جارية هارون الرشيد في غرفة الصياد المسكين (28 - 30)

نشر في 23-06-2017
آخر تحديث 23-06-2017 | 00:09
تستكمل شهرزاد سرد قصة الصياد البغدادي خليفة، مع هارون الرشيد أمير المؤمنين، الذي التقاه مصادفة في أحد البساتين، واعتقد أنه مجرد زمار غلبان، فعرض عليه أن يعمل معه في الصيد، إلى أن أمر الخليفة جنوده بشراء كل ما يصطاده الصياد من السمك، كل سمكة بدينار، فخرج الصياد بكم كبير من الدنانير، وجمع ثروة طائلة نظير ذلك. إلا أن جندياً واحداً هو المملوك «طواشي صندل» وعد بدفع ثمن السمك لاحقاً، وطلب من الصياد أن يأتي إلى قصر الخليفة للحصول على ثمن ما أخذه منه.
لما كانت الليلة السابعة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن خليفة الصياد، بعدما رجع إلى منزله في بغداد، أمضى ليلته ساهراً يعد الدنانير التي تركها له المماليك، وفي صباح اليوم التالي، قال لنفسه: لا داعي لحمل الشبكة والتوجه إلى البحر اليوم، وحسبي ما حصلت عليه من أولئك القوم.

ثم تذكّر أمر المملوك الأخير «الطواشي صندل»، الذي لم يدفع له ثمن السمك الذي أخذه منه ووعده بدفعه له إذا قابله في قصر الخلافة، فقال لنفسه: والله لا أترك حقي يضيع، ولا بد من أن أطالب به ذلك المملوك الرقيع، فإن لم يدفع ما عليه بالتي هي أحسن، شكوته إلى رئيسه هناك، واستخلصت حقي بالشجار والعراك. ثم حفر حفرة في ركن من حجرته، وأخفى ما عنده من الدنانير فيها، وغادر المنزل بعد ذلك قاصداً قصر الخلافة.

لما وصل خليفة الصياد إلى القصر، وجد المماليك والعبيد والخدم قياماً وقعوداً على بابه، ووقعت عيناه بينهم على المملوك الذي أخذ منه السمك ولم يدفع الثمن، فأسرع نحوه وأمسك كتفه قائلاً: أين الدين الذي عليك أيها الشقي؟ أم كنت تحسب أنني أترك حقي لك تأكله في بطنك ولا أطالبك به؟

لما سمع الطواشي صندل الكلام، عرفه وضحك من سذاجته، وهمّ بأن يخرج له من جيبه بعض الدنانير. لكنه في هذه اللحظة شاهد الوزير جعفر البرمكي واقفاً على باب الخليفة يشير إليه، فلم يسعه إلا أن يسرع نحوه تاركاً خليفة الصياد، وظنّ الأخير أن الطواشي يحاول الفرار كي لا يدفع له ثمن السمك، فوقف غاضباً وهو يتابعه بنظراته خلال وقوفه مع الوزير، ولما طال انتظاره، لم يطق صبراً إلى أن ينتهيا من حديثهما، وانطلق كالكرة حتى وقف خلف الطواشي وهزّ كتفه قائلاً له: قبحك الله وقبح كل مماطل مثلك، ألم تعدني أن تدفع لي هنا ثمن السمك الذي أخذته مني؟

اغتاظ منه الطواشي صندل وهمّ بضربه وطرده، ولكن الوزير استمهله وسأله: ما شأن هذا الصعلوك؟ أجابه الطواشي صندل: إنك يا سيدي الوزير أمرتنا أمس بأن نشتري منه سمكاً لمولانا أمير المؤمنين كل سمكة بدينار، وكانت الدنانير التي معي سقطت على الأرض والجواد يجري بي جامحاً، فأخذت منه السمكات التي وجدتها عنده، وطلبت منه أن يقابلني هنا لأدفع له ثمنها، فلما جاء وهممت بأن أعطيه بعض الدنانير، رأيتك تدعوني فأسرعت إليك، ويظهر أنه لحوح ثقيل كما ترى.

لما سمع جعفر البرمكي كلام الطواشي صندل، أدرك أن الصعلوك الذي أمامه هو الصياد الذي قابله الخليفة وعمل صبياً وشريكاً له، فضحك هو أيضاً من فرط سذاجته، وغرابة هيئته، وقال للطواشي غامزاً بطرف عينه: ما يصح لك أن تماطل هذا الصياد المسكين في دفع ثمن السمك الذي أخذته منه. ثم أمره بإكرامه وإبقائه عنده حتى يشاور في أمره الخليفة، لعله يسمح بمثوله بين يديه، فيضحك عليه، ويتعزى عن حزنه لفقد الجارية «قوت القلوب».

الخليفة... الزمار

دخل الوزير جعفر على الخليفة هارون الرشيد، فأخبره بأمر خليفة الصياد وكيف جاء إلى القصر وأمسك بخناق «الطواشي صندل» مطالباً إياه بثمن السمك، فتعجب الخليفة وقال لجعفر: هل عرف ذلك الصياد أن غلامه بالأمس هو الخليفة، فقال الوزير: ما أحسبه يعرف أي أمر يا مولاي، بل ما أظنّ أنه يعرف أمير المؤمنين إذا رآه. فقال الرشيد: إني يا جعفر محزون القلب كاسف البال لفقد قوت القلوب. فقال الوزير جعفر ليسليه ويعزيه ويدخل السرور إلى قلبه الحزين: نعم يا مولاي إن الفراق صعب، ولكن الموت حق، كما أن ذلك الصياد المسكين له حق أيضاً، وهو جاء إلينا مطالباً بثمن سمكات معدودات أخذها منه الطواشي صندل، مع أن المماليك تركوا له دنانير لا يحصى عددها، ولا شك أنه لو رأى هنا الآن مولاي أعزه الله لما خطر على باله إلا أنه أمام غلامه الزمار.

ابتسم الرشيد وقال للوزير جعفر: لا بأس، أحضره إلينا لنرى ما يكون فخرج جعفر لإحضار خليفة الصياد، وأخذ يبحث عنه إلى أن وجده ممسكاً بخناق المماليك والخدم الذين عهد إليهم الطواشي صندل في إبقائه حتى يشاور الخليفة في أمره، وسمعه يسبهم ويلعنهم ويقول لهم: أما كفاكم أنكم أكلتم حقي بعدما أكلتم سمكي. إنكم والله أحق مني بالحبس، ولكني مع هذا أسامحكم في حقي ولا أريد حبسكم، فأخرجوني من هذا الحبس فوراً، وإلا رجعت في كلامي.

لما سمع جعفر كلامه، ضحك وقال له متلطفاً: لا بأس عليك أيها الصياد، تعال معي لأعطيك ثمن السمك وأكثر، ثم أخذ بيده وسار به والمماليك والجند من خلفهما إلى أن وصلوا إلى باب الرشيد، فالتفت خليفة الصياد إلى المماليك والجنود وصاح بهم قائلاً: ما شأنكم بي، انصرفوا لا بارك الله فيكم. فصرفهم جعفر، واصطحبه داخل الديوان متنقلاً به من دهليز إلى آخر، حتى دخل القاعة الكبرى بعد الدهليز السابع، فرفع جعفر الستر الأكبر الذي يحجب الرشيد، وقال لخليفة الصياد: تقدم يا شيخ وسلم على أمير المؤمنين وحامي حومة الدين.

ما وقعت عينا خليفة الصياد على الرشيد، وهو جالس على سريره وأرباب الدولة واقفون في خدمته، حتى هجم عليه واحتضنه قائلاً له: أين كنت يا زمار؟ ما كان يصح أن تتركني أحرس السمك ولا ترجع لي بالقفتين من السوق. ضحك الخليفة وقال له: عاقني عن الرجوع إليك عذر قاهر، فماذا فعلت بالسمك أليس لي نصفه كما اتفقنا؟

قال له خليفة الصياد: الذنب ذنبك يا زمار، فأنت ضيعت حقك وحقي أيضاً بسبب عدم رجوعك بالقفتين، فقد جاءني مماليك كثيرون يركبون الخيل وبأيديهم السيوف وأخذوا كل السمك غصباً ثم هربوا إلى هنا، ولما جئت أطلب ثمنه أرادوا حبسي... لكن لماذا حبسوك أنت أيضاً هنا يا زمار؟

مئة جلدة بدينار

لم يتمالك الرشيد نفسه من الضحك على سذاجة الصياد، كذلك ضحك الحاضرون كلهم، ثم أجلسه الرشيد إلى جانبه على السرير، وقدّم له كيساً فيه أوراق وقال له: امدد يدك يا معلمي وأدخلها في هذا الكيس، وخذ ورقة من الورقات العشرين التي فيه، واعلم أن في كل منها كتابة بما يجب أن يعمل مع الذي يختارها، فإن كنت أحد المحظوظين السعداء، كان نصيبك مكافأة ثمينة من دينار إلى ألف دينار، وإن لم تكن كذلك، كان نصيبك العقاب من جلدة إلى مئة جلدة أو القتل بالسيف.

لما سمع خليفة الصياد كلام الرشيد، قال له: يبدو أنك لم تصلح للعمل زماراً ولا صياداً فعملت منجماً، ثم أخرج ورقة من الكيس وناولها للرشيد قائلاً له: انظر أي شيء طلع لي فيها. فقرأها الرشيد وقال له: ابشر يا معلمي، لقد نجاك الله من ضرب رقبتك، وستضرب مئة جلدة فقط.

لما كانت الليلة الثامنة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن خليفة الصياد لما سمع الرشيد يتلو عليه الحكم المكتوب بضربه مئة جلدة، ظنّ أنه يمزح معه، وقال له: هذا نصيب قبيح يا زمار، ولكن الإنسان لا يهرب من نصيبه، وأرى أن تدعني أخرج ورقة أخرى من الكيس، لعلي أحصل على نصيب أحسن يعوض الضرب الذي أتجمله. تشاور الرشيد مع جعفر في هذا الأمر، ثم قال للصياد: لا بأس بذلك يا معلمي، فخذ لك ورقة أخرى من الكيس، ثم تنفذ الحكمين معاً. لما أخرج الورقة الثانية وقرأها الرشيد، وجد فيها أن من يختارها يعطى ديناراً، فأخرج الدينار من تحت وسادته وأعطاه لخليفة الصياد، ثم أمر المماليك الواقفين حوله بضربه مئة جلدة، فقال خليفة: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا زمن معكوس، يباع فيه السمك كل سمكة بدينار، ويعطى فيه الصياد مئة جلدة بدينار.

أسرع المماليك فأخذوا خليفة الصياد وأوثقوه بالحبال، وضربوه مئة جلدة، وهو يسب ويلعن ويصيح قائلاً هذا ما هو جميل منك يا زمار، وبعدما انتهى جلده، ساروا به ليخرجوه من قصر الخلافة، وعند الباب وقعت عيناه على الطواشي صندل، فأمسك بخناقة مجدداً وصاح به: أنت سبب نكبتي وجلدي، ولا أتركك حتى آخذ حقي منك، وكان صندل علم بما وقع له، فأعطاه كيسا فيه مئة دينار وقال: هذه مئة دينار ثمن السمكات التي أخذتها منك، وتعويض لك عما لحق بك بسببي.

«قوت القلوب» والصياد

لما رأى خليفة الدنانير، كفّ عن سبه ولعنه، ومال على يده فقبلها، وانصرف وقد نسي آلام الضرب، ولكنه بقي غاضباً على غلامه الزمار، وأخذ يفكر في الانتقام منه، وهو لا يدرك أن هذا الزمار هو الخليفة الرشيد.

لما وصل إلى سوق المدينة، وجد التجار ملتفين حول أحد العبيد، وهم يساومونه على شراء صندوق مغلق، يقول إن فيه تحفة ثمينة كانت خاصة بالسيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد. سمع أحد التجار يعرض عشرة دنانير ثمناً للصندوق، فزاد تاجر آخر في الثمن خمسة دنانير، وزاد ثالث خمسة دنانير أخرى، واستمرت المزايدة حتى وصل الثمن إلى مئة دينار، فتقدم خليفة الصياد وقال للدلال: هو عليّ بمئة دينار ودينار...

وكان العبد ملّ طول الانتظار، فقال للدلال: بعت الصندوق لهذا الشيخ فاقبض منه الثمن. وهمّ خليفة الصياد بأن يعدل عن شراء الصندوق، ولكنه خجل من التجار الحاضرين، فأعطى الدلال المئة دينار التي أخذها من الطواشي صندل، والدينار الذي أخذه من الخليفة وهو يحسب أنه غلامه الزمار، ثم حمل الصندوق على كتفه وسار إلى منزله.

لما كانت الليلة التاسعة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن خليفة الصياد لما وصل إلى منزله وضع الصندوق إلى جانب فراشه، وقال لنفسه: لا حاجة بي إلى فتحه الآن، وخير لي أن أتركه إلى صباح غد فأفتحه بعدما أكون استرحت من التعب والعذاب في هذا النهار. ثم أكل ونام، فلما انتصف الليل استيقظ على صوت بكاء وأنين إلى جانبه، فتملكه الخوف، وأخذ ينظر حوله فلم يجد غير الصندوق، وأدرك أن الصوت ينبعث منه، فاشتد خوفه وقال: لا بد من أن في هذا الصندوق جناً محبوسين، فالحمد لله على أني لم أفتحه وإلا كانوا أهلكوني. ثم أراد أن يوقد المصباح فلم يجده لشدة ظلام الحجرة، فغادرها مسرعاً وأخذ يصرخ مستغيثاً بالجيران، فلما استيقظوا وسألوه عن سبب صراخه، قال لهم: أعطوني سراجاً لأن الجن في حجرتي المظلمة.

ضحكوا عليه، ثم أعطاه أحدهم سراجاً، فأخذه ورجع إلى الحجرة، ووقف يتأمل ويفحص الصندوق، فلما لم ير أو يسمع شيئاً، تشجع وكسر قفله، ثم رفع غطاءه، فما كاد يرفعه حتى نهضت قوت القلوب من مرقدها فيه، وكانت أفاقت من الإغماء، وقالت له: هات لي نرجساً وياسميناً، فقد أغمي عليّ من الخوف.

التاجر ابن فرناس

لما أفاق، وجد قوت القلوب جالسة إلى جواره وهي تنعشه وتلاطفه بحديثها، فاطمأن قلبه، ثم سألته: من أنت؟ وأين أنا؟ عندئذ، روى لها قصة شرائه الصندوق منذ توجه إلى قصر الخلافة إلى رجوعه من السوق وهو يحمل الصندوق، ثم قال لها: اسمي خليفة الصياد، وهذا منزلي، ويظهر أن حظي عدل عن معاكستي فقد كنت أظن أنك من الجن فإذا بك من أظرف الإنس. ضحكت وطلبت منه طعاماً لأنها جائعة، فنهض وغادر الحجرة حيث أيقظ بعض الجيران وأحضر من عندهم ما تيسر من طعام، وجرة فيها ماء، فأكلت وشربت وحمدت الله، ثم قالت لخليفة الصياد: إني قوت القلوب محظية أمير المؤمنين الخليفة هارون الرشيد، وقد غارت مني زوجته السيدة زبيدة، فانتهزت فرصة خروجه للصيد ودعتني إلى مسكنها في قصر الخلافة، حيث غنيت لها ثم قدمت لي حلوى ما كادت تستقر في بطني حتى دار رأسي ولم أعد أشعر بأي أمر، إلى أن تنبهت منذ قليل، وأردت النهوض فلم أستطع. ولولا أنك فتحت الصندوق لزهقت روحي، واعلم أن الخليفة الرشيد هو نفسه غلامك الزمار الذي قابلته في قصر الخلافة، وإذا أنت ذهبت إليه وأعلمته بأني عندك في منزلك، فإن هذا يكون سبباً لغناك وحظوتك عنده.

لما سمع خليفة كلامها ضحك وقال لها: والله ما رأيت في حياتي أبخل ولا أحمق من ذلك الزمار القليل الخير والعقل، فقد علمته الصيد وجعلته شريكي، فتركني وهرب إلى ذلك القصر، ولما قابلته فيه جازاني أقبح الجزاء وأشار على من هناك من المماليك فضربوني مئة جلدة نظير الدينار.

ضحكت قوت القلوب من سذاجته، وقالت له: دع عنك هذا الكلام، واعلم أنه ليس زماراً، بل هو الخليفة الحاكم على بلاد المسلمين، وكل ما عمله معك إنما كان كي يسلي نفسه، والمماليك والحجاب الذين رأيتهم هناك هم خدمه وعبيده.

لما سمع كلامها وفهمه، تعجَّب من أمره وأمرها، وقال لها: على عيني ورأسي أفعل كل ما تأمرين به. فقالت له: سأهوِّن عليك المهمة، فأحضر لي ورقة وقلماً ودواة. قام وخرج إلى بعض جيرانه فأحضر من عندهم ما طلبت، وكتبت قوت القلوب إلى التاجر الذي باعها للخليفة، تخبره بكل ما جرى لها، وتسأله أن يحضر لأخذها تمهيداً لإرجاعها إلى الخليفة، ثم طوت الورقة وأعطتها لخليفة الصياد، وقالت له: في الصباح إن شاء الله تحمل هذه الورقة إلى السوق، وتسأل عن دكان التاجر ابن فرناس، ثم تعطيه الورقة وتفعل ما يشير به. فقال لها: سمعاً وطاعة لك يا سيدة الملاح.

أدرك شهرزاد الصباح وسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد

الرشيد يسري عن نفسه بجلد معلمه الصياد مئة جلدة ويمنحه ديناراً

الصياد يشتري جارية الرشيد «قوت القلوب» من دون أن يعلم ويبدأ تنفيذ خطتها للعودة

الصياد يشكو الزمن المعكوس حين تُباع كل سمكة بدينار ويُضرب الصياد مئة جلدة بدينار
back to top