«نكسة 1967»... في الذكرى الخمسين!

نشر في 29-06-2017
آخر تحديث 29-06-2017 | 00:10
 خليل علي حيدر حلت منذ أسابيع الذكرى نصف القرنية أو الذكرى الخمسون للخامس من حزيران، و"نكسة يونيو" 1967 على العالم العربي، وهو في إحدى أشد مراحل التفكك والخلاف والصراعات الداخلية، وانقسام ما هو منقسم! بل في ظل تراجع واضح في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، نفسها التي كانت القضية الأولى عام النكسة، وحلت محلها اليوم تحديات الإرهاب وذيول الربيع العربي الذاوي، ومحاولات الحفاظ على "الدول الوطنية" التي صارت تهددها مشاريع التوسع الإرهابية والشعارات السياسية الدينية، والفشل الصارخ تنمويا في أكثر من دولة.

ولم يسعفنا في قليل أو كثير، أن الإعلام والثقافة والجدل في بلداننا ومنتدياتنا ظلت تردد على مدى نصف قرن تحليل أسباب النكسة وجذور الهزيمة وسبل إنقاذ العالم العربي.. ودروس "النكسة" والعبر منها! وقد لاحظ الكثيرون أنه رغم ظهور الكثير من المقالات الرائعة والكتب القيمة والقصائد المؤثرة ومذكرات القادة والساسة وزعماء الأحزاب، فإننا للأسف، لم نشهد ظهور دراسة موضوعية لوثائق النكسة وأسبابها الحقيقية وجوانب الفشل والتقصير.

وينتقد الكاتب المصري في صحيفة الحياة، "محمد شومان" محمد حسنين هيكل الذي أطلق على الهزيمة "نكسة حزيران"، وتزعّم التفسير التآمري للحوادث. والأهم، يضيف شومان، إلقاء اللوم والمسؤولية على الآخر الأجنبي، و"من هنا لم تظهر حتى اليوم دراسة شاملة وموثقة عن أسباب الهزيمة، حيث امتنعت الدولة في مصر وسورية عن تقديم الوثائق والأوراق الرسمية للباحثين لتقديم سردية علمية وغير رسمية عما حدث في حزيران 1967". والمفارقة، يكمل شومان، "أن آلية التفكير بالمؤامرات لاقت انتشاراً واسعاً وتأثيرا كبيرا بين الناس في الستينيات، ربما لأنها جزء من الثقافة العربية، استُخدم عبر التاريخ الحديث لتبرير الاستعمار وحالة الضعف التي يعانيها العرب المسلمون".

والواقع أن أول وأبرز تبريرات هزيمة 5 يونيو في الأوساط الشعبية التفسير الديني، ويقول شومان، إن الإسلاميين يتفقون فيما بينهم على ترويج هذا النمط من التفكير، الذي يفترض أن الناصرية في مصر والبعث في سورية ابتعدا عن الإسلام، وطبقا مناهج اشتراكية ملحدة، كما حاربا الإسلام والمسلمين، وبالتالي كانت الهزيمة نوعا من الانتقام الإلهي وعبرة وعظة للناس". (الحياة، 14/ 6/ 2017).

ومثل هذه الحجة غير متماسكة وغير مقنعة، فنحن نرى اليوم، وعبر التاريخ، الهزائم المنكرة تحل بالأحزاب الإسلامية كالقاعدة وطالبان والإخوان المسلمين وغيرهم، كما تعرضت الدولة العثمانية للعديد من الهزائم البرية والبحرية رغم أنها كانت أكثر تطبيقاً للشريعة الإسلامية من أعدائها الأوروبيين!!

وينسى الإسلاميون عادة أنهم يعتبرون إسرائيل دولة دينية ملتزمة بالشريعة اليهودية، فكيف ينتصر اليهود على المسلمين، وكيف تتدهور أحوال العالم العربي والإسلامي وتعاني دوله هذا التخلف والانحدار، في حين تتقدم إسرائيل "اليهودية" هذا التقدم، بل تتغلب حتى الدول الهندوسية والبوذية، اقتصادياً وإنتاجيا وحضارياً على البلدان العربية والإسلامية؟ ولعل القضية تزداد تعقيداً عندما نتذكر أن السلطة الإسرائيلية غير ملتزمة دينياً إلا في أضيق الحدود، وأن هناك خلافات كثيرة بين النخبة العلمانية الحاكمة والأحزاب اليهودية المتزمتة التي يعتبر بعضها دولة إسرائيل نفسها كياناً لا شرعية له! من عجائب التفكير في العالم العربي أن الناس لا ترى الأمور بهذه الطريقة، ولا تلتفت إلا إلى ما تحب من التبريرات!

إن التفكير العربي، في رأي الكاتب "شومان"، "لا يتطلع إلى التوصل إلى تفسير علمي للهزيمة، ربما لأن في ذلك ممارسة جادة لنقد الذات وتحقيق شفافية وإفصاح غير معروفين في الثقافة العربية". ولهذا كلما حلت ذكرى حزيران 1967 السنوية، يضيف الكاتب المصري، يتردد الحديث عن المبرارات المعهودة، "حيث تنشر في الصحافة أو تبث لعدة أيام ثم سرعان ما يتناسى الجميع الذكرى، وتحل بنا هزائم أو خسائر جديدة"!

(الحياة، 14/ 6/ 2017).

كانت هزيمة يونيو 1967 المدخل الواسع للتيار الديني والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية العربية، مهما كانت قوة الحجج ضد التفسير الديني للهزيمة.

تقول الكاتبة "بسمة قضماني" في مقال لها في "اللوموند" نشر بترجمة "القبس" في الذكرى الأربعين للنكسة في 2007: "شهدنا منعطفا في العلاقة بين السياسة والدين، واستمالة مشايخ الإسلام والكبار لشرائح كبيرة من الرأي العام، فقد التمس جمال عبد الناصر دعم المؤسسة الدينية، منذ اليوم التالي على الهزيمة ومطالبته العودة إلى الحكم بعد التظاهرات الكبيرة التي أعقبت استقالته، فغداة الهزيمة، قال الشيخ محمد متولي شعرواي، أشكُر الله على هزيمة مؤلمة ساعدت على توعية الأمة وجعلتها تدرك أنها ضلت الطريق بإقصائها الدين عن القضايا العامة".

(يونيو 2007) ولم تكتف الدول والأنظمة العربية بفتح الأبواب السياسية على مصراعيها للإسلام الرسمي والشعب، بل انتعشت الأحزاب والجماعات الإسلامية من كل لون، ولحقت الشركات والمصارف الإسلامية بالركب واصطبغت بالثقافة والمناهج التعليمية وبرامج الإذاعة والتلفاز والصحف ودور النشر والحياة الاجتماعية نفسها رجالا ونساء.

يقول الروائي السوري صدقي إسماعيل "ما زالت النكسة تنتج المزيد من الأحزان، كما المزيد من الأوهام بعد خمسين عاماً، وما زال التفكير العربي يعاني داء الفردية واللا تاريخية واللا عقلانية. عجز عن نقد ذاته وأخطائه ناهيك عن تجديد حياته العقلية وإعادة استئنافها حضارياً، ولعل أسوأ ما أفرزته "النكسة" هي هذه التيارات المتطرفة من حاضنة الإسلام السياسي، وفرّخت من تربته طيور ظلام دموية تعمل بيننا كالأشباح".

(الشرق الأوسط، 6/ 6/ 2017).

لقد أفضى انتصار إسرائيل في عام 1967، كما يقول بعض المحللين، إلى إقامة "جمهورية إسرائيل الثانية، غير أن هزيمة يونيو، كما يرى بعض المفكرين، أفضت لاحقا وبعد مرور عدة سنوات إلى إقامة جمهورية فلسطين الأولى، في إشارة إلى بعث الكيانية الفلسطينية والهوية الفلسطينية والنضال الفلسطيني".

(السياسة الدولية، 169، د. عبدالعليم محمد، يوليو 2007).

غير أن انتصار إسرائيل كذلك أثار فيها العامل الديني وجعل الكثيرين هناك ينفصلون عن الواقع، ويضيف د. محمد في المقال نفسه "حيث نظر الإسرائيليون لهذا الانتصار كتأكيد لمقولة التوارة حول "أرض إسرائيل الكاملة"، وساد المزاج الديني المتعصب والمتطرف وغير المتسامح مع الآخر، وأفضى ذلك- ضمن أشياء أخرى- إلى نشوء شريحة من المستوطنين يبلغ عددها 500 ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس الشرقية وضواحيها، وهي الفئة التي تقف الآن عقبة في طريق أي تفكير سويٍّ ومستقيم حول السلام مع الفلسطينيين، وتمثل عبئا على المجتمع والدولة في إسرائيل، وتغذي الانفصال عن الحقائق الواقعية والتعلق بالوهم، وتغيب القدرة على رؤية الواقع".

(السياسية الدولية، ص224).

لقد تحول تسييس الدين في المجتمعات العربية وإسرائيل على حد سواء، إلى عامل معرقل لحل القضية.

ختاماً: أتساءل أحياناً، وبخاصة في هذه الذكرى الخمسينية لنكسة يونيو 1967، ما أبرز جوانب فشلنا في الاستفادة منها على امتداد نصف قرن استفادة عميقة؟ إنه في اعتقادي إهمالنا دراسة جوانب النجاح والتقدم في المجتمع الإسرائيلي، المحاصر بكل أنواع الصعوبات والتحديات منذ عام 1948، والمركب من عناصر بشرية من المشرق والمغرب، غير أنه قادر رغم كل مشاكله ونواقصه وكثرة أحزابه وانتشار الفساد والصراعات، على أن يواصل مسيرته في صف البلدان المتقدمة، وأن تكون جامعاته في صدارة جامعات العالم، ومصانعه ومزارعه وحياته السياسية وسلطاته التشريعية والتنفيذية والقانونية راسخة، فلماذا نجحوا وفشلنا؟

لقد أجمع المفكرون العرب بعد نكبة 1948 على أن إسرائيل "تحدٍّ حضاري"، قالوا ذلك مراراً في الكتب والخطب، مذكرين القادة والشعوب العربية! ولكن جواب العالم العربي كان المزيد من العودة إلى الماضي والتراث والحلول الخيالية لمشاكل واقعية.

back to top