حبر وورق

نشر في 01-07-2017
آخر تحديث 01-07-2017 | 00:02
No Image Caption
خيبة

فجر عيد ميلادي، دخلَ غرفتي وكنتُ في التغْفِيق من النّوم، أحسست به يسحب ورقةً من فوق مكتبي...

عندما استيقظتُ استفسر عن كآبتي في الكتابة:

- «ليس كلّ ما ترجوه تُدرِكه، ولا ما تُعلّقُ به الآمال يدوم... قرأتَ لي وصفاً عن المنيّة، وهي كم تغدو، لو تُدرك، قريبةً حين تسلبُ البهجة عن الوجوه، وليْت الرّوحُ تُوهَب لها كهديّة وتنتهي بذلك القصّة قبل فصل الخيبة».

حملت حقيبتي وخرجت...

العِطر الخامِل نفسه للوُرود علَى شُرفتِنا، ككلّ صباح، تِلك الشمس لا تسأمُ من أن توقْظني باكراً. رُغم أنّي لستُ بحاجةٍ إلى شيءٍ يُذكّرُني بأنّ النوم بِقاموسي قد مَحَت حِبرَه الذكريات.

في الطابق الثاني تماماً بالعِمارة السالِبة لإطلالتين، كعادتي أشتاق إلى نسيم إسطنبول الصباحيّ، لأنتفض من مكاني وأسحب الستائر البيضاء القديمة، وأفتح باب الشرفة، لا أذكر لماذا تسرقني كلّ صباح تلك العفويّة بالخروج وتسليط نظرة على الشارع، كأنّي أتأكدّ من أنّ لا شيء غيّر مكانه، من أنّ كلّ زهرة لا تزال جاثِية في الحالة نفسها التي تركتها عليها ليلة البارحة بعدَ أن تأخرتُ في النّوم...

أسرق نظرة إلى الأسفل لأتأكدّ من أنّ زهور «نيهان» لا تزال ترتدي الأبيض والأحمر، إنّها أزهار «الساردونيا» أو فلأُسمها كعادتي «الجيرانيوم» ذاك حينَ أتعمّد التمرُّد على الحروف، أتمرّد طمعاً في الهروب ليس إلاّ...

يميناً ككلّ يوم سألمح «أورهان» يُملي الأوامر على موظفته الحسناء «هيفين»، بتُّ أحفظ الأسماء رغم أنّي لم أدخل يوماً ذاك المطعم الخجول «موجفير» (Mücver)، أحياناً ألمحُ خلفه عمّال متجر «كوش» (Koç) دائبين على ترتيب المحلّ وتلميع الزجاج... ليس غريباً أن تدبَّ الحياة هُنا مع خيوط الشروق الأولى، فالكلّ يملكون رغبةً عجيبةً مع كلّ صباح ليقدّموا الأفضل، ما عَداي أنا، أحاول ألا أنظر إلى وَاجهة الشرفة، لكنّ شجرة التوت تجذبني بزقزقة عصافيرها، لا أعلم لِمَ أحسّ أنّ هذه الشجرة مقرّ تجمّع لكلّ عصافير إسطنبول، أكره كلّ تلك الجلبة التي ستعلو شيئاً فشيئاً حتى المساء، خلفها تعلو مئذنة المسجد الذي أسميتُه في صِغري بالمسجد الأخضر حينَ تعلّمت الألوان، المسجد الذي، حين تعلّمتُ القراءة، أدركتُ أنّه بُنيَ في عام 1491 ميلادي، كنتُ أُعجَب بالرقم كثيراً ولا أذكر السبب لذلك، ذاك المسجد الذي سُميّ كاسم الشارع المُقابِل لنَاظِري والذي يلتقي بشارع بيتي على مرمى نظري. تستوقفني تلك الساحة الصغيرة أو فلأُسمّها الحديقة التي تحولُ أغصان أشجارها بيني وبين رؤية المسجد بأكمله، هناك في رُكنٍ منها يُدوِّي صوت زقزقة العصافير منبعثاً من شجرة التوت فأنتفض من شُرودي وأنتبه إلى أنّي أطلتُ المكوث هنا، فلا النّبع سيُغيّر مكانه ولا لوحة إعلانات نهاية الأسبوع ستتغيّر اليومَ فاليومُ هو الأربعاء...

عِمارتي، القابعة في شارع «تُركغوجو» (Türkgücü) والمُطلّةِ برُبعٍ على شارع «بالاسكا» (Palaska) بلوحة ترقيم زرقاء قديمة، ترسم بسمةً رقمها 57. انتبه إلى أنّي أقف على عتبة الشرفة أهُمُّ بالدخول ولم أفعل بعد...

هيَ غرفتي الآن لكنّها لم تكن كذلك في صِغري، فقد كانت مِلكَ والديّ، ليست بالحجم الكبير المزعج ولا بالصغير الذّي يخنق، لكنّها تنعم بأكثر من اللاّزم من أشعة الشمس، أكاد أجزم كلّ صباح أنّي أعيش في أقرب بُقعةٍ لنورِ الشمس. كثافة النّور هنا جعلت النباتات تتحدّاني لِترسم من غُرفتي لوحةً يغلب عليها اللّون الأخضر، رغم أنّي شخصيّة لا تَستَهوِيني الألوان في ديكور البيوت، فمفروشات غرفتي كلّها بيضاء، مِن الوسادة إلى الستّائر، وحتى الرّخام الذي بُسِطَ بالأرضية. سريري الذي لن أُرتّبه، ككلّ مرّة، ينام على حوافه بعض الروايات وقلمي الرصاص، بعضُها قرأته منذ مدّة طويلة لكنّي لم أُكلّف نفسي عناء ترتيبه مع كُتبي على الرّفوف الخشبيّة التي فرَشتُها بالدانتيل الأبيض. لم أكن يوماً بهذا الاستهتار في ترتيب أغراضي لكنّي منذ مدّة تغيّرت كلّ تفاصيل حياتي، فبات النظام لا يستهويني، حتى أنّ مكتبي أحياناً أفكّر بحرق كلّ ما عليه من أوراق، فقد أتعبت كاهله... ولا أذكر متى كانت آخر مرّة جلست إليه لأكتب...

لم تكن أوّل مرّة أسافر فيها، لكنها حتماً أوّل مرّة أحسّ أنّي انتقلت بالزمن إلى زمن لا وقتَ فيه.

دَلَفنا البيت، كنتُ أحمِل حقيبتي التي توهِمُ أنّي في عطلةٍ قصيرة المدى، وأجرّ حقيبة أخي الذي يصغرني بأربع سنوات «طوفان»، بينما آثَر هو أن يُمسك بِيمين والدتي ويسيرا قبلي ببضع خطوات. ذلك البيت الذي استمتُّ وأنا أحاول التأقلم على زواياه.

لم أسمع من قبل عن الجزائر كثيراً، ولم أكن أدرك إلى أيّ المستويات قد وصلوا ثقافةً وتفكيراً، إنّما الصورة التي لقيتُها في الأوّل لم تكن ذاتها التي ظلّت معي خلال إقامتي هناك.

كان البيت مؤثثاً بطابع شرقي بامتياز، أرضيته كلّها كانت رخاماً أبيض، بِخلاف غرفتي التي كانت أرضيتها كرقعة شطرنج، ربّما لذلك باتت حياتي من يومها صعبة كدَورِ شطرنج مُستعصٍ.

كان البيت، والذي انتبهتُ إلى رقم بابه فَورَ وصولنا والذي كان كدمعة رقمها ستّة 06، واسعاً جداً لا يُطاق، (أو ربّما لبرودة مشاعر من فيه). ما إن اجتزنا الباب حتى قابلتنا طاولة فاخرة وُضِعت فوقها مزهريّة من الخزف الصينيّ القديم الشديد الدّقة والإتقان، زيّنَتها باقة وردٍ أحمر. كان ذاك المنظر كفيلاً للإيحاء بالرُقيّ... وضعتُ حقيبتي وتركت أمامها حقيبة «طوفان»، الذي راح يركض فرحاً بالبيت، لقد أصرّت أمّي طوال الطريق أن تصف له أجمل ما قد يكون هنا بينما كُنت أستمع لهما بنصف عقل ورُبعِ اهتمام، كنتُ أرى أنّها تتمادى في تجميل المجهول عنّا وعنها، لكن ربّما رأت أن الأفضل لـ «طوفان» أن يبني أحلاماً ورديّة على أن يُصيبه جنون التشاؤم، كما تُلقّبه أمّي، الذي يُصيبني، لكن بالنسبة إليّ كان الأفضل لها لو صارحته بشي عن الحقيقة التي نجهلها كيْ لا تنكسر أحلامه دون سابق إنذار...

نظرت إليّ والِدتي كأنّما تسألني عن رأيي في البيت، ثمّ بدا عليها الاستياء لإدراكها فعلاً أنّ التشاؤم طغى على تفكيري كلّه هنا، وأجبتها بابتسامة مُجرَّدةٍ من الحياةِ مريرةٍ، لنْ أدّعيَ الفرح لكني لن أكسر فرحتها هي أيضاً.

قالت لي:

- سنرى غرفتكِ، متأكدةٌ أنّها ستروقكِ!

ربّما... لولا لعبة الشطرنج التي وجدتُ نفسي مُرغمةً على مواصلتها منذ أوّل يوم دخلت فيه تلك الغرفة.

كانت في آخر الرِواق، خامِس غرفة، كانت جدّ واسعة ولطالما أحسستُ أنّها فارغة، خُصوصاً أنّ أغلبها يجعل الأرضيّة بارزة أكثر، لم تكن بأيّ الألوان البسيطة التي اعتدتُ عليها، حِيطانها كانت مطليّة بأسلوب جميل، منقطّة بألوان عدة، رمادي، ورديّ باهِت وأبيض، وبعض الذرّات اللاّمعة الفضيّة التي تعكس وقت المغرب أشعّة الشمس فتعطي منظراً وهّاجاً رائعاً... لم يطغَ اللون الوردي كثيراً على الألوان، آآه بالطبع لعدم إفساد رقعة الشطرنج!!!

لِوِسعِ الغرفة كان فيها نافذتان من خشب لامع، تغطيهما ستائر بلون رماديّ فاتح، عن يسار الغرفة سرير مرتّبٌ باحترافية، لم يكن بالحجم ذاته لسريري في إسطنبول لكنّه مقبول كذلك، فقد كنت أخاف الأسرّة الضخمة، لكنّ مجموعة الوسائد التي تُغطّي ثُلث مساحته تجعله جميلاً بلا شك، خصوصاً بألوانها الدافئة المماثلة لألوان الغرفة، بالإضافة إلى وسادتين مربعتيْ الشكل سوداوين صغيرتين... آآه، الرّقعة مجدداً...

لم أشأ الإطالة كثيراً وبرغم أنّي كنتُ أتوق للنوم من فرط تعبي وإرهاقي، فضّلتُ الاستدارة لوالدتي التي كانت مبتسمة، لألمح خلفها «طوفان» يحشُر نفسه كيْ يُلقي نظرة على غرفتي ويصرُخ بانبهار الأطفال وبراءتهم. لمحت أمّي فأسرعَت بالسؤال:

– هلْ أعجبتكِ؟

لم تترك لي فرصة الردّ لِتُضيف:

– لقد حاولتُ قدر الإمكان أن أشرح لِـ «عزيز» أمنية طفولتك التي لم نُحققها لكِ.

أكتُب... أكتُب لكن لَيسَ لأحد، رغمَ نبرة المخاطب التي تردّدت دوماً في كتاباتي... أكتب لأخرج من وِحدتي... لكنّي عزِفت عن الكتابة منذ أسابيع، ربّما أصِبتُ بنوبة الكآبة المعتادة، فذاك الشيء الوحيد الذي يُمكنُه صدِّي عن الكتابة، فالكتابة حياة بالنسبة إليّ.

آخر شيء كتبته تركتُهُ هنا، على مكتبي، على الورقة التي غطّاها الغبار:

«أفكار متضاربة... لا بأس، غداً سأجد نفسي مجدداً».

ولم يحن بعدُ ذلك الغد الذي انتظرته من حينها، أحاول التذكّر بأيّ الأشهر نحن، أحمل هاتفي الذي بات مهجوراً منذ قرابة الشهرين، إنّه العشرون من يوليو، أربعة أيّام عقِب ما تخلّل الدولة من ضجّة، لَم أهتم بالأمر كثيراً، خرجتُ ليلتها ساعة من الزمن في جولة خفيفة وعُدتُ بعدها، لم يكن لديَّ ما أخشى عليه...

أرتدي ثيابي كَعادتي بتثاقل وأنحني ألتقطُ حِذائي وأمضي...

كأنّ شارِع |تُركغوجو| لا يسير بِنظام الكونِ المُتغيّر، لن أبتعد كثيراً اليوم، على حدّ بَرمَجَتي، سأُلقي نظرةً على ميدان «تقسيم» (Taksim) وأعود من فوري، تعوّدتُ ذلك، ففي صِغري كنتُ، حين أُنهي يومي الدراسي في مدرستي التي كانت قريبة من البيت، أسلك الشارِع الموازي لشارعنا الموصِل تماماً إلى «تقسيم».

الطريق وإن ظهر لي في صِغري طويلاً لم أكن أكترث مطلقاً لذلك، كان للمكان قدسيّة عندي، وتعوّدتُ تقديس عاداتي، أذكر جيّداً متى بدأتُ تلك العادة، وقد كنت من قبل أزور المكان لكن لا أكون وحيدة، وأذكر تماماً نوبة الجنون التي انتابت أمّي حينها، وحين لم أعد باكراً إلى البيت. بَعدها تعوّدت هيَ كذلك ولم تعد تكترث للأمر، ما دامت تُدركُ أين سأذهب ومتى أعود.

قطعتُ مسافة السبعمئة متر مشياً كعادتي، بخطواتي الثابتة، متلهّفة للوصول كأنّي مشتاقة أو أنّي متأخرة عن موعد ما قَطَعتُه.

بنات خودا

(هامبورغ ألمانيا - الزمن الحاضر)

اسمي شيلان، عمري اثنتان وعشرون سنة، وأنا من الديانة الإيزيدية.

لم أتعرّض للسبي من أي وغد من أوغاد داعش. لم أعش حتى في العراق، بل في هامبورغ في ألمانيا منذ كان عمري سنتين. نعم، أنا سعيدة هنا. وهل يمكن ألا أكون سعيدة وأنا في أمان مجتمع راق وحضاري، فيما السكين حزّ طويلاً وبضراوة رقاب أبناء طائفتي، وبلدي الأول؟!

أحزن عليهم بالطبع. لا تعتقدوا أن الكوابيس لم تسكن لياليّ مرات كثيرة وخصوصاً حين تنساب دموع أبي لاإرادياً من عينيه، وهو يخبرني عن طفولته، ورفاقه وعظمة وطنه العراق الذي غادره عندما كان الدكتاتور صدام حسين في عزّ بطشه. لكنني لا أكنّ المشاعر نفسها لهذا البلد الذي لم أزره إلا مرتين فقط، ولأيام قليلة، لم تكن كافية لتصلني بنبض التراب الذي يكوّن كياني وذراتي، وجيناتي.

ومع ذلك، أبكاني كثيراً مسقط رأسي سنجار في شهر آب/ أغسطس، من العام 2014، حين فتك بهذه المدينة شياطين داعش، حرقاً، وسبياً للنساء وذبحاً، وتنكيلاً. بكيت حين لم تجف دموع أبي أياماً بلياليها، وبات صراخه ونشيجه أشبه بالعويل.

نعم، نحن نؤمن بالله وإن كان تاريخ ديانتنا، وتفاصيل العبادة وطقوسها ليست من نقاط قوتي، لكني شاهدت كيف ارتبك العالم، وتسابق الإعلام لكشف أسرار هذه الجماعة الغامضة على تخوم الموصل بعد اللعنة، والوحشية، والمجازر التي اجتازتها في السنوات الأخيرة.

قيل عنا الكثير. إنّنا نعبد الشيطان، أو إننا ديانة منحرفة منشقة عن الإسلام، أو إن عباداتنا وطقوسنا هي خليط من ديانات قديمة كالزرادشتية والمانوية، أو حتى إنّنا ننتهج ديانة توفيقية، تقتطف من التقاليد المسيحية واليهودية والإسلامية.

بدأت أهتم قليلاً بالتعرّف إلى أبناء شعبي، بعدما اعتقدت أنني ألمانية الهوى والانتماء. لكن هذا الاهتمام، نما بكل حزن فيما شعبي غارق في دمائه والعالم يرثيه كما يجيد الرثاء ببراعة، أمام جثث القيم، والحقوق المهدورة، والأطفال الممزقة، والإنسانية المغتصبة كضرع بقرة مذبوحة.

حفظت عن أبي بعض الأمور المتعلقة بديانتنا، ومنها عن شخصية تاريخية تدعى عدي بن مسافر، فهمت منه أنها موضوع إجلال وتكريم على مرّ العصور. قال هذا العدي عن نفسه:

«كنت حاضراً عندما كان آدم يعيش في الجنّة

وكذلك عندما ألقى النمرود إبراهيم في النار

عشش هذا الدعاء في نفسي وخيالي بقوة. هل فعلاً كان عدي هناك في لحظات الخلق والأسطورة؟ هل نحن من ذرية الخلود والأقوياء؟ وهل هذا يفسّر كيف أن أكثر من سبعين حملة إبادة تعرّض لها شعبنا، لم تنجح في محونا، ومحو تاريخنا، وديننا، وعاداتنا؟

أحببت عدي هذا. وهو على اسم والدي.

هذا الوالد الذي تشرّب من الغرب احترامه للمرأة وأنفاس الحرية.

عدي مراد، هو الصدر القوي الذي تربيت في ظلّه، بلطف، وحنو، واستقامة، وأمان. كان ذلك قبل أن يأتي أعمامي إلى هامبورغ. وهذه هي الدوامة غير المعقولة التي تخضّ حياتي في هذه اللحظة.

الحمد لله أن أبي وقف إلى جانبي بكل أمانة وصلابة، برغم حدّة الأجواء بين عائلتين شقيقتين.

كان السجن بدأ يضيّق الخناق على عنقي، بسبب تدخل عمي سالار الدائم في شؤوننا. ولم تكن نظرات ابنه أزاد لي أفضل حالاً. كان دائم الحزن والانتقاد حتى من دون أن يتكلّم.

كيف يحصل هذا ونحن في ألمانيا؟

كيف يحاولون إجباري على الارتباط بشخص لا أريده؟

كيف يقول لي عمي: «إما أن تكوني لنا، وإما لا تكونين»؟

هذا جحيم مطلق لم أنجح لوحدي في مواجهته لولا أبي. وفي غياب أمّي التي سرقها الموت وأنا بعد طفلة.

على أي حال، نسيت أن أخبركم أمراً سيذهلكم. هنا في ألمانيا، يرتجل رجالنا ذكوريتهم، كما لا يفعلون في أعتى المجتمعات العربية.

هنا، يريدون أن يبسطوا صحراءهم في حدائق هامبورغ، وهانوفر، وبرلين.

هنا، تذبح الفتاة بسكين الشرف.

ولن أخبركم أكثر عن الشرف فبالطبع تعرفون جيداً جغرافيته وموقعه الحميم.

***

أنا أزاد مراد. عمري خمس وثلاثون سنة. كنت آخر من وصل إلى ألمانيا من عشيرتي وعائلتي وأهلي. هاجر والدي وإخوتي وأعمامي قبل سنوات. غادر أولاً عمي غدي مع أطفاله في العام 1996 في عز الحرب الكردية، وبعد اجتياح الجيش العراقي محافظة أربيل.

كان عشرات الآلاف من الأطفال قد بدأوا يموتون جوعاً في ذلك الوقت من جراء الحصار الاقتصادي للعراق. ربما قال في نفسه «هل عليّ أن أنتظر موت أطفالي أيضاً؟».

وحين استقر في هامبورغ، حاول كثيراً أن يقنع إخوته بالهجرة إلى ألمانيا لبدء حياة جديدة.

العراق إلى تفكّك. قال لهم. إلى أن ينضب نفط العراق، ويتحلّل، سيظل ساحة دولية للحرب، والاحتلالات. العرب السنّة لا يريدوننا، والعرب الشيعة ومن خلفهم إيران، سيحاولون الانتقام من صدام حسين. وأميركا تربض فوق صدورنا، والجنون لن ينتهي، ونحن الأكراد الحلقة الأضعف. تعالوا نعيد لمّ شمل عائلتنا حيث نستحق الحياة. العالم العربي كله سيكون قريباً بلا حياة وهو اليوم يئن تحت جزمة العسكر. تعالوا! ماذا تنتظرون؟».

لكن الهروب لم يكن من شيم عائلتي. ولدنا هنا في هواء شنكال والموصل ودهوك، ولدينا معبدنا المقدّس في لالش، نذهب إليه كمركز خلاصنا وتقوانا. إلى أين ستذهب أبناء شعبي لو هجروا أرض العراق؟ لا أعرف أحوالهم في سورية، وألمانيا، وأرمينيا، وتركيا، وإيران، وجورجيا، ولكنني أدرك أن جذورنا هنا، وكل ذكرياتي وذكريات أهلي مرتبطة بهذا التراب. وتلك التلة، ومشهد الشروق وهو يتسلل فوق حيطان بيوتنا البسيطة.

من يعرفنا في ألمانيا؟ إلى من سنتوّجه بالتحية الصباحية؟

حتى آلامنا هنا، يجب أن تبقى حيّة. لن ندفنها، حتى لو تعفّنت جثتها في عروقنا وذكرياتنا. هي جزء من حاضرنا، وحكايانا البطولية لأطفالنا، وتاريخنا الحي. خارج هذه الأرض، سيموت الألم، وقد يتشوّه التاريخ وينسى، فتولد أجيال، بالكاد تتعرّف إلى بعض الكلمات من لغتها الكورمانجية.

كم كنا واهمين حين ظننا يوماً أن إبادة الدكتاتور للأكراد هي الحضيض بالنسبة إلينا. كان ذلك في إحدى شطحاته الوحشية في العام 1998، وكنت أنا طفلاً، حين مسح قرانا بالجرافات، ودفع من تبقى من أبناء هذه القرى إلى مجمّعات تشبه المعتقلات النازية.

لكن الحياة استمرت برغم ذلك... وكذلك الحب.

back to top