جباية المال... أبرز المفاهيم الخاطئة في الإصلاح الاقتصادي

• الأولوية لجلب التكنولوجيا والاستثمارات وخلق الوظائف وحماية المنافسة والجودة
• فارق شاسع بين ترتيب الكويت في دعم الابتكارات مادياً وبين نتائجها في هذا المجال!

نشر في 21-06-2017
آخر تحديث 21-06-2017 | 18:55
محمد البغلي
محمد البغلي
المال مهما كان إنفاقه عالياً فإن نتائجه تكون على الأغلب منحرفة إذا لم يتسق إنفاقه مع الأهداف المحددة له، وخصوصاً إذا علمنا أن جل ما ينفق في «دعم ميزانية الابتكارات العلمية»، حسب التعريفات الرسمية، يختلط غالباً بمصروفات إدارية كرواتب وصيانة ومنشآت، ومن ثم لا يصب أصلاً في الأغراض المستهدفة فعلياً من الإنفاق، وهنا يتضح الفارق الشاسع بين ترتيب الكويت في الجانب المالي وترتيبها من حيث النتائج.
ثمة مفاهيم خاطئة أو على الأقل معكوسة لدى متخذي قرارات الإصلاح الاقتصادي، وخصوصاً مع ظهور أزمة عجز الموازنات الناتجة عن تراجع أسعار النفط، وما أفرزته من عجوزات في المعالجة.

ومن أبرز هذه المفاهيم التركيز على الأموال وجبايتها لتجاوز حالات العجز المالي والنمو المتصاعد في الإنفاق العام، والتعامل مع ميزانية الدولة على أنها ميزانية شركة تستهدف الربح أو الفائض واعتبارهما مدخلاً للإصلاح الاقتصادي، مع أن تجارب الدول التي حققت نمواً اقتصادياً خلال الـ50 عاماً الماضية كسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين وغيرها من الدول تخبرنا أن المال كان أقل العناصر أهمية في تحقيق الإصلاح الاقتصادي، وأن هناك عناصر أخرى كان لها الأثر الأكبر في تغيير وجه الاقتصاد من حال إلى أخرى.

ففي بلدان، كالخليج، والكويت تحديداً، ثمة احتياجات أكثر من مجرد الجباية المالية أو سداد العجوزات السنوية، أبرزها جلب التكنولوجيا، وجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وخلق الوظائف، وتحفيز الابتكار والبحث، وتنويع الاقتصاد، وحماية المنافسة، ومحاربة الاحتكار، والتركيز على جودة السلعة والخدمة.

براءات الاختراع

أحد الأمثلة على تقديم المال كأولوية على ما سواه من أدوات تنموية واقتصادية، هو حصول الكويت على المركز الأول في منطقة الشرق الأوسط، والثاني عالمياً في دعم الابتكارات العلمية، واحتلال المرتبة الـ56 في مؤشر الابتكار العالمي من بين 127 دولة، وهو في حقيقته احتساب للميزانية المخصصة للابتكار، لا لعددها ولا حتى نوعيتها، إذ تشير بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، إلى أن الكويت حلت في المرتبة الـ11 عربياً والـ56 عالمياً في مجال براءات الاختراع لعام 2016 بـ3 إيداعات ابتكار فقطـ، من أصل 517 براءة ابتكار قدمتها الدول العربية العام الماضي، في حين يسجل كيان كإسرائيل، في نفس المنطقة، سنوياً براءات اختراع لا تقل عن 3 أضعاف براءات اختراع المنطقة العربية برمتها.

المثال أعلاه لا يختص فقط ببراءات الاختراع، لكنه يبين أن المال مهما كان إنفاقه عالياً فإن نتائجه تكون على الأغلب منحرفة إذا لم يتسق مع الأهداف المحددة له، وخصوصاً إذا علمنا أن جل ما ينفق في «دعم ميزانية الابتكارات العلمية»، حسب التعريفات الرسمية، يختلط غالباً بمصروفات إدارية كرواتب وصيانة ومنشآت، ومن ثم لا يصب أصلاً في الأغراض المستهدفة فعلياً من الإنفاق، وهنا يتضح الفارق الشاسع بين ترتيب الكويت في الجانب المالي وترتيبها من حيث النتائج.

وثيقتان وزيادات

من يطلع على وثيقة الإصلاح الاقتصادي المالي، ثم وثيقة الكويت 2035، وما بينهما من قرارات بزيادات رسوم البنزين والكهرباء والماء، يجد أن استهداف تحصيل الأموال كسلوك أقرب إلى الجباية كان أولوية على حساب العديد من المفاهيم الأكثر أهمية كخلق الوظائف أو توفير فرص العمل الخاصة أو جلب التكنولوجيا أو جودة الخدمات، حتى الجانب المتعلق بالخصخصة تركز على نقل الملكية العامة إلى القطاع الخاص دون التطرق إلى منع السياسات الاحتكارية وحماية المنافسة والآثار الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بسوق العمل والبطالة ومدى اتساق التعليم مع متطلبات السوق الجديد المفترض.

استخدام منحرف

وحتى في زمن الفوائض كان المال من معضلات المعالجات الاقتصادية، إذ كان يستخدم كإبرة بنج لتخدير الأزمات ولو مرحلياً، فبدلاً من العمل على حل الأزمة الإسكانية يتم رفع بدل الإيجار وزيادة الدعم في القرض الإسكاني، وعوضاً عن معالجة سوق العمل يتم القفز إلى سياسات الكوادر المالية والعلاوات، وكذلك الأمر نفسه عند تجاوز مشكلات القطاع الصحي بخلق أزمة أكبر عبر العلاج في الخارج، وهذه كلها أمور أدت لاحقاً بسبب الاستخدام المنحرف للمال إلى مشكلات أكبر.

نمو المخاطر

التعامل غير الحصيف مع المال في ظل سياسات حكومية تتجه إلى حلول عالية المخاطر لمواجهة انخفاض أسعار النفط، أبرزها الاعتماد على سوق الدين العام لتمويل عجز الموازنة حتى بلغت أدوات الدين العام نحو 4.1 مليارات دينار دون أن يكون لدينا خطة حقيقية لمواجهة تحديات الاقتصاد، يرفع من مستويات القلق بالمستقبل، والقلق هنا ليس من الاستدانة ولا حتى من الفوائد المترتبة على تسعير أي إصدار، بل من عقلية تعتبر المال هو أساس الاقتصاد، وتسعى لاستخدامه فوراً في تمويل إنفاقها المشكوك في جودته على الميزانية.

اقتصاد مساند

التعامل مع أزمات الاقتصاد يحتاج إلى مسؤولية أكبر، وفهم أكثر لطبيعة مشكلات الكويت الاقتصادية، والتي تتجاوز مفهوم طرح مشاريع إنشائية بحملة إعلامية تصور الكويت كسنغافورة أو هونغ كونغ بل ببلوغ ما وصلت إليه هذه الدول وغيرها في تنافسية اقتصادياتها، والقدرة على إيجاد اقتصاد مساند وفق بيئة استثمارية، يستقطب الشركات الأجنبية ويحفز استثمار المحلية، ويحقق عوائد ضريبية ضمن أوعية تتوفر فيها مبادئ الرقابة والشفافية، ويوفر فرص عمل، ويرفع مستويات المنافسة، ويصعد بمؤشرات التنافسية، ويجعل اشتراطات كالتكنولوجيا وتدريب العمالة الوطنية وتوظيفها واحدة من أهم معايير ترسية المناقصات العامة، لا التركيز على أرخص الأسعار فقط، وهي أمور تحتاج إلى إدارة عامة واعية تتعامل مع هذه الملفات وفق آليات أعمق من مجرد اعتبار المال مفتاح الاصلاح الاقتصادي، رغم أنه الأقل أهمية كما ذكرنا سلفاً.

على مدى سنوات تبين أن استخدام الأموال في الكويت غالبا يكون في غير موضعه، فهو إما يكون مخدراً لا دواء كما حدث في سنوات الفوائض، أو دواء غير صحيح كما يحدث حالياً من إعطائه الأولوية على كل المفاهيم الأخرى الأكثر استحقاقاً.

back to top