حبر وورق

نشر في 20-05-2017
آخر تحديث 20-05-2017 | 00:02
No Image Caption
المتعاطف

أعترفُ بأني جاسوس، من الخلايا النائمة، أو الأشباح المرعبة؛ باختصار أنا شخصية تؤدي دورين. ربما ليس من المستغرب أيضاً أن يحتوي رأسي على عقلين أو أكثر. لا تسئ الظنّ بي الآن فتحسبني كائناً خرافياً من إحدى مجلات الصور الهزلية أو شخصية من أفلام الرعب، مع أن بعض الناس كانوا يعاملونني على هذا الأساس. إنني ببساطة أمتلك موهبة النظر إلى أي مسألة من جوانبها كافة. أحياناً أفتخر بنفسي فأقول إنها موهبة نادرة، لكن لا بد من القول إن ذلك أمر تافه، أو إنه أقصى ما لدي من مواهب. وفي أحيان أخرى، حين أفكر في عدم قدرتي على كبح نزواتي فأضطر إلى النظر إلى العالم كله بتلك النظرة، أتساءل عما إذا كان الأمر يستحق أن يُسمّى موهبة. على كل حال، الموهبة أمر تستثمره وتنتفع منه، وليست بالأمر الذي يستغلك وينغّص عليك حياتك. الموهبة التي ليس بإمكان المرء استثمارها، أو التي تستحوذ عليك وتكاد تخنقك – حتماً تشكل خطراً، أعترف بهذا. لكن في الشهر الذي تبدأ فيه اعترافاتي هذه، كانت نظرتي إلى العالم لا تزال أقرب إلى النعمة بدلاً من أن تكون خطراً مؤكداً، ويبدو لي أن كل الفضائل التي ينعم بها الإنسان تبدأ على هذا المنوال.

نيسان، الشهر الذي أتكلم عنه، أحد أكثر الشهور قسوة. إنه الشهر الذي وضعت فيه الحربُ أوزارها، تلك الحرب التي اندلعت ودامت لزمنٍ طويل، كغيرها من الحروب في أغلب الأحيان. ذلك الشهر كان يعني كلّ شيء للناس الذين يعيشون في بقعةٍ صغيرة من العالم ولا يكاد يعني شيئاً لغالبية الناس في بقية أرجاء العالم. إنه الشهر الذي شهد نهاية لتلك الحرب الطاحنة وبداية.. طيب، يبدو أن السلام ليس بالكلمة المناسبة، أليس كذلك، يا عزيزي القائد؟ نيسان الذي انتظرتُ فيه نهاية لتلك الحرب بينما كنت أقبع خلف جدران القصر الذي عشتُ فيه طوال السنوات السبع الأخيرة، تلك الجدران التي تتلون دائماً بانعكاسات الضوء على الزجاج البني المتكسّر لنوافذ تحيط بها من الخارج أسلاكٌ شائكة صدئة. كانت لي غرفتي الخاصة في القصر، مثلما أعطيتموني غرفة في معسكركم، أيها القائد. بطبيعة الحال، التعبير الذي يصلح لوصف غرفتي هذه أنها زنزانة انفرادية، وبدلاً من مدبرة منزل تأتي لتقوم بأعمال التنظيف كل يوم، هناك حارسٌ وجهه يوحي ببراءة الأطفال مع أنه لا ينظف أي شيء. لكني لا أتذمر. العزلة، وليست النظافة، ما أحتاج إليه للإدلاء بهذه الاعترافات.

بينما كنت أستمتع بخصوصيةٍ كافية في قصر الجنرال أثناء الليل، فقد حرمت من هذه النعمة نهاراً. إنني الوحيد من بين الضباط التابعين للجنرال الذي يعيش معه في قصره، الأعزب الوحيد من بين الكادر ومساعده الذي يعتمد عليه أكثر من سواه. في صباح كل يوم، قبل توصيله بالسيارة إلى مكتبه الذي لا يبعد كثيراً، نتناول طعام الإفطار معاً، ونفتح الطرود البريدية على طرفٍ من طاولة الطعام المصنوعة من خشب الصاج بينما تراقب زوجته عن كثب أربعة أولادٍ مهذبين يجلسون على الطرف الآخر، تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة، والسادسة عشرة، والرابعة عشرة، والثانية عشرة، ويبقى دائماً كرسيٌ شاغراً لابنتهم التي تدرس في أميركا. ربما لا يخاف كل الناس من هذه النهاية، لكن يبدو أن الجنرال يشعر بالخوف الآن لأسباب عقلانية. إنه رجلٌ نحيف يحتلّ منصباً رفيعاً، من المحاربين القدامى، وشارك في كثير من الحملات وحصل على ميداليات كثيرة عن استحقاق وجدارة. مع أنه ليس في يديه سوى تسعة أصابع وثمانية في قدميه، بعدما فقدها من أثر الرصاص وشظايا الألغام، إلا أن عائلته والمقربين منه فقط يعرفون ما أصاب قدمه اليسرى. طموحاته التي لا حدود لها مُنيت بالإحباط باستثناء ما يتعلق برغبته في الحصول على زجاجة من شراب بورغندي الفاخر على أن يحتسيها مع رفاقه الذين يعرفون أشياء أفضل من إلقاء مكعبات الثلج في كؤوسهم. الرجل أبيقوري المزاج ونصراني ملتزم، ضمن هذا السياق، هو رجل إيمان وتقوى، يعشق فن الطهو والملذات من دون أن يُهمل الجانب الروحي؛ ويقدّس الحياة الزوجية ويحب أطفاله؛ ولا فرق لديه بين الفرنسيين والأميركيين. من وجهة نظره، هم يوفرون لنا حماية أفضل من أولئك الأجانب والمرابين الذين يخدّرون مشاعر إخوتنا في الشمال وبعض إخوتنا في الجنوب: كارل ماركس، ف. أ. لينين، والرئيس ماو. ليس لأنه سبق أن قرأ لأيّ من هؤلاء الحكماء! تلك هي مهمتي بالتعاون مع مساعديه وضباط الاستخبارات ذوي الرتب الصغيرة، لإعطائه معلومات منتحلة أو مغشوشة، على سبيل المثال، عن (مانيفستو الشيوعية) أو (الكتاب الأحمر المختصر). والأمر يعود إليه لإيجاد شتى المناسبات لاستعراض خبرته ومعلوماته عن أساليب تفكير الأعداء؛ وكانت أفكار لينين قضيته المفضلة، ينتحلها كلما استدعت الحاجة: أيها السادة، يقول أحياناً وهو ينقر على طاولة المكتب بشدة، «ما الذي علينا أن نفعل؟» إذا أردنا أن نخبر الجنرال بأن نيكولاي شيرنيشفسكي في الواقع طرح هذا السؤال في روايته التي تحمل العنوان نفسه فذلك لن ينطوي على أهمية تذكر. من يتذكر شيرنيشفسكي الآن؟ لينين هو الذي يهمنا، إنه رجل الأفعال لا الأقوال الذي استوعب السؤال وجعله قضيته التي يناضل من أجلها.

في نيسان الكئيب دون غيره من سائر الشهور، بعد أن واجه الجنرال هذا السؤال عما ينبغي فعله، وبعدما كان دائماً يجد ما يفعله، وجد نفسه عاجزاً عن فعل أي أمر. الرجل الذي لديه إيمانٌ لا يتزعزع بالمهمة الحضارية للمستعمر والتجربة الأميركية هزمته أخيراً جرثومة الجحود. على حين غرة، صار يكتفي بالتجول في دهاليز قصره وقد تغلب عليه شحوبٌ يميل إلى اخضرار ذابل كأنه مصاب بالملاريا. منذ أن انهارت جبهتنا الشمالية قبل بضعة أسابيع في آذار، كثيراً ما رأيته يتوقف عند باب مكتبي أو يأتي إلى غرفتي الخاصة في القصر ليعطيني نبذة عن آخر الأخبار، والكآبة لا تكاد تفارقه. هل تصدق هذا؟ يسألني، فأجيبه بأحد أمرين: كلا، يا سيدي! أو، إنه أمر لا يُصدق! ما كنا لنصدق أن تلك البلدة الجميلة الهادئة التي تشتهر بقهوتها المميزة، بان مي ثيوت، بلدتي أنا، التي تغفو على الهضاب، استبيحت في أوائل آذار. ما كنا لنصدق أن رئيسنا ثيو، الذي تكاد شفتا المرء تتوسلان لبصق اسمه من الفم، أصدر أمراً غير قابل للتفسير، إلى قواتنا التي تدافع عن تلك الهضاب كي تنسحب. ما كنا لنصدق أن مدينتي دا نانغ ونيها ترانغ سقطتا أيضاً، أو أن قواتنا كانت تطلق النار على المدنيين فتصيبهم في ظهورهم أثناء محاولاتهم الفرار في السفن أو القوارب. في عزلتي السرية التي يوفرها لي مكتبي، كنت أحرص على التقاط الصور لهذه التقارير، وذلك ما يُسعد الرجل الذي دربني في هذا الصدد. ورغم أن تلك الصور كانت تبعث البهجة في النفس، لأنها علامات مؤكدة على التآكل المحتوم للنظام، لم أتمالك نفسي من الحزن على المصير المؤسف الذي ينتظر هؤلاء الناس. ربما ليس من الصحيح – أتكلم من الناحية السياسية – أن أتعاطف معهم، لكن أمي حتماً ستكون واحدة منهم لو أنها ما زالت على قيد الحياة. يا لها من امرأة فقيرة! وأنا ابنها الوحيد؛ لا أحد هنا يسأل الفقراء إن كانوا يريدون الحرب. وما من أحد أيضاً يسأل هؤلاء إن كانوا يفضلون الموت من العطش والعيش في العراء على ساحل البحر، أو أن يُسرقوا وتنتهك أعراضهم من جنود بلادهم. لو كان آلاف الموتى من ضحايا الحرب ما زالوا أحياءً، ما كانوا ليصدقوا كيف ماتوا، تماماً كما نعجز نحن عن تصديق كيف أن الأميركيين، أصدقاءنا المحسنين إلينا والذين يحموننا، رفضوا طلبنا بإرسال المزيد من الأموال. وماذا نفعل بتلك الأموال؟ نشتري الذخيرة، والغاز والمواد الاحتياطية للأسلحة، والطائرات والدبابات التي منحنا إياها الأمريكان أنفسهم مجاناً. بعد أن زودونا بالحقن الطبية، غيروا رأيهم الآن ورفضوا إعطاءنا المخدر. (لا شيء، تمتم الجنرال، ينطوي على قيمة نعتز بها مثل الأشياء التي تمنح مجاناً).

في نهاية وجبات الطعام التي ترافقها المناقشات عادة، كنت أشعل سيجارة للجنرال وهو شارد الذهن يحملق في الفراغ، ناسياً السيجارة الفاخرة من نوع لاكي سترايك تشتعل وتستهلك تبغها رويداً بين أصابعه. في أيام منتصف نيسان، كثيراً ما كان الرماد يلسعه ويجعله يفيق من شروده ويتفوه بكلمات غير لائقة، والمدام تطلب من الأولاد الهدوء وهم يقهقهون وتقول له، إذا انتظرت طويلاً، لن نتمكن من المغادرة. عليك أن تطلب من كلود إرسال طائرة الآن. تظاهر الجنرال بأنه لا يسمع المدام. كان عقلها مثل الحاسبة، أو الهيكل البدني لمدربٍ رياضي، وجسدها مشدوداً كأنها عذراء حتى بعدما أنجبت خمسة أطفال. هذا القوام الممشوق من شأنه أن يلهم رسامينا المحترفين استعمال أجمل أنواع الباستيل أو الألوان المائية في لمسات فرشاةٍ عفوية تتمخض عنها تحفة نادرة. إنها باختصار النموذج المثالي للمرأة الفيتنامية. بإزاء هذا المصير الذي جمع بينهما، كان الجنرال يشعر طوال حياته بالامتنان والذعر معاً. وبينما كان يفرك إصبعه التي لسعتها الجمرة، نظر باتجاهي وقال، أتصور أن الوقت حان كي نطلب من كلود إرسال طائرة. وعندما عاد إلى تأمل إصبعه المتقرحة نظرتُ إلى المدام، التي رفعت أحد حاجبيها فحسب. إنها فكرة صائبة، يا سيدي، قلت.

موت مختلف

وحدي في الشّقّة. السّاعة جاوزت التّاسعة صباحاً. تلاشت الجلبة الخفيفة التي ترافق مغادرة التّلامذة والآباء والأمّهات منازل المجمّع السّكنيّ الذي أقطنه بضاحيةٍ قريبة من باريس. أنا، ممدّداً ما أزال على الفراش، أستمع بأذنٍ لاهيةٍ إلى لقطات الأخبار وتعليقات الهزليّين ذوي المزاج السوداويّ على الأوضاع الاقتصاديّة. سوداويّة تتفاقم مع صعود نسبة العاطلين منذ عودة الحزب الاشتراكيّ إلى الحكم في فرنسا العام 2012. لا أستطيع التركيز على شيء. ذهني ينتقل من موضوع إلى آخر، من فضاء إلى فضاء. هو أوّل يوم لي في ضيافة التقاعد: كلّ هذه السّنوات مرّت؟ أين استقرّت؟ كيف ألملمُ حواشيها لأزن ثقلها؟

أخشى أن يلازمني الشعور بأنّ الزمن هو مجرّد حاضر. حاضرٌ يتلوّن، لكنّه لا يغيّر الماضي ولا يؤثّر في المستقبل. لأوّل مرّةٍ انتبه إلى أنّ الحياة تجري في حاضر مستمرّ، وهي أشبه بجحيم لا اسمَ له. تتحرّك في حيزٍ من دون امتداد. تبحث عن علاقة أحادية مع الوقت. تتركّز الذاكرة على الآنّي. لا تستطيع أن تتقهقر إلى فسحةٍ فاتت، أو إلى مضاءة محتملة. عليك أن تستقرّ في هذا الحاضر، أن تسوسه وفق ما يجعل الإيقاع محتملاً.

يبدأ التقاعد بعد مرور سبع وأربعين سنة على وصولي إلى فرنسا. مجرّد هذا التذكّر يبعث بأعماقي صدى التوثّب والتطلّع خلال تلك الفترة الباكرة من عمري. مطلع الشباب. الأحلام المحفّزة. قبول النّزال مع الزمن... إلاّ أنّني وأنا أستحلي التلكؤ في الفراش ومرافقة ثرثرة الإذاعة وأغانيها، أحسّ وطأة التغيّر الذي طالما أنكرته... تغيّر تجاهلت انعكاسه على سرعة حركاتي، عبوره إلى العظام والمفاصل، الرّخاوة التي تشي بأنّ الصدأ تسرّب إلى ما انقضى من العمر والأيام. ما أحسّه الآن هو مثل الفرق بين وجودي داخل مركبة صاعدة نحو عنان السّماء أيّام الشباب، ووجودي داخل أرجوحةٍ تتدحرج نازلة نحو قعر يحفّه السّواد.

مع ذلك، أنتفض في قرارة نفسي متحدّياً: أنا لست آلة صماء، فاقدة الرّنين، تعبرني الأحداث والمواقف من دون أن تخلّف بصمات أو ردود فعل. بل أحرص دوماً على أن أسجّل وأناقش وأكوّن رأياً عمّا أعيشه أو أشهد وقوعه. دائماً متحفّز أمام ما يصيبني برشاشٍ ملطّخ، أو يوقظ تمرّدي على ما ليس لي فيه إرادة. كيف أنسى أن مجيئي إلى فرنسا من مدينة «دبدو» مسقط رأسي في شمال المغرب الشرقيّ، هو اختيار وتحدٍّ مناهض لما كنت أحسّ أنّه يكتم نزوعي إلى اكتشاف العالم.

في هذه اللحظة بالذات، وأنا ممدّد على الفراش أستقبل أوّل يوم في روزنامة تقاعدي، تغمرني رغبة كاسحة في أن أسرد رحلتي بطريقة ما، لتبدو المراحل والقسمات ماثلة، بارزة، فتسعفني ربّما على أن أستوعب مساراً خضع للارتجال والنزوة والجري وراء أحلام عزيزة المنال؟

أعرف أنّ استعادة حياتنا، بأيّ شكل نختاره، لا تساعدنا على حذف مقطع أو صورة من فيلم الذاكرة المشتبك مع تفاصيل واستيهامات لا ندري من أين تنبثق. إلاّ أنّ العتبة العمريّة التي أجتازها الآن تجعل نظرتي، تقييمي لهواجسي، غير ما كانا عليه من قبل. هل أستطيع الإمساك بالفروق؟ هل أتغلّب على المتاهة التي تمتدّ أمامي كلّما استرجعت سيرورة حياتي؟

لكن، قبل أن أنغمر في سرد ما قطعته من الرّحلة، وجدتني أستجيب لرغبة طاغية انبثقت من علبة سوداء قابعة في أعماقي، تحثني على أن أبدأ بزيارة مسقط الرأس: فضاء الانتماء الأوليّ إلى الهويّة. هويّةٌ تبدأ واضحة، رنّانة، قبل أن تسلك مسارب الالتباس والتحوّل، وتنحشر في نطاق فقدان اليقين.

تقترب الطائرة من وجدة، وأنا في حالة اضطراب وتشتّت. أكثر من أربعين سنة مرّت منذ غادرت مسقط رأسي، عازفاً عن زيارة دبدو، مرتع الطفولة وأيّام البكارة والسرحان وسط التلال وأشجار اللوز والزيتون، والتفاح البلدي ذي الطّعم الساكن بعد في مزدرد الحلق. كأنّني سعيتُ، منذ وصولي إلى باريس، أن أمحو دبدو وحمولاتها الذاكريّة من سجلّ طفولتي ومراهقتي، لأفتح صفحة بيضاء أنطلق منها على أرض فرنسا التي فتنت بها خلال سنوات دراستي الثانويّة في مدينة وجدة.

أبي كان يشجّعني على عدم زيارة دبدو قائلاً: «ما عندك ما تدير هنا. ما كان غير الخلاء والماء وقلة الشغل. خليك تتعلم اللّي ينفعك. أنا وأمّك تندعيو لك صباح وعشية باش ترجع لنا شي مهندس أو طبيب».

أنا كنت مشدوداً إلى عالم جديد بالنسبة إليّ، حريصاً على النفاذ إلى أعماقه وإرواء عطشي إلى المعرفة، والإسراع بالاندماج في فضاء يوقظ الحواسّ والعقل ويستحثّ الفضول. اخترت دراسة الفلسفة، ثمّ تدريسها بعد التخرّج، والتحقتُ بجمعيّات ثقافيّة، وانخرطت في نقابة يساريّة محمولاً على جناح أحزاب اليسار المعارضة للجنرال ديغول، الرافضة لرمزيّته الخرافيّة. لا شيئاً، لا شخصاً، ولا زعماء يمكن استمرارهم محصّنين داخل هالة الاعتبار والتقديس. أسلاك الجدليّة سارية دوماً، وتعيد النظر وتجهر بالانتقاد... هذا هو الجديد الذي شدّني إلى فرنسا أثناء دراستي وبعد التحاقي بسلك التّعليم. كنت كأنّي قيد الولادة مرّة ثانية، ولا أريد أن أعرقلها بزيارة دبدو أو الالتفات إلى ما يجري في أنحاء الوطن. كنت أقول مع نفسي: لتتمّ الولادة أوّلاً، وبعد ذلك، ألتفت إلى ما أستطيع أن أفعله، وقد اكتملت شخصيتي وفق معرفة ومبادئ أعادت خلّقي واندماجي في عالم اليوم.

علاقتي بأبي تطفو في مخيّلتي الطفوليّة محفوفةً بهالة مضيئة وابتسامات مشرقة، ومحبّة يغدقها عليّ بغير حساب، خصوصاً عندما يعود من رحلاته إلى الأسواق الأسبوعية التي تعقد في دواوير بني ريّص وإقليم تاوريرت ووجدة، لأنّ مهنته ككسّاب يربّي الأغنام والمعز والعجول، تجعله دائماً في حركة وتنقل. هو يجيد الحكي ونقل الأخبار ووصف ما شاهده خارج دبدو المنغلقة على حدودها. ربّما، لأنّ قبيلته من أصل عربيّ، لم يكن يسمح لأمّي الزناتيّة الأمازيغيّة، أن تخاطبني بلغة الأمّ. كنت ولدهما الوحيد، وكان أبي يعلّق عليّ آمالاً لم أكن أدرك حجمها. فرحته لا توصف حين أنهيت مرحلة التعليم الابتدائي في مدرسة ابن منظور في دبدو، حين انتقلت إلى ثانوية ابن خلدون في وجدة. أيّام العطل، كان يصحبني معه إلى المسجد وعين إشبيليّة ومنتجع تافرنت. ويقدّمني إلى معارفه بافتخار وهو يؤكّد على نجابتي ونجاحي في الامتحان بتفوّق... يُصيخ السمع وأنا أحكي له عن وقائع من تاريخ أوروبا، ولا ينسى كل مرّة أن يحثّني على قراءة تاريخ المغرب أيام أمجاده الأمبراطوريّة: وأيام مقاومته الاستعمار الفرنسي.

back to top