون صغاراً، لا يقدرون على حمل السلاح.

لم أهرب! لست جباناً. الكل يعرف ذلك. وأوّلُهُم أعدائي. أنا لم أترك ثأري. لم يضع دم أخي هدراً. ثأرث له. كانوا عزوة وكنت وحدي. لكنني لم أتراجع. الجميع نصحني بالحكمة والصبر من أجل أبنائي. قال الشيخ الشريف: يا الطّاهر لا تكمل الطريق! هذا طريق أوّلُهُ غواية، وآخره دم يهراق، ولا ترتوي منه الصدور. اتّعِظ! الدّم ينادي الدمّ، وأنت وحدك. وصغارك لا ريش لهم، فما مصيرهم بعدك؟ حذرت أخاك، رحمة الله عليه، عندما رأيت فحيح الرغبة يتطاير من عينيه. لكنه لم ينصت. قال أريدها وتريدني وستكون لي وحدي. وكان ما كان. حزنت لموته ولمت نفسي لأني ربما قصّرت في نصيحته. كان عليّ أن ألحّ أكثر. ربما كان... لكن أحقاً كان ينفع النصح؟

أبداً أيها الشيخ الجليل. لم يكن لينفع لا النصح ولا التحذير. ذكّرته بأبنائه وبزوجته. قال: عيناها السوداوان نادتاني فلا تحاول! قلت عداوتهم لنا قديمةٌ ولن يرضوك أبداً لابنتهم. قال هي في أيديهم أجمل، وسآخذها، ولن يضمّها غيري. قلت سأمنعك من أن تلقي بنفسك إلى التّهلكة. راقبته ليل نهار. أخذتُ منه سلاحه. قال تريدهم أن يقتلوني مثل كلب من دون أن أستطيع الدفاع عن نفسي؟ لم أتحمّل صوته المجروح كالمستغيث فأعدته إليه. كان طول الوقت، وهو يعمل في الحقل، أو خالياً إلى نفسه، يغني ويهزج بالأشعار. كان شعره يسيل رقة يتفطّر لها القلب، لكنّ عينيه تقدحان الشّرر.

وكنت أعجب كيف يجتمع فيه ما لا يجتمع.

ذات فجر افتقدته فلم أجده. لم يكن في حجرته حيث انعزل في الأيام الأخيرة عن أهله ولا في جوانب الدار. ناديته بأعلى صوتي، فارتعب كل من في البيت، وهرعوا من نومهم إلى الخارج مفزوعين. وقفت زوجته في الفناء تحضن وليدتها، والدمعة مشبوحة في مآقي عينيها. نظرت إليها. قالت بنبرة بعيدة كأنها فقدت صوتها القديم، واكتسبت صوتاً جديداً سيلازمها إلى آخر يوم في حياتها. صوت مستسلم، حاقد، مجروح.

- قاسم لن يعود.

لم تضف كلمة أخرى، وصعدت الدرج المؤدّي إلى غرفتها، وخلّفت أبناءها يتطلّعون إليها، وإلى من حولهم عندما غيّبها البابُ، تحاول عقولهم الصغيرة أن تدرك سرّ الرهبة المخيّمة على الوجوه.

صحت في الجميع أن يعودوا إلى غرفهـم. أخذت بندقيتي الخمّاسيّة، وهرعت إلى الإسطبل. أسرجتُ حصاني الباز، وانطلقتُ أسابق القدر.

لا أثر.

خضتُ كل السّبل. لا تكاد حوافر الباز تطأ الأرض، كأنه يسبح في لجّة من غبار. لم أفق من جنون الركض إلاّ والعصر قد تقدّم، وآذن باقتراب الغروب. ترجّلت عن الباز وقد اغتسل بالعرق، وخارت قواه، حتى أشفقتُ عليه من الهلاك. قدته راجلاً إلى ساقيةٍ ضحلة الماء، وأرخيت لجامه، وأويتُ إلى ظلّ شجرة تين، أعاود التخمين والتفكير. فجأة انتبهت إلى أني كنت طوال الوقت أردّد لازمةً واحدة، مرة بصوت مسـموع، ومرة تغيب في الأعماق، فيردّدها العقل والقلب بمرارة، ولا أدري ألوماً كانت أم تحسراً أم رثاء:

بالله عليك يا قاسم لمَ أهلكتَ نفسك وأهلكتنا معك؟

أيّ أرض ستأويك؟ وأي ظهر سيحميك وأنت غريب الأهل والدار؟

لن يهدأ أهلها حتى يثأروا منك. لن يعيش أهلنا بعد اليوم في سلام. يا الله! تركتُ أهلي بلا حماية وخرجتُ في أثر قاسم. ربما عاثوا في الأهل والمال فساداً. حبّك يا قاسم أذهل عقلي فأضعتُ كل شيء. لن يشفي غليلهم إلا السّبيُ والتقتيل والتحريق. أسرعت إلى امتطاء الباز، وانطلقت نحو الديار، لا ألوي على شيء.

أهلي! ربّاء أهلي! كانت الصور المفزعة تتراءى في ذهني كالكوابيس السوداء. لن أترك لهـم فوق الأرض من أثر! سأحرّق عليهم ديارهم، وأقطع نسلهم، ولو احتموا بباطن الأرض أو قلل الجبال. كانت عيناي تسابقان مسافات السهول المنبسطة، تستجليان الأفق في قلق، متوقعتين في كل آن نذيراً يطوي الشكّ باليقين. كان وقت المغرب قد فات بقليل عندما تراءت لي أنوار الديار الخافتة، فتمتمتُ بالحمد، وجذبت لجام الباز برفق لأريحه من جنون السرعة، التي حملته عليها منذ انطلقت، فأدرك القصد، واستروح الديار، فحمحم طويلاً، مسترسلاً في خبب، وهو يحني رأسه ويرفعه، كأنه يستبطئ الوصول إلى مستراحه.

back to top