حبر وورق

نشر في 13-05-2017
آخر تحديث 13-05-2017 | 00:00
No Image Caption
ثلاث ليال سوياً

كالمعتاد، أجلس بعيداً عن أعين البشر، على قارعة النّهاية، ألمس الماضي اللّئيم بنرجسيّة مستخدماً أطراف أناملي، تغرورق عيناي، ويرتفع مستوى نبضي فألهث... أفسح مجالاً لقدميّ، فأهوي بين فراغ المجرّات، أستلقي بين النّجوم؛ حيث راحتي، فما أغلق عينيّ، إلاّ لمحت وجه الجميلة أمّي في وسط هذا الكون، وعلى ورقة الشّمس...

مذهولٌ أنا!

ألتفت نحو اليسار قليلاً، فأحدّق باتّساعٍ أكبر، إنّي أراهم أجمعين، أراهم على حلزونيّة المدارات، على وجوه الكواكب... أرى الموت بيننا، يحدّق إلينا في وجارٍ ماكر. إنّي أخافه، أخافه جدّاً...

فمن أنا إذاً؟

هل أنا النّيزك اللعين الذي سيعود إلى الأرض بعد دقائق؟

أم أنا النجوم المحدّقة إلى اللانهاية؟

هل أنا ليل الفضاء؟ أم نهاره؟

هل سأهوي وأسقط في المدار الأخير؟ أم سأعود قبل أن أفعل؟

هل أستطيع أن أعدّ النجوم الآن؟ هل أستطيع أنْ أعود في الزّمن كي أعيد سراج قبل التّلويحة الأخيرة؟ أم أن الأوان قد فات؟

أهذا فاصل موت؟ أهذه النّهاية؟ أم هو الفراغ؟

أنا مشتّت الفؤاد، ومتأرجح العقل، وبحاجة إلى أن أعود إلى رشدي، فليلسعني النّحل، أو لأذهبنّ إلى الجحيم...

في آنٍ واحد

طبيعيّ أنا، بل أقل. أستيقظ مع أبي في بواكير الصباحات على صوت ملأ المدى كلّه «الصلاة خير من النوم»، أملأ يومي في ما يسعدهم – عائلتي – أداوي جراحهم، وأمنحهم فسحة من أمل الدّنيا؛ تسليهم مأساة الوطن، حتّى أصبح هذا عملي، إذا غبت قليلاً عنهم، خالوا المنزل بلا حياة، مفعماً بالكآبة. كنت شقيّاً بعض الشيء، وعاشقاً متيّماً بحبّ أمي التي كانت توقظني في كلّ مرّة تعانق فيها الشمس السماء بحميمية، تقبّلني قبلة الصباح، التي تملأ مخزون طاقتي إلى أن أخلد إلى النوم حتّى أحيا مرّة أخرى في الصباح التالي. كنت ألعب مع حسام وبهاء بترنّم جليل، على الرغم من الأحد عشر عاماً التي تفصل بين أعمارنا، كانت ياسمين تعانقني بحبّ، كدت أخالها أمي فيه... كان أبي يضحك في كل مرّة يرى فيها صفحة وجهي – وكأنها طقوس! – أمّا عن الجميلة أمي فقد جمعت كلّ ما قيل أعلاه في آنٍ واحد...

لقد أعادت أمي ترميمي، أعادت بنائي، سبب وجودي... عمودي الفقري، قلبي الثاني.

أمّا محبوبتي فهي مسلوبة ومنتشلة من بين يديّ. فلسطين الجميلة، قلبي لا يتّسع لحبّها، أريد قلباً آخر، كي أحبها مرّتين، أريد جسداً آخر، كي تتوحّد بنفسي مرّتين، أريد عقلاً آخر، كي أشغل نفسي بها مرّتين، وفي آنٍ واحد...

وطنيّتي أسمى اهتماماتي، إذ إنّها تشعّ شراراً من عينيّ، ليس ذلك وحسب، بل كنت دوماً مرتدياً الكوفيّة الفلسطينية، ولم أخلعها عن كتفيّ قط. فإن خلعتها، خيّل إليّ أنني انتشلت كتفيّ عن جسدي؛ فيعرف عابر سبيل بأنّ معشوقتي الأولى هي فلسطين البهيّة...

الوطن يا صديقي، ليس بمساحاتٍ تقاس على الأرض، إنّما هي روحٌ تتجسّد فينا. تمشي في عروقنا، تعبر بين أجزائنا، تمرّ في العقل، وينتهي بها المطاف في القلب. فإذا سكنت القلب، مكثت فيه؛ كأنما دخلت في اللانهاية، فلا سبيل لخروجها...

الوطن يا صديقي ليس كما تراه قط! إنّه اصطخابٌ بديعٌ أخّاذ... لوى كتفيّ أنا الطّير المنكسر الكور، ومتقطّع الفؤاد...

أيّها القابعون بين سياط المهاجع، الرازحون تحت جهل البساطير، المتجرّعون حدّة الزّجاج، المقاتلون تحت الظّلمة، الباكون على ماضٍ جميل، وحاضر آسن، المستلقون على أرائك الخيال، الحانّون لرائحة التّراب بدلاً من الرّائحة المريعة التي تغزو حولهم نقاء الهواء مجهول الماهيّة، الميّتون سريريّاً، المتبدّدون تحت التّراب. إلى الذين يحلمون بالسّلام، وما رأت أعينهم يوماً سلاماً. إلى من يبعثون في فؤادي رياح الألم، إلى من يثورون على الكآبة، ويموتون باحثين عن تراب وطنٍ أنكرته الجغرافيا، ومسح اسمه التّاريخ، وتلاشى فيه الأمل، وماتت فيه الحياة، إلى من هالتهم أُفق سوداويّة، وأرهقتهم كذبات ذويهم. إلى من يسجون من يهوون تحت بياض الأكفان، إلى من يرون الوطن يهوي في العبث، ويبكون على بستانٍ ضاع بين السلب والباطل...

نحن لسنا بخير يا أصدقائي، نحن أيضاً نموت، وإن لم نكن نرى هذه المهاجع والبساطير. نحن أيضاً نحلم بأوطاننا المتلاشية، نحن أيضاً نشتاق إليكم كما تفعلون، نحن أيضاً نبكي كلّ يوم، نحن أيضاً نرى شبح المستوطنين في كلّ زاوية نلتفت إليها، نحن أيضاً نشرب باستمرار من كأس العبوديّة، نحن أيضاً مللنا الشّرب، ومللنا من تشتّت حرّيّتنا ووقوعها مع كلّ خطوة نخطوها.

أيا أصدقائي، نحن أيضاً كللنا، نحن أيضاً تتداخل مشاعرنا ونسقط على الأرض ضعفاء، باكين، صارخين...

نحن نشبهكم، وأنتم تشبهوننا، وفي آنٍ واحد...

وفي النّهاية يا صديقي، الوطن أكبر بثلاثة أضعاف من أضعاف حروفي تلك، وفي آنٍ واحدٍ أيضاً...

طبيعة عيش

نقيم في مخيّمات مدينة غزّة – مخيم رفح بالتحديد – معاذ الله أن أخجل من مكاني الذي أعيش فيه، فإنّ الرّجال – بحسب نظرتي – يولدون من رحم المعاناة. فقرنا مغتصب يريد أن يذلّنا؛ لا نستطيع محو الفقر، لكننا بالكاد قد منعنا سطوته...

نحن جمعٌ لا يخاف، لا يخاف عدوّاً صهيونيّاً ولا قنبلة مسيلة للدموع، نحن صانعو «المولوتوف» الذي نرجم به ظلاّم الحب، وطغاة الأرض!

نحن جمعٌ لا يخاف الاختلاف؛ اختلاف الشّكل واللون والدّين والجنس والفكر... نحن جمعٌ تجمعنا هوية ضائعة واحدة، نحن جمعٌ متّهمون بالفلسطينية، ونُعاقب على عروبتنا. نحن جمعٌ يؤسر الأطفال فيه قبل الرّاشدين، ويُعذَّبون منذ نعومة أظفارهم...

نحن ثلّةٌ لا تطالب إلا بالحرّية والسّلام. يتجمّع الظلم بين خلايانا، يختلط مع دمائنا في كلّ مرّة تعانق فيها السّياط أبداننا...

نعرف الحبّ جيداً، نخلط بين الهوى والثورة، فيمسي حبّنا أقوى؛ ذا روابط متينة، ضخمة، وصعبة الاقتلاع...

أشغل مساحة يومي كلّها في التّفكير بعائلتي وفي ما ينقصهم، أنا الأصغر سنّاً، والأكبر همّاً. أصررت على متابعة رحلتي الدّراسية، التحقت بجامعة الأقصى – كليّة الهندسة الميكانيكية – كانت تلك من أصعب سني حياتي. كنت أدرس جادّاً من أجل والدي، وكنت أعمل في الوقت ذاته في مخيطة قريبة، حتّى وصل بي الحال إلى أن أدرس في المخيطة، واضعاً كتابي على يميني مازجاً الفيزياء الثالثة والحياكة معاً...

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات على تلك الأيام التي خلت.

ورغماً عن صعوبة عيشنا في أيام الحرّ، يلتهب حبّنا لأوطاننا أكثر؛ ففي كلّ مرة تلامس فيها الشمس ورقة وجهي الصفراء، يولد منّي أمل تسلّق إلى ذهني من فوق كلّ هذا الخراب، وعبودية اليأس...

وأمّا عن برودة الشّتاء، فلا أقوى على إنكار الحقيقة، إنّها أسوأ أيّامنا على الإطلاق، تتقاطر المياه مستقرّة في آنية مبعثرة في أرجاء البيت قبل أن تتحوّل إلى دفق مدرار فتحول البيت بركة ماء. تتجمّد أجسادنا برداً لا تدفعه ثيابنا الرقيقة البالية، تتطاير الأسقف فنلتحف السّماء ونفترش الأرض، فلا عون ولا مغيث لنا إلاّ الله. وبالطّبع تسكن الكآبة نفوسنا إلى أن تجفّ مقلة السّماء ناظرة إلينا بعين الرّأفة...

على عكس الشّتاء الماضي من السّنة السابقة، لقد كان ألطف شتاءات الكون – من منظوري أنا – لقد كان أشدّ دفئاً من وقوفي تحت دائرة الشّمس!

كانت الأمواه قد تدفقت في أنحاء المخيم كلّه، فهرع الجميع من منازلهم؛ خوفاً من غضب المياه، وفجأة! يتهادى موج الوابل، تتأرجح السّماء، ينصت القمر... فتعبر الفاتنة من بين هذا الحشد الهارب من شبح الماء كلّه، فلا أرى غيرها، كأنها اختصرت منظر الحياة في بقعة واحدة. ثم خيّل إليّ أن السماء قد توقّفت عن النشيج، وأنها تحدّق إلينا. كأنّها تمرّ ببطء، أدقق في خصلات شعرها التي عانقت وجهها الملائكيّ، أحفظ انحناء ثغرها عندما تبتسم محدقة إلى وجهي الأبله الشارد فيها، فيهبط قلبي ويئن لاهجاً: سبحان الخالق العظيم! سبحانه في كلّ نظرة يتيه فيها فؤادي إلى زحل... وعندئذٍ، استعدت صوابي، اختفت عنّي، ولم تختفِ» منّي. وعدت إلى منزلي منكسر القلب، مشتّت العقل، ضائع الفكر، غارقاً في الهيام، كي أكمل تفريغ المياه التي فاضت على كلّ البيت، وجعلت منه مسبحاً للأولمبياد...

شرودك في المرّة الأولى يا صديقي لا تتغافل عنه، لا تغلق عليه أبوابك كلّها، صدّقني يا صديقي بأنّك هنا أخيراً قد وجدت النور الهارب منك طوال الأعوام التي مرّت، هنا يا عزيزي.

قد بدأت تحيا من جديد، بدأت تجد نفسك مرّة أخرى بعدما تاهت عنك. هنا، ستندثر ساجية الهوى على ضفاف العمر، لتترعرع فيها وتسكن بينها حيث راحتها، لست أبلغ منها قوّة؛ لا تعاندها، فقد غزت الآفاق الممتدة بين قلبك والحب. وإن خالفتها، سوف تصدر عويلاً أشبه بخناجر تغرز بين أفكارك... وقنابل تقذف قوتك حتى تتلاشى شيئاً فشيئاً...

حصاد الشوك

حتى الورقة تصبح أخفّ إذا حملها اثنان.

«مثل كوري»

بلبنان الله اعتنى، قصّو من الجنّات

وخلّى عيونو ليالي طوال سهراني

يحسّن، ويجبُل حلى تا تعبت الديّات

ما عاد متلو بنى وهندس شغل تاني

جبالو يا ملفى النسور وموطن الأرزات

ونسمات تبقى بعزّ الصيف دنقاني

سهولو يا أرض الجنى، ومواسم الخيـرات

تروح الصبايا وتجي بسلال ملياني

ما احلى الروابي الخضر! ما أطيب الغفوات

عا صوت بلبل حلو بفيّة سندياني!

وتحت ضو القمر ما أجمـــل السهرات!

وتبقى السطيحة بملقى الأهل عمراني

بلادي بترخص لكِ بعروقنا الدمّات

تروي بيوم الفدا أرضِك العطشاني

رح عيش فيكَ متل ما عاش بيي ومات

وتاموت ببقى وفي وبضلّ لبناني.

كان أبو منصور يغنّي هـذه الأبيات مـن «الشروقي» بصوته الجبليّ الجميل يختلط بطنين الأجراس المعلّقة في عنقي ثوريه القويين، وبصدى عيارات نارية متقطّعة من بنادق الصيّادين، ووقْع حذائه الضخم المسمّر على حجارة طريق متعرّج ينحدر حيناً ويستوي أحياناً، ويَصِل الضيعة بالوادي حيث تمتدّ كروم الزيتون وبساتين الليمون الواسعة. وبين الفينة والفينة كان يرفع رأسه، ويثبّت «لبّادته». وينظر يمنةً ويسرةً منشرح الصدر ليملأ رئتيه بنسيم منعش معطّر برائحة الوزّال، والصنوبر، والصعتر البريّ.

مثل فجر أمس، وصل أبو منصور قبل ساعة من شروق شمس نيسان إلى كرم الزيتون. وبدأ يحرثه بنشاط وفرح، إلى أن أطلّت الشمس، وأرسلت أشعّتها الذهبية تدغـدغ أجفان العصافير النائمة في أعشاشها، وتتراقص على قطرات الندى المتهادية على أوراق النرجس وشقائق النعمان.

ولمّا بلغت الشمس قبّة السماء، كان جبين أبي منصور يتصبّب عرقاً يتساقط على التراب الذي رواه عرق أبيه وجدّه من قبله، فرفع النير عن رقبتي ثوريه، وأطلقهمـا يرعيان العشب الأخضر. وأحضر زاده وجلس مفترشاً التراب، سانداً ظهره إلى جذع زيتونة هرمة علّق على أحد أغصانها بندقية صيـد ورثها عن والده. وأكل ممّا كانت قد أعدّت له أمّ منصور، مستعيناً ببعض عروق خضر من الهندباء البريّة. ثم راح يسرّح ناظريه في الجبال والأودية البعيدة، ويهزّ رأسه قائلاً في قرارة نفسه: «كم أنتِ جميلة يا بلادي! يا أرض الخير والبركة التي أنبتت أبطالاً وقدّيسين. سنعيش فيكِ، نحبّك ونفتديكِ بدمائنا لأن روح الله تعطّر روابيكِ، ورفات آبائنا تستريح في ترابك».

وإذ حانت منه التفاتة إلى ظلّ شجرة الزيتون؛ أدرك من غير أن ينظر إلى ساعة يده أن الوقت ناهز الثالثة عشرة، فنهض مستعجلاً. وجمع الثورين إلى بعضهما. وعاد إلى الحراثة من جديد. واستمرّ يشقّ بطن الأرض بمحراثه إلى أن اقتربت الشمس من الأفق، وأصبح بإمكانه أن ينظر إليها بعينين جامدتين، ويراها قرصاً برتقالياً يسقط ببطء خلف الجبل. في هذه الأثناء، سمع صـوت الراعي يجمع القطيع في سفح الجبل المقابل ليعيده إلى الحظيرة قبل أن يرخي الليل سـدوله فيتردّد صـداه في أرجاء الوادي السـحيق. وما هي غير دقائق معدودات حتى كان أبو منصور في طريق العودة إلى البيت.

****

-ليعطك الله العافية يا فارس.

-وليمنحك الصحة والقوّة. كيف أصبح الصبي يا نجلا؟

-ما زال مريضاً. لقد كان أمس أفضل حالاً من اليوم.

لفّت غمامة من الحزن قلب أبي منصور، وتجهّم وجهه عندما خرجت أمّ منصور لملاقاته وأخبرته بأن حال ابنهما ناجي قد ساءت.

ناجي فتىً في السادسة عشرة من عمره. يصغر أخاه منصـوراً بثلاث سنوات، وأخته سامية بسنة واحدة وبعض السنة. طويل القامة، نحيل الجسم، ذكيّ لكنه لا يحبّ الكتاب كثيراً. ولم يكن يقوم بواجباته المدرسيّة إلّا إرضاءً لوالدته التي كانت تريد له ولأخيه أن يتعلّما فلا يرثا مهنة والدهما القاسية.

عاد ناجي بعد ظهر ذلك اليوم من ثانوية بلدة دير القمر الرسميّة. ولدى وصوله إلى البيت، أخبر أمّه بأنه يشعر بقشعريرة في جسـمة ودُوار في رأسه، فألقى حقيبة كتبه جانباً. وأوى إلى الفراش علّه يشعر بالدفء ويرتاح.

صباح اليوم التالي، استيقظ ناجي وكانت شفتاه ترتجفان من البرد، فطلب من أمّه أن تدثّره بغطاء سميك من الصّوف، ففعلت. لكنه استمرّ على حاله. ولم تكن لتجدي نفعاً كلّ وصفات أمّ منصــور، واستشارات جارتيها أمّ نمر وأمّ عفيف أرملة عبدو سالم. وبقي ناجي طريح الفراش، يرتجف من البرد حيناً، وتتصبّـب جبهته عرقاً من شدّة الحرارة حيناً آخر، فكأنه كان يتنقّل بين فراش الجليد وسرير النار. واستمرّت الحال على هذا المنوال عـدّة أيام بلياليها.

وكان مساءٌ عاد فيه أبو منصور إلى البيت بعد انقضاء يوم عمل آخر. وجلس على الأرض قرب سرير ابنه. ووضع يده على جبينه، فنظر ابنه إليه، وابتســم ابتسامة حزينة.

-كيف حالك يا ناجي؟

-الحمد لله. عساك أنت بخير يا أبي.

-لن أكون كذلك قبل أن تعود سليماً معافىً، وتغادر هـذا السرير.

ساعتئذ سأكون بألف خير يا بنّي.

قال أبو منصور هذه الكلمات محمولةً على تنهيدة عميقة بعدما لم يعُد لديه أدنى شكّ في أن ابنه مصاب بالحمّى.

في تلك الليلة ساءت حال ناجي، وأخذ يهذي من شدّة الحرارة، فأوجست أمّ منصور خيفةً. وهرولت إلى بيت أمّ نمر علّها تساعدها بما يخفّف عن ابنها، فتناولت أمّ نمر وشاحها، وألقته على كتفيها وهي خارجة من الباب حاثّة الخطى برفقة أمّ منصور. وبعد قليل كان أبو نمر أيضاً في بيت جاره يطمئن على أبنه.

-كيف حاله اليوم يا فارس؟

إنّها سيّئة جدّاً يا أخي يوسف. بالي مشغول. يجدر بي نقله إلى الطبيب ولكن ...

-ولكن ماذا؟ سأل يوسف وهو ممسكٌ بساعدَي أبي منصور وقد أدرك في الحال ما يجول في خاطر جاره. ثمّ مدّ يده إلى محفظة نقوده، وأخذ منها بضع مئات من الليرات: «خذ يا فارس. عساك لن تحتاج إلى أكثر من ذلك. وإن احتجت فأنا إلى جانبك».

تردّد أبو منصور قبل أن يمدّ يده ببطء، ويأخذ المال: «ليحفظك الربّ»، ويحفظ عائلتك من كلّ سوء يا أبا نمر. إن شاء الله أعيد لك هذا المال في موسم الحرير القادم».

-عيبٌ هذا الكلام يا أبا منصور. نحن أهل وأبناء بلدة واحدة.

أما أمّ نمر وأمّ عفيف فبقيتا تلك الليلة عند أمّ منصور حتى ساعة متأخّرة من الليل.

في عيادته وصف الطبيب لناجي الدواء. وحثّه على الصمود، وعدم الاستسلام للمرض. ودعا والده إلى التفاؤل بالخير والاتّكال على رحمة الله.

ولما خرج الاثنان وقفلا عائدين، أمسك ناجي بيد والده ونظر حزيناً إلى عينيه: «لا أراك الله مكروهاً يا ابي لتبقى لنا صدراً نتكئ عليه ويداً نتبارك بها. أعدك بأن أكون الابن الصالح فلا آتي يوماً إلا بما يرسم البسمة على ثغرك، ويلقي الفرحة في قلبك».

back to top