أمستردام

نشر في 30-05-2017
آخر تحديث 30-05-2017 | 00:00
 د. نجمة إدريس في نظرة سريعة إلى محتوى روايات جوائز البوكر العالمية، لا العربية فقط، يتضح للمتأمل أن الشرط المشترك بينها جميعاً أنها تعكس واقع العصر وإشكالاته الآنية، وأنها لصيقة الصلة بمجريات الوسط الاجتماعي والإنساني التي تُكتب فيه وعنه. بمعنى أن شروط الكتابة الأدبية الأخرى باتت مجرد إضافة وهوامش قد لا تخطر على بال المحكمين الذين غالباً ما ينتمون إلى شتى المشارب، والذين لا تأخذ بألبابهم سوى الحكاية ومدى قدرتها على إضاءة قضية إنسانية أو واقع معيش أو جدلية اجتماعية مستفحلة.

باعتقادي لو أن رواية "الصخب والعنف" أو "عوليس" اللتين تعدان من كلاسيكيات القرن العشرين، قام بتأليفهما وليم فوكنر وجيمس جويس في أيامنا هذه لما التفتت لهما جائزة البوكر! ذلك أنهما بما تتميزان به من تجريب وتجديد واشتغال على المختلف والمبتكَر، لا تستجيبان لشرط البوكر المعني بالدرجة الأولى بفحوى الحكاية وسلاستها ومناسبتها لجمهور القراء وعامتهم.

خالجتني هذه الخواطر وأنا أقرأ في رواية "أمستردام" للروائي البريطاني إيان ماكيوان، الفائزة بجائزة البوكر عام 1998م، فرأيت كم اعتمدت الرواية على الأسلوب الصحافي التقريري الناقل للأحداث، الأسلوب النظيف كسكين حادة، المقنن على قياس ما تقتضيه المشاهد والحوارات. أما شخصيتا الصديقين "كلايف" المؤلف الموسيقي المرموق، و"فيرنون" الصحافي والمحرر الأبرز، فقد لعبا دوراً مقنناً على قدر الحدث، وأضاءا حياة مركزة بما تقتضيه مساحة الرواية التي لا تزيد على مائتين وعشرين صفحة.

وإذا كان هناك من مهارة كتابية لدى المؤلف، فلعلها تظهر في قدرته على اقتناص نقاط الضعف الإنساني وتهافته أمام الزمن، أو إزاء التدخلات الظرفية التي تمعن في تحطيمه وقهره. وأيضاً في قدرة المؤلف على حبك عقدة الرواية التي تتمخض عن تحقيق رغبة الصديقين في التخلص من الحياة في حالة وصولهما إلى حافة الفشل وإهداء الكرامة، على أن تكون هذه النهاية بيد وتدبير الصديق الآخر. والمفاجأة أن ذلك يتم لكليهما في نفس اليوم، حين يدس أحدهما للآخر السم في الشراب.

وطوال حبك تلك الأحداث تتلامح خلفية المجتمع البريطاني، كالعلاقات العاطفية الملتبسة حين يقع الصديقان وغيرهما في حب امرأة واحدة (مولي). وكتأثير الصحافة والإعلام وصناعتها للفضائح، وكفساد الساسة الذي يُغطى بالتلاعب على مشاعر العامة، وكصناعة الرأي الموجّه بالقوى المتنفذة... إلخ. إنها باختصار رواية تلبي شرط جائزة البوكر في كونها مرآة لإشكالات اجتماعية معاصرة.

عوداً إلى مسألة الشروط الروائية للبوكر أو غيرها من جوائز مشابهة، أظن بأنه –بعد هذا الردح من التداول– يجوز لنا أن نتحدث عن فرضية إضافة شروط الإبداع الأخرى الخاصة بفن الكتابة الأدبية، كالجرأة في التجريب والابتكار في التقنيات والاختلاف في الطرح، حتى لو لم يلبِّ هذا النهج ذائقة الجمهور والعامة من القراء أو يستجيب لقضاياهم وهمومهم.

إن بقاء فن الرواية في حدود (الحكاية/ الموضوع) سيكون مناقضاً لقانون التطور الطبيعي للفنون الإنسانية وشغفها بالتجديد.

وما دامت جائزة البوكر جائزة أدبية في المقام الأول، وليست جائزة في الشأن الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو دراسة في السلوك الإنساني، فالأجدى أن يتم اختيار محكميها من بين محترفي الأدب والمشتغلين في شؤونه وشجونه، لئلا يتحول التحكيم إلى طاولة مفاوضات تضم شتى المشارب.

back to top