في غرفة العنكبوت

نشر في 06-05-2017
آخر تحديث 06-05-2017 | 00:00
No Image Caption
أذكر الآن جيداً كيف بدأ هذا الكابوس.

كنت عائداً مع عبد العزيز من شقته في شارع قصر العيني، سائرين في حالة صفاءٍ نادر، في طريقنا لنشرب شيئاً في مكان قرب الفلكي، حينما استحوذت عليّ رغبةٌ عابثة في أن أمسك يده، أو كأنها لسعة خوف مفاجئة اجتاحتني فأردتُ أن أتشبث به.

ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أمسكتُ فيها يده في الشارع أمام الناس، والغريب أنه لا أبعد يده ولا صدّني برقة كما توقعت. أمسك كلٌ منا يدَ صاحبه، فتبدّد خوفي مجهول السبب وفي اللحظة التالية نزلتْ على أكتافنا الأكفّ الغليظة. استدرنا في دهشة لنتأكد من أنها ليست مزحة من أصدقاء مزعجين. طلبوا منا تحقيق الشخصية وما زالت أيديهم تتشبث بنا كأننا قد نجري لو أفلتونا. للحظة أحسستُ بالذنب، فكأنهم ظهروا من العدم لمعاقبتنا فقط لأنني مددتُ يدي لصاحبي فأمسكها.

سألهم عبد العزيز قبل أن يخرج بطاقته الشخصية:

أقدر أعرف حضراتكم مين؟

كان يتحدث في ثقةٍ وانفعال، وأنا أجاهد لأخفي ارتعادي، ورداً على سؤاله قال من بدا أنه كبيرهم:

ما تستعجلش يا حبيبي هتعرف كل حاجة في وقتها.

ثم نظر خلفه، فاكتشفنا وجود بوكس غير بعيد ونادى على هياتم. كنتُ أعرف هياتم من بعيد، شاب أبيض وبدين وله حاجبان رفيعان كأنهما مرسومان بقلم جاف، اسم شهرته هو هياتم، ولا أعرف اسمه الحقيقي. كان هو مُرشدهم ليلتها.

أتى هياتم وهو يسير بثقة بين فردي أمن في ثيابٍ مدنية. سأله حسن فوّاز:

مين فيهم؟

فأشار نحوي من دون أن ينظر إليّ كأنه خجلان قليلاً، ثم قال:

لكن التاني ده ما عرفوش، أوّل مرّة أشوفه.

نظر كبيرهم نحوي وسألني بسرعة لإرباكي:

إنت {جاي}؟

فأجبته بصوتٍ مرتجف:

يعني إيه؟

فقال:

طب تعال معانا يا حبيبي، واحنا نقول لك يعني إيه.

ثم نظر نحو عبد العزيز، وأمر عساكره:

هاتوا ده كمان لمّا نشوف حكايته إيه.

في أقل من خمس دقائق كنا في البوكس، بين أكثر من عشرة رجال آخرين. كان عالمي الطيّب يبتعد مع مرور كل ثانية، بينما يبسط الكابوس جناحيه الأسودين فوق كل شيء. ظللتُ متشبثاً بيد صاحبي في عتمة العربة.

اسمي هاني محفوظ، وكنتُ طفلاً وحيداً مدللاً من الجميع، كأن أمي الشمس وأبي القمر.

لكنّ أكثر مَن دللني وأحبّني كان جدي الخواجة ميدا، الذي اعتقدتُ أنني قتلته وأنا ابن ست سنوات، حين رأيته في منامي يوقظني ويقبّلني ويلمس شعري، قبل أن يفتح النافذة ويخرج منها فيصعد للأعلى، حتى يختفي طرف جلبابه المخطط وقدماه الحافيتان في ظلام الشارع. حكيتُ لماما الحلم على فراشها ما إن صحوت، همساً وأنا خائف لا أدري لماذا، فاحتضنتني وأمرتني ألاّ أحكيه لأي شخص آخر، وخصوصاً جدتي سكينة، لأنّه:

فال وحش على جدك، وستك تزعل مننا وتعمل لنا دوشة.

ما هو إلاّ أسبوع أو أقل ومات جدي ثم فوجئت بماما نفسها تكشف سرنا وتحكي لهم الحلم كأنها فخورة بي، وأعلنت أنني طفل رُوحاني وشفّاف وفيّ شيء لله. لم أفهم شيئاً من هذا، لكني أحسستُ بتغيّر نظراتهم نحوي، ولو لفترة قصيرة قبل أن ينسوا الأمر تماماً، إلاّ جدتي سكينة، أو السكّينة الحامية كما كنّا نسميها أنا وماما سرًا، وقد صارت ترشوني بالحلوى والنقود، كما لو أنني قادر على أن أحلم بموتها هي أيضاً فأجعلها تطير من الشباك وراء جدي. لم يقلل هذا من شعوري بالذنب والتُهمة كأنني قتلته عامداً، قتلت أحبّهم جميعاً إليّ، الوحيد الذي حنّ قلبه لتوسلاتي فأمرهم بتأجيل التحاقي بالمدرسة الابتدائية لسنة أخرى. الوحيد الذي أحبّني ودللني كأنني النجم الوحيد في ليل عمره.

اسـم جدي الحقيقي محمد محفوظ، أسمته ميدا الست اليهودية التـي تبنته منذ أن كان في العشرين، والحقته بالعمل في صالون الأزياء الصغير الذي تمتلكــه بالطابق الأول من عمارة قديمة في شارع عدلي بوسط القاهرة. يُقال إنه أتى إليها جلفاً لا يعرف كيف يلضم خيطاً في إبرة، فعلمتْه صنعة الترزية. وكانت ســتي سكينة تضيف وهي ترقّص أحد حاجبيها: وصنعة اللطافة كمان.

أتخيّله شاباً نحيفاً طويلاً رشيقَ القوام، بعينين عسليتين لامعتين، خفيف الحركة وحلو اللسان، والأهم من ذلك كله صوته الرائق العذب. كان في سنواته الأخيرة، كلما فاز بهدنة قصيرة مع السُعال الجاف ووجع المفاصل، يغنّي لي بصوتٍ أجش وحلو مع هذا: (طلع الفجر ذهب الليل والعصفور صوصو)، فأردّد معه وأنا أتمايل راقصاً.

وفدَ من المحلة، شبه هارب من أهله، ليقتحم مجال الفن، كما كانوا يقولون، اللوثة ذاتها التي لم يسلم منها شخص واحد في أسرتي تقريباً. ترك وراءه أسرة فقيرة وكثيرة الأبناء، أغلب رجالها من العمّال في مصانع الغزل والنسيج، حياتهم مرسومة سلفاً من الميلاد للموت مُشتبكة بتروس الماكينات والخيوط والقماش، لا ينتزعهم منها إلا الموت بأمراض صدرية مزمنة، أو الهرب كما فعل جدي،‏ ‏حين أفلت خيطه في اللحظة المناسبة. ربما لأنه كان مختلفاً عن أشقائه وأقاربه، وربما أحسّ بهذا الاختلاف بسبب الإعجاب الذي خصّه به من حوله على الدوام، الإعجاب بصورته وبصوته الحلو، حتى فارَ الطموح في عروقه، ودفعه إلى العاصمة بلا نقود ولا معارف ولا خطّة واضحة.

يحكون أنه انتظر نجيب الريحاني طويلاً أمام المسرح، وحينما رآه رمى بنفسه عليه وأخذ يتوّسّل إليه ليضمّه إلى فرقته، أو حتى يسمح بأن يسمع صوته ولو دقيقة واحدة، ولعلّ الريحاني كان مشوّش البال أو منزعجاً لسبب ما، وربما لم تكن فرقته في أزهى أحوالها، فنهره قائلاً:

هيا المشرحة ناقصة قتلى روح يا بني الله يسهلّك.

لكنه حين رأى الانكسار على وجه الشاب الشاحب وهو يخطو مبتعداً، ندَهَ عليه ودسّ في كفه عملة معدنية ثقيلة، وهو يقول له:

شوف لك شغلانة تانية بدل ما تموت م الجوع.

من صبي في مقهى إلى بائع قراطيس حبّ العزيز أمام المسارح والسينمات، أوشك محمد محفوظ أن يتحوّل إلى كلب شوارع يبيت في أي مكان ويأكل ما يجده متاحاً ويحلم بالمجد على الأرصفة وهو يتأمل الأفيشات. ثم تلتقطه الست بيبا، خيّاطة الطبقة الراقية وسيدات المجتمع، حين أخذته إليها عاملة شبّاك تذاكر قررت مساعدته. بالتدريج، علمته السيدة بيبا كل شيء؛ كيف يلبس ويتكلّم ويبتسم للناس وينظر في أعينهم عند الحديث إليهم ليوحي بالثّقة والكفاءة، وكيف يتعامل مع زبوناتها من الهوانم، وهو يعرض عليهن عينات الأقمشة الجديدة. كان تلميذاً نجيباً وبعد أشهر قليلة فصّل أول باترون بنفسه.

back to top