تعال معي إلى الكونسير (1)

نشر في 01-05-2017
آخر تحديث 01-05-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم "تعال معي إلى الكونسير" كتاب من تأليف المبدع السهل الممتنع "يحيى حقي" الذي لا أجد بحق أي كتابة تستطيع أن تلم بتفرد روح كتابته، صعب القبض على متاهة إبداعه وبحرها الواسع العميق وإن كانت تتجلى في منتهى السهولة والبساطة المراوغة، حتى يخيل للقارئ أنه بالإمكان تقليدها وكتابتها، لكن غوايتها تغري وتوحي بإيهام كاذب لأنها لا يمكن أن يأتيها من لا يملك موهبة عبقرية بالسليقة، معجونة بجينات معطيات يصعب تحديدها، كلها صبت في قالب خفة الدم المصرية والقدرة الخارقة لنفاذ وقنص جوهر ولب المضحك والساخر من قلب حركة حياة الناس وعمق المعنى وتفاصيله.

يحيى حقي ملك السلاسة والبساطة والتدفق مع عمق نافذ في إنسانية كل مشهد، وشحنه بخفة دم ساخرة تمنح مشاهدة حياة خالدة في كتابة شمسها لا تغيب ولا تُنسى.

"تعال معي إلى الكونسير" كتاب يصحب القارئ عبر صفحاته الـ128 في جولة لفهم ثقافة الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية بطريقة تعليم سهلة عذبة مملوءة بالمزاح والتهكم الساخر حتى من ذاته، لا تغيب عنه شاردة ولا واردة كلها تقفز لتدخل في كتابته، لدرجة حرت معها، فكل مشهد وكل فقرة وكل جملة تدهشني بقوة صيدها المكتنز لجميع المعنى، فهذا الرجل تتجلى بساطته المتناهية في قدرتها العجيبة على المسك بروح المعنى مباشرة، والتعبير عنها بما قل ودل، وكلها مدرسة لتعلم تلقائية الكتابة وعمق المعنى، إضافة إلى إحساس جواهرجي دقيق يدرك قيمة وديناميكية كل كلمة حتى لو كانت عامية، فهو قادر على صقلها وجعلها كالماسة مشعة ومضيئة لمعنى الجملة كلها، وحين يضع بعض الكلمات العامية لا يضعها كيفما كان، بل هو اقتنص قوة إشعاعها وإضاءتها للمعنى كله، هذه القدرة رفعت من قيمة الكلمات العامية المختارة من شعبيتها ورفعتها لأرستقراطية اللغة العربية، بل تفوقت عليها باكتنازها قوة التعبير واختصاره في كلمة، مثال على ذلك كلمة كسلسلول الماء، ومفنجل العينين، وصنف العواطفجية، وكلمات كثيرة مثلها.

الكتاب يبدأ من لحظة دخول قاعة دار الأوبرا بوصفها من شكل وترتيب المكان إلى وضع الحضور وأمزجتهم، ثم شكل المسرح وأفراد الأوركسترا وآلاتهم ثم قائد الأوركسترا أي المايسترو والتعليق الفكه على لبسه، ثم يبدأ شرح وتعليم طريقة الفهم والسماع للمعزوفات الكلاسيكية في النصف الأول، ثم تليه الاستراحة وتعليقه عليها، وأخيراً يبدأ النصف الثاني من العرض، والجزء الآخر من الكتاب خصصه لموضوع لا تقل أهميته وقيمته عن الموسيقى الكلاسيكية، ألا وهو موسيقى "سيد درويش" التي تناولها من زاوية ربما لم يفطن إليها أحد من قبل وهي الكاريكاتور في موسيقاه، وهذا الجزء سأتركه للمقال القادم.

طريقة شرحه وتعليمه في منتهى السلاسة العذبة التي تسهل وصول المعرفة والمعلومة ببساطة معجونة بخفة الدم والتهكم الساخر، لدرجة صعّبت عليّ الاقتباس، فكل الفقرات جميلة مبهجة وهذا مثال منها في وصف أعضاء الأوركسترا: "ومن باب جانبي من المسرح يتقاطر أعضاء الأوركسترا فرداً وزوجاً وثلاثاً وعنقوداً بلا ترتيب، كسلسلول الماء من صنبور شرقان، كل منهم يحمل آلته بيده، حريصا عليها أشد الحرص إلا الطبل والباس، فإنها حُملت إلى المسرح من قبل، لأن حملها ثقيل جئنا لنشهد عازفين لا عتالين، وكذلك البيانو أو الهارب إن كان في البرنامج دور لأحدهما".

وهذا اقتباس ساخر يصف فيه صلعة قائد الأوركسترا: "ولكن رأسه يتنازعه صلع لامع وزغب لا يجد فيه المشط ما يملأ عينه، وهي فوق ذلك في شكل البيضة تنتهي بذقن مدبب وتحس أن الرأس من عمل إزميل حفار ينحت في صخر".

وهذا مقطع لتعريف الفروقات بين التراث والجديد: "والواقع أن النقلة بين التراث والجديد، هناك وحدة وتطريب وانسجام، وهنا تشتت وصدمة وتضاد، إن أطل التطريب برأسه فعلى استحياء ولزيارة خاطفة، هناك توليف، وهنا تمزيق، هناك الابتكار أعلى من الثقافة، هنا الثقافة أعلى من الابتكار، هناك القلب غالب، هنا العقل إن لم يكن مسيطراً كل السيطرة على القلب فهو مشارك له في التعبير ومن هنا نتبين أهمية التراث، إنه لازم حتى لفهم الحديث ولا لقاء مع الحديث إلا عبر التراث".

ولأهمية هذا الكتاب رغم قلة صفحاته، فإنه يحتاج إلى مقال آخر لتبيان قيمة جزئه الثاني.

back to top