عبد الفتاح القصري... حزين أضحك الملايين (3 - 11)

عايز أحب

نشر في 18-06-2017
آخر تحديث 18-06-2017 | 00:03
لاحظ فؤاد والد عبد الفتاح القصري، أن نجله، تبدل حاله منذ عاد من رحلة حلوان، وبات يعود إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، وفي أحيان كثيرة قد يمتد وجوده خارج البيت إلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وهو ما لم يحدث مع أي من أفراد العائلة الكبيرة، أو حتى أسرته الصغيرة، باستثناء والده، جد عبد الفتاح، الذي كان يفضل السهر كل ليلة في المقهى إلى ما بعد العاشرة مساء، غير أنه لم يتأخر يوماً إلى ما بعد منتصف الليل، بعكس عبد الفتاح الذي فاق الجميع، وبات يعود كل ليلة ما بين الثانية أو الثالثة صباحاً، ويستيقظ في الثانية عشرة ظهراً، ولا يذهب إلى متجر والده قبل الثانية بعد الظهر، حتى ضاق به والده، لدرجة أن النصائح المتكررة كل يوم وليلة، لم تعد مجدية.
لم يكن يمر يوم من دون شجار بين عبد الفتاح ووالده، حتى جاء الحل من أحد أصدقاء فؤاد، الذي أكد له ألا سبيل إلى انضباط عبد الفتاح سوى بالزواج، فنصحه بأن يزوج ابنه، لا سيما أنه بلغ الثامنة عشرة من عمره، وأصبح رجلا يافعاً، يمكن أن يفتح بيتاً، ولا حاجة له إلى الانتظار لتكوين المال اللازم لذلك، فثروة والده موجودة، وتكفل له ولأولاده وأحفاده حياة كريمة. اقتنع والد عبد الفتاح، عله ينقذ ابنه من حالة الضياع التي يعيش فيها ويمكن أن تقضي عليه، وتسبب في ضياع الثروة التي ورثها أبا عن جد:

* أنا أتجوز؟

= أمال أنا؟ أيه صغير.. ما تقدرش تفتح بيت؟

* لا مش القصد.. بس أنا بأقول يعني...

= ماتقولش.. أنت اللي قدك متجوزين ومعاهم عيل واتنين.. وأهو البيت موجود أهو يرمح فيه الخيل .

* أيوا يابا الحكاية مش بيت يرمح فيه الخيل.. أنا بدي أقول إن الموضوع مش

= تقول أيه؟ غايته هأنجيب أوضة نوم.. ولك ياعم أجيبلك أوضة نوم آلافرنك من اللي طالعين اليومين دول.. وأعملك فرح الجمالية كلها تحكي وتتحاكى بيه

* طيب أنا غرضي بس أعرف تبقى مين دي.. بنت مين؟

= دي تبقى بنت المعلم مرزوق البحيري الجواهرجي.. عيلة كبيرة أصل ومال

* بس؟

= بس أيه؟ وأنت عايز أيه تاني؟

* قصدي أصل ومال بس.. يعني شكلها أيه بنت مرزوق الجواهرجي دي

= اخص عليك وعلى تجرمتك.. ومن امتى بنات الناس بتنكشف على عرسانها قبل ليلة الدخلة.. وعلى كل حال أهي الست والدتك هي وأختك بهية هايشوفوها ويبقوا يقولولك أوصافها.. وإن كان كدا ولا كدا أنت بتناسب راجل وعيلة.

بعد أيام كان المعلم فؤاد قد حدد موعداً لزيارة بيت المعلم مرزوق، لطلب يد ابنته، وفي اليوم المحدد ذهب كل أفراد الأسرة، فاتجهت والدة عبد الفتاح وشقيقته بهية إلى داخل البيت، حيث العروس ووالدتها وشقيقاتها، فيما جلس عبد الفتاح ووالده وشقيقه محمد مع والد العروس وأشقائها وأعمامها، غير أن فؤاد فوجئ بوالد العروس يرهن الموافقة إلى حين موافقة العروس، مثلما يقول «الشرع»، فلم يكن أمامهم سوى الاكتفاء بالتعارف، وإرجاء قراءة الفاتحة وإتمام مراسم الخطوبة في لقاء تالٍ، وقبل مرور أسبوع، جاء رد أسرة المعلم مرزوق على طلب يد ابنتهم، وأبلغ مرزوق فؤاد والد عبد الفتاح بالرد:

- وشي منك في الأرض يا معلم فؤاد.. الطلب مرفوض

= ليه إحنا مش قد المقام ولا أيه يا معلم

- العفو يا معلم فؤاد.. مقامك محفوظ.. بس كل شيء قسمة ونصيب

= أيوا بس أيه السبب.. أنا بعون الله على استعداد أدفع مهر من جنيه لألف

- مش حكاية فلوس يا معلم.. أنت كلك فلوس

= أمال أيه الحكاية بالظبط ابني يترفض ليه؟

- ماتآخذنيش يا معلم أنا صريح ودوغري.. الجماعة بيقولوا إن العريس لامؤخذة قصير شويتين

= قصير!!

رفضت العروس العريس لأنه قصير القامة، ليلتفت عبد الفتاح لأول مرة إلى قصر قامته، غير أن ذلك لم يسبب له مشكلة، ولم يخجل من قصر قامته، أو ملابسه «البلدي» حتى عندما يكون في المسرح، الذي سرعان ما عاد ينتظم مجدداً في الذهاب إليه كل ليلة، وبدأ فوزي الجزايرلي يستعين به في أدوار صغيرة، بعدما لمس مدى حب عبد الفتاح للتمثيل، بل وللعملية المسرحية عموماً، خصوصاً أن الأخير لم يكن مجرد شاب انبهر بشكل الممثلين والمسرح، بل كان يفاجئ فوزي الجزايرلي من حين إلى آخر، بواحدة من المسرحات الفرنسية التي قرأها أخيراً، بل ويساعده في ترجمتها إلى العربية، لتعرضها الفرقة، ما جعل فؤاد يتمسك به، فلم يترك الجزايرلي موهبة أمامه إلا وضمها للفرقة. ربما هذا السبب دفعه إلى الاستعانة في الفرقة بمطرب لم يغادر مرحلة الطفولة بعد، إذ لم يتجاوز عمره أربعة عشر عاماً، يدعى «محمد عبد الوهاب».

والد الشاب عبد الوهاب محمد أبو عيسى مؤذن وقارئ مسجد «سيدي الشعراني»، ألحق نجله بكتّاب مسجد سيدي الشعراني، تمهيداً لإلحاقه بالأزهر الشريف، ليخلفه بعد ذلك في وظيفته، لا سيما بعدما لاحظ جمال صوته، في الآذان وقراءة القرآن، فحرص على تحفيظه القرآن، حتى أجاد حفظ أجزاء منه، غير أن الطفل كان شغوفاً بالغناء والطرب، والاستماع إلى شيوخ الغناء أمثال الشيخ سلامة حجازي، والشيخ عبد الحي حلمي، والشيخ صالح عبد الحي، حتى أنه اضطر إلى ترك التعليم في «الكتاب» والذهاب خلف هؤلاء الشيوخ في «الموالد» والأفراح للاستماع إلى غنائهم وحفظه، وكان والده يتعقبه في هذه الأماكن لإعادته إلى البيت ومعاقبته، إلى أن صار شاباً والتقى بفرقة «فوزي الجزايرلي» فوجد فيها ضالته، وما إن استمع فوزي الجزايرلي إلى صوته، حتى وافق على الفور على إلحاقه بالفرقة، ليقدم وصلات غنائية بين فصول المسرحيات التي يقدمها مقابل «خمسة قروش» في الليلة.

مغامرة فنية

جلس عبد الفتاح القصري يستمع إلى صوت محمد عبد الوهاب، في أدوار الشيخ سلامة حجازي، وتلميذه الشيخ سيد درويش، والشيخ عبد الحي حلمي، وغيرهم، حتى طرب عبد الفتاح إلى صوته وشعر بألفة نحوه، وما إن انتهى حتى اقترب منه ليثني عليه:

* أحسنت يا أستاذ

= الله يبارك فيك يا أستاذ

* أخوك عبد الفتاح القصري.. غاوي فن ومرسح.. ممثل دقة زمان مايتوجدش منه دلوقت

= أهلا بيك.. وأخوك محمد.. محمد البغدادي

* الله.. أمال الواد ساطور.. قصدي الأستاذ ساطور قاللي إن اسمك محمد عبد الوهاب

= اخص.. هو عملها وقالك.. طب أرجوك الاسم ده بيني وبينك محدش يعرفه خالص

* ليه أنت هربان من البوليس ولا عامل عملة؟

= لا يا أستاذ أنا هربان من أسرتي.. لأنهم مش عايزيني أغني

* أهو ده عيب العائلات اللي مالهاش في الفن

= على كده عيلتك لها في الفن وموافقين تشتغل ممثل

* لا وشرفك محسوبك شرحه.. بس أنا لسه ماهربتش.

رغم استقرار فوزي الجزايرلي في مسرح «الكلوب المصري» بالقرب من ساحة مسجد «الحسين»، إلا أنه يتنقل من آن إلى آخر بفرقته في مدن ومديريات الوجهين البحري والقبلي، بحثا عن جمهور جديد، ولزيادة دخل الفرقة، وفي الوقت نفسه، غير أن هذه الرحلات لم تكن سهلة وتخللتها متاعب ومشاكل، ورغم ذلك لم يكن يتأخر عندما يعرض عليه أحد المتعهدين عرض مسرحيته في إحدى المدن بمديرية من مديريات مصر، وهو ما حدث عندما عرض عليه «محمد أفندي الباز» تقديم عروض لمدة ثلاث ليال في مدينة «مغاغة» على البر الغربي لنهر النيل، بمديرية المنيا.

سافر الجزايرلي عبر مركب شراعي كبير في النيل بكامل فرقته، والديكورات والملابس، واصطحب معه للمرة الأولى في رحلة خارج القاهرة، الممثل الشاب عبد الفتاح القصري.

بعد يومين وصل المركب إلى البر الغربي لمدينة مغاغة وأقامت الفرقة شادراً مسرحياً على ضفة النهر، وكما هو معتاد في مثل هذه الرحلات، أرسل فوزي الجزايرلي دفاتر تذاكر الدخول إلى سكرتير المديرية، الذي أجبر عمدة القرية على شرائها، وبدوره باعها للفلاحين.

في الليلة الأولى من العرض فوجئ الجزايرلي بحضور جماهيري كثيف، وحقق عرض «البخيل» للكاتب الفرنسي موليير، نجاحاً باهراً، فشعر عبد الفتاح للمرة الأولى أنه أصبح ممثلا حقيقياً، عندما صفق له الجمهور.

في صباح اليوم التالي فوجئ فوزي الجزايرلي بسكرتير المديرية يطالبه بمزيد من تذاكر الدخول، وعندما طلب ثمن تذاكر الليلة الأولى، أخبره السكرتير أن النقود ستصله كاملةً بعد انتهاء الليلة الثالثة. لكن قبل أن يبدأ عرض الليلة الأخيرة، لاحظ الجزايرلي وجود «تعريشة» بالقرب من باب الشادر المسرحي، يجلس فيها رجل ببيع الشاي للجمهور، ولاحظ أن بعض من يجلسون فيها يتعاطون الممنوعات، فشعر بقلق كبير، وقبل بدء العرض ووصول مدير المديرية والمأمور، لحضور الليلة الأخيرة، داهمت الشرطة المكان، وقبضت على المتعاطين، من بينهم بعض أفراد الفرقة.

بدت المؤامرة واضحة، فقد تعمد السكرتير زرع هذه «التعريشة» وهو يعلم مسار الأمور، وبعد مفاوضات مجحفة، تم الاتفاق مع الجزايرلي على عدم التشهير بالفرقة، في مقابل مغادرتهم بملابسهم فحسب، وعدم السؤال عن حقوقهم، وبالفعل نُفذ المطلوب، وخرج الجزايرلي من المدينة، فجراً، يتسلل هو وفرقته واحد خلف الآخر، كأنهم لصوص يهربون من الشرطة، وهم بملابس التمثيل في العرض.

عاد عبد الفتاح القصري من رحلة «مغاغة» بعد تجربة قاسية مريرة، كاد يدخل بسببها السجن، فلم يتخيل أن الفنان لا بد من أن يواجه كل هذه المتاعب من أجل الاستمتاع بحالة الفن، ثم إمتاع الجمهور، ورغم ذلك لم يؤثر هذا الحادث على حبه للتمثيل.

غير أن المشكلة الحقيقية والأهم كانت في انتظاره، إذ استقبله والده بسيل جارف من السباب والشتائم، والشجار العنيف، ووصل الأمر إلى أن يمد يده عليه، للمرة الأولى، وهو مالم يفعله في طفولته، لكنه اضطر إلى ذلك مع رجل مكتمل الرجولة، لإحساسه بأن ابنه الكبير الذي يفترض أن يعده ليحل محله، في البيت والعمل، يضيع من بين يديه، بسبب ما سماه «الجري وراء العوالم والراقصات»، ومن دون أن يأخذ رأيه هذه المرة، خطب الأب لابنه ابنة أحد كبار تجار «القماش» في منطقة الموسكي، وحدد معه موعد الزفاف، يوم الخميس 3 أغسطس 1916، الموافق رابع أيام عيد الفطر لعام 1334ه.

خطة مضادة

لم يكن أمام عبد الفتاح سوى الموافقة على الزواج، وراح يستعد لهذا اليوم مع والده، وجهّز شقة الزوجية الجديدة، إذ اشترطت أسرة العروس أن يكون لها بيت مستقل، فلم يمانع المعلم فؤاد والد عبدالفتاح، واشترى منزلا جديداً له بالقرب من بيت العائلة، في الحي نفسه، وجهزه بالأثاث، أما عبدالفتاح فاستكمل بعض مستلزماته بمساعدة والدته وشقيقته بهية، وفيما يسيرون معاً في شارع الأزهر، ويشترون بعض الأقمشة، استوقفته شقيقته فجأة لتلفت نظره:

= بص بص يا عبده

* أبص على أيه يا بهية سيبيني في اللي أنا فيه؟

= بص شوف مين اللي هناك دي؟

* مين دي.. وإيش عرفني بيها دي بنت الوارمة؟

= أنت مش عارفها بجد؟

* وأنا أعرف الأشكال دي منين بس؟

= هاهاها.. عارف مين دي.. دي خطيبتك الأولانية اللي رفضت خطوبتك علشان أنت قصير

* أعوذ بالله.. هي دي؟ دي تعلم الواحد العفة.. الحمد لله أنها رفضت الخطوبة.. كان زماني دلوقت بدل الأخ النخلة اللي ماشي جنبها ده وقرفان من حياته.

= يا سيدي وحشه ولا حلوه أهي واحدة ست وخلاص

* ست.. ست مين أنا مش شايف أيتها ست.. دي ست أشهر

نجحت خطة الوالد إلى حد ما، فما إن تزوج عبد الفتاح حتى اعتاد حياة الزوجية الجديدة، وأصبح يعود إلى بيته مبكراً، ولم يعد يسهر في مسرح «الكلوب المصري» أو حتى المقاهي التي يدمن الجلوس عليها، وانتظم في عمله في صياغة الذهب، ما أثلج صدر والده.

لم تمر أشهر عدة حتى بدأ القلق يسيطر على العائلة، بعدما تأخر الخبر بإعلان قرب وصول ولي العهد، كان اهتمام الجميع واضحاً وقلقهم ظاهراً، باستثناء عبد الفتاح، الوحيد الذي لم يسأل أو يبدي قلقه لتأخر الإنجاب، فلم يكن يهتم بأن يكون له ولد، بل ما يشغل باله، هو أن تتاح له فرصة ليعود إلى فن التمثيل الذي يعشقه، غير أن والده وزوجته يحاصرانه بالمسؤولية وضرورة تكوين أسرة كبيرة، إذ لم تكن عائلة «القصري» كثيرة الإنجاب، حتى على مستوى الأعمام والأخوال، ولم تكن كبيرة عدداً، رغم الثراء الواضح.

ثمن الحرية

السؤال الدائم حول عدم الإنجاب وانتظار الحفيد، وبكاء زوجته بسبب هذه الأزمة، دفعا عبد الفتاح إلى الشعور بضيق، فعاد للسهر، هرباً من أسئلة والديه، ونظرات زوجته وبكائها الدائم، إذ لم يكن يحب النكد أو الحزن، بل يسعى إلى الضحك لإسعاد نفسه وكل من حوله، فانتهز فرصة طلب أسرة زوجته أن تزورهم ابنتهم، وأرسلها إلى بيت أسرتها، بل وسمح لها أن تظل هناك كيفما شاءت، ليتحرر من قيود الزوجية أياماً عدة.

في صباح اليوم التالي أرسلت أسرة زوجة عبد الفتاح في طلبه، فذهب وهو في دهشة من طلبهم والإلحاح عليه بسرعة الحضور، ليجد أنهم يقيمون «زاراً» لزوجته ويريدونه أن يشارك فيه، فقد أخبرتهم «كودية الزار» أن السحر المعد لهما حتى لا ينجبا، لن يفك إلا بحضور الزوج، ومشاركته في «الزار». ما إن دخل بيتهم، وعرف بالأمر، حتى ثار وهاج وماج، وخرج غاضباً، وفي اليوم التالي طلق زوجته، ورغم اندهاش والده من هذه الخطوة التي أقدم عليها عبد الفتاح من دون الرجوع إليه، إلا أنه لم يغضب أو يلومه، بل راح يفكر معه في الزواج من أخرى، بهدف إنجاب حفيد، فما أشبه الليلة بالبارحة، عندما طالب الجد بأن يتزوج الابن من ثانية، لإنجاب الولد.

لم ينتظر عبد الفتاح والده ليبحث له عن زوجة ثانية، ويكبله بالزواج مرة أخرى، بل سرعان ما عاد إلى فرقة «فوزي الجزايرلي» والمسرح، غير أنه وجد أن الفرقة، سافرت في رحلة إلى الشام.

وقبل أن يصاب بالإحباط ويستسلم لما يفرضه عليه والده، التقى صدفة بالممثل والمونولوجست الشاب محمد أحمد رضوان سليمان عبدالقدوس، الذي اختار لنفسه اسم شهرة «محمد عبد القدوس».

نشأ «محمد عبد القدوس» في عائلة محافظة، فوالده من خريجي الجامع الأزهر، ويعمل رئيس كُتاب في المحاكم الشرعية، بمحافظة الشرقية، ما جعله يفرض على أسرته الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على العادات والتقاليد، وكان يُحرّم على نساء العائلة الخروج إلى الشرفة من دون حجاب، ووسط تلك الأجواء كان من المستحيل أن يوافق هذا الوالد الأزهري المتزمت على احتراف ابنه الفن، بعدما تخرج في مدرسة الهندسة وعمل لفترة كمهندس للطرق والكباري، لكنه ترك بيت الوالد، سعياً وراء الفرق المسرحية وحب الفن، وهو ما جمع بينه وبين عبد الفتاح القصري:

= أدي يا سيدي حكايتي

* سبحان الله.. ويخلق مالا تعلمون

= أيه يا أخينا.. أنت شايف قدامك ساحر.. طلعتلك بيضة من تحت الطربوش ولا أرنب من جيب الجاكته

* العفو يا أستاذ.. أنا بس كنت فاكر أن المشكلة دي خاصة بمحسوبك بس.. أتاري اللي يشوف بلاوي غيره تهون عليه بلوته

= أفهم من كلامك أنك ابن «كار» محب للفن

* هو أنا محب بعقل.. أنا متيم يا أستاذ.. بس تقول أيه ماعنديش حظ.. أنا كان زماني دلوقت مع فرقة فوزي الجزايرلي في الشام.. لكن تقول أيه.. مافيش نصيب

= طب اسمع طالما أنت واقع لشوشتك كده.. أنا عندي لك فرصة كويسة.. في واحد صديقنا محامي من الفيوم عامل فرقة جديدة.. اسمه عبد الرحمن رشدي.. وضم إليها مجموعة من أصحابنا المتيمين بالفن والتمثيل زي جنابك كده.. أيه رأيك أكلمهولك وتنضم للفرقة معانا؟

* رأيي.. ودي بدها رأي.. أنا في عرضك قوم بينا على سي عبدالرحمن أفندي.

عبد الرحمن رشدي

عبد الرحمن رشدي المحامي، ابن مدينة الفيوم، ولد عام 1881، وتخرج في مدرسة الحقوق، وعمل في وزارة الأوقاف، حتى استقال من وظيفته عام 1912، وعمل فترة مع فرقة جورج أبيض، غير أنه بعد خمس سنوات من التنقل بين الفرق المختلفة، كوّن فرقة خاصة به تحمل اسمه، وضم إليها مجموعة من الشباب الهواة من بينهم: محمد عبد القدوس، زكي طليمات، أحمد علام، سليمان نجيب، وغيرهم، ليكون عبد الفتاح القصري، أحدث الأعضاء انضماماًإليها.

لم يكن الحدث المهم في تكوين عبد الرحمن رشدي فرقته من هواة التمثيل من الشباب المتعلمين من الطلبة والموظفين، بعدما كانت الغالبية العظمى من أعضاء الفرق المسرحية ممن لم ينالوا حظهم من التعليم، بل الأهم أن الفرق المسرحية بدأت مرحلة جديدة بعدما أدخل نظام الحصص، على فرقته المسرحية، وهو نظام جديد يقضي بتوزيع الدخل الوارد من إيراد الحفلات على أعضاء الفرقة، وفقاً لعمل كل عضو بالفرقة وما يقوم به، ما شكل وجهاً جديدا للمسرح المصري.

عشق عبد الرحمن رشدي التمثيل واجتهد لترقيته، فإذا قرأ رواية أجنبية كلَّف أحد الكتاب بترجمتها، وإذا سمع صوت منشد بحث عنه وضمَّه إلى فرقته، راجياً أن يضع بيده في مصر أساس الأوبريت والأوبرا كوميك ثم الأوبرا، وإذا رأى ممثِّلًا أعجبه تمثيله ضمَّه إليه، لذا رحب بانضمام عبد الفتاح القصري، خريج «مدرسة الفرير»، إلى فرقته الجديدة.

البقية في الحلقة المقبلة

والد عبدالفتاح قرر أن يزوجه فرفضته العروس لأنه «قصير»

أول مغامرة فنية قام بها القصري كانت مع فرقة «فوزي الجزايرلي»

عبدالفتاح نزل عند رغبة والده وتزوج... ثم طلق زوجته بسبب «دقة الزار»

محمد عبدالقدوس صديق القصري اصطحبه للعمل في فرقة «عبدالرحمن رشدي»
back to top