صورة وصورة

نشر في 27-06-2017
آخر تحديث 27-06-2017 | 00:15
 يوسف عبدالله العنيزي في عام 1989 صدر مرسوم كريم باسم المغفور له الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته، يقضي بتعييني سفيرا غير مقيم لدى جمهورية النيجر الصديقة، محالاً من جمهورية الجزائر الشقيقة، وبناء على ذلك فقد غادرت الجزائر متوجهاً إلى مدينة نيامي عاصمة النيجر في رحلة متعبة وطويلة، حيث توقفنا في جمهورية بوركينا فاسو.

في اليوم التالي من وصولي قمت بتقديم أوراق اعتمادي لفخامة الرئيس علي دوبو، رحمه الله، وخلال عملي الدبلوماسي الذي استمر ما يقارب 37 عاما، قمت بتقديم أوراق اعتمادي لقادة 13 دولة ما بين ملكة وملك ورئيس جمهورية، وفي اليوم التالي تفضل الأخ الكريم «اهمادو»، مدير إدارة المراسم الجمهورية، الذي كنت أرتبط معه بصداقة أثناء عملنا في مدينة جدة، تفضل بأن وضع تحت تصرفي سيارة جيب مع سائق، وأحد الأدلاء لغابات وأدغال إفريقيا.

ركبنا السيارة التي راحت تنهب الطريق برحلة ممتعة تملأ النفس بهجة وحبوراً، ولا تزال ذكراها عالقة في الأذهان بين تلك الطبيعة الرائعة والحياة البرية بين حيواناتها المفترسة وأنواع الطيور التي نعرف بعضها ونجهل أغلبها، وفجأة وفي وسط تلك الأدغال الهائلة وفي ذاك السكون الرهيب صدح صوت رخيم بنبرة إفريقية مميزة ينادي لصلاة العصر بذلك النداء الخالد «الله أكبر»، فطلبت من قائد السيارة أن يتجة صوب ذلك الصوت، فوجدت رجلاً إفريقياً يقف على تلة مرتفعة بعض الشيء وهو ينادي بصوت يدخل القلب ويحرك المشاعر.

أوقفنا السيارة ونزلنا للصلاة معهم، وما كاد ينتهي من رفع الأذان حتى تجمع بعض الأشخاص الذين خرجوا من بين تلك الأدغال الهائلة، من نساء وأطفال ورجال، حفاة عراة لا يكاد يستر أجسادهم إلا القليل من الثياب، اصطف الجميع خلف المؤذن الذي أم المصلين، ووقف الجميع بخشوع فطري بعيداً عن التكلف أو التصنع، ليس بالقول ولا المظهر ولا لحية طويلة وثوب قصير أو انتماء إلى جماعة أو حزب أو تنظيم، قلوبهم معلقة فقط بخالقهم الذي استخلفهم في الأرض.

بعد انتهاء الصلاة حمل الجميع كل ما يملكون من متاع الحياة وهو قليل، بعيون غائرة وبطون خاوية ونظرات زائغة وسحنة حفر الزمان عليها أحزان الدنيا، سار الجميع، ثم غابوا وسط تلك الأدغال الهائلة.

ذكرتني هذه الصورة بصورة أخرى، على وقع النداء الخالد «الله أكبر» أيضاً، لكنها هذه المرة ممزوجة بأصوات القنابل والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة وأشلاء الضحايا البشرية المتناثرة في وسط الشارع وعلى الأرصفة ودماء تسيل ودموع تذرف وبحور من الأحزان تنهمر، وأرامل ثكلى وزوجات ترمل، وأطفال غدوا تائهين في دروب الحياة، وعند التساؤل ماذا حدث يأتيك الجواب المؤلم «إنها عملية جهادية»!

ويلكم من الله، هل تجرأتم بالكذب حتى على رب العالمين الذي «وسعت رحمته كل شيء»، بل تجرأ البعض بمحاولة الاعتداء على بيت الله الحرام الذي جعله الله حرما آمناً دون مراعاة لحرمة هذا المكان في هذا الشهر الفضيل، فأي جهاد هذا؟ أين المجاهد في سبيل الله عن تلك الأرواح الهائمة في الأدغال تعيش بين وحوش مفترسة وطيور جارحة، ويفتك بها الجوع والجهل والمرض.

آه يا له من فرق شاسع بين تكبيرتين أولاهما من أناس عاشوا على الفطرة التي خلقهم الله عليها بقلوب نزع الله منها الغل، قوب طائعة للخالق وإيمانها مطلق بأن من خلقها لن ينساها، والثانية تكبيرة ممن تعلم ودرس ولكنه تناسى تعاليم الخالق وقام بتنفيذ تعليمات أحزاب أو جماعات أو مذاهب.

خطر على البال في تلك اللحظات المغفور له الدكتور عبدالرحمن السميط، فعند زيارته الكريمة لمدينة سراييفو عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك، وكنت وقتها أشغل منصب سفير محال من هولندا، استفسرت من الدكتور إن كان بالإمكان قيامه بفتح مكتب للإغاثة والمعونات الخيرية في سراييفو، فأخرج من القلب تنهيدة تشعر بصدقها قائلاً: «أخي بو عبدالله، كم يحرك مشاعري، برجفة من أخمص قدمي إلى قمة رأسي، ذلك الطفل في وسط إفريقيا وقد حط بجانبه نسر جارح ينتظره حتى يلفظ أنفاسه ليفترسه، كم يؤلمني منظر تلك المرأة وقد مات طفلها في أحضانها بعد أن جف ضرعها، أو ذلك الرجل الذي غدا يسير على يديه بعد أن عجزت قدماه عن حمله نتيجة الجوع والمرض».

وهنا ترقرقت دمعة ألم وحزن، فأين أنتم يا من تبحثون عن الجهاد وتجندون الشباب للقتل والتدمير لا الحياة والتعمير؟

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top